بسم الله الرحمن الرحيم
قول ابن تيمية: "كنا على مذهب الآباء نقول في الأصلين بقول أهل البدع!"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
أما بعد؛ فقول ابنِ تيميَّةَ رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (6/258): «وأنا وغيري: كنّا على مذهب الآباء في ذلك، نقول في الأصلين: بقول أهل البدع، فلمّا تبيّن لنا ما جاء به الرّسول: دار الأمر بين أن نتّبع ما أنزل اللّه، أو نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب: هو اتّباع الرّسول؛ وأن لا نكون ممّن قيل فيه: ﴿وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا﴾».
قلت: لا شكّ أنّ كلامَه هذا له توجيهٌ علميٌّ ينسجمُ مع منهجِهِ السّلفيِّ وطريقتِهِ العلميّةِ في التّلقي والتّأصيلِ.
هذا إذا علم الجميعُ: أنّ شيخَ الإسلام ابنَ تيميّة رحمه الله هو خرّيجُ بيتِ عِلْمٍ، أهْلُهُ سلفيّون دون نزاع، وحسبك بأبيه: الإمام العلامة شهاب الدّين أبي المحاسن عبد الحليم، المتوفّى سنة (682)، ثمّ بجدّه شيخ الإسلام الإمام العلامة مجد الدّين أبي البركات عبد السّلام بن عبد الله، المتوفّى سنة (652)، ثمّ دواليك حتّى العلماء الّذين تلقّى عنهم ابنُ تيميَّةَ العلمَ: هم سلفيّون في الجملة، كما أنّه لم يؤثر عن أحدهم: أنّه كان منظِّرًا لأهلِ المقالات البدعيّةِ، ولا كان من أهل الأهواء والبدع المشهورين.
وهذا ممَّا يزيدنا يقينا: أنّ ابنَ تيميَّةَ رحمه الله لم يرد بكلامه هذا: معناه العَامَّ، بل أراد به معنًى خاصًّا، كما سيأتي بيانه من خلال اعتبار عدة أمور، فمن ذلك باختصار:
الأمر الأوّل: أنَّ المرادَ بالأصلين: العقيدة وأصول الفقه، والمراد بأصول الفقه هنا: مسائل الفقه.
الأمر الثَّاني: أنّه رحمه الله أراد بكلامه هذا: الأقوالَ البدعيَّةَ العمليَّةَ لا البدعَ الاعتقاديَّةَ العلميَّةَ، كما ظنَّهُ بعضُهم! وهذا ظاهر قوله: «بقول أهل البدع»!
ويزيد ذلك وضوحًا أيضًا: أنَّهُ لم يُؤثَرْ عن ابنِ تيميَّةَ رحمه الله أنَّه قرَّر بدعةً ظاهرةً لا في مسائل الاعتقاد العلميَّةِ ولا في مسائل الفقه العمليَّةِ، وهذه كتبه وفتاواه شاهدةٌ لكلِّ ذي عينٍ وبصيرةٍ.
الأمر الثَّالث: أنَّه أراد بالأقوال البدعيَّةِ هنا: الأذكارَ والأدعيةَ الَّتي لها تعلُّقٌ غَالِبًا بمناسك الحجِّ والعمرةِ، وهي الأدعية التي دَلَّتْ عليها بعضُ الأحاديث الواهية والموضوعةِ ممَّا ظَنَّ أصحابُها أنَّها صحيحةٌ؛ فعندها نقلوها في كتبهم ولقَّنُوها طُلَّابَهم الصِّغارَ، ودَرَّسُوها أتْبَاعَهم المُقلِّدين لهم ممَّن ليسوا من أهل العلم.
الأمر الرَّابع: أنَّهُ أراد بذلك أيضًا: زياراتِ المساجدِ وما حَولَها، وغَيرَها ممَّا ذَكَرَهُ بَعْضُ المصنِّفين لكُتُبِ المناسك ممَّن جعلوا زيارتَها من سُننِ الحجِّ والعمرةِ، أو رَتَّبُوا على زيارتها فضائِلَ خَاصَّةً، وغير ذلك ممَّا ليس عليه دليل شرعيٌّ.
وهذا كلُّه ممَّا نَصَّ عليه ابنُ تيميَّةَ رحمه الله في «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (2/339) بقوله: «وقد ذكر طائفة من المصنِّفين في المناسك: استحبابَ زيارة مساجد مكَّة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحجَّ في أوَّل عمري؛ لبعض الشِّيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثمَّ تبيَّن لنا أنَّ هذا كلَّه من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشَّريعة، وأنَّ السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأنَّ أئمّة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأنَّ المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدُّعاء والطَّواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكَّةَ سِوَاهُ، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرّجل في مسجد من تلك المساجد: من دعاء وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام: كان خيرا له؛ بل هذا سُنَّةٌ مشروعةٌ، وأمَّا قصد مسجد غيره هناك تحرِّيًا لفضله: فبدعةٌ غيرُ مشروعةٍ».
وقال أيضا في «مناسك الحجِّ» له (15): «أمَّا بعد: فقد تكرَّر السُّؤال من كثير من المسلمين أن أكتب في بيان مناسك الحجِّ ما يحتاج إليه غالب الحجَّاج في غالب الأوقات، فإنِّي كنتُ قد كتبتُ منسكا في أوائل عمري، فذكرت فيه أدعية كثيرة وقَلَّدتُ في الأحكام منِ اتَّبعتُهُ قبلي من العلماء، وكتبتُ في هذا ما تبيَّن لي من سُنَّةِ رسولِ الله ﷺ مختصرا مبيِّنًا، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله العلي العظيم».
الأمر الخامس: أنَّهُ رحمه الله كان معذورا فيما قَالَ وفيما نَقَلَ من الأدعية والزيارات غير المشروعة؛ لأنَّهُ كان مُقلِّدًا لغيره من أصحاب المذاهب الفقهيِّةِ أو غيرِهِم من الشُّيوخِ، شأنه شأن غيره من أهل العلم المقلِّدين فيما ينقلونه من كتب المناسك؛ لا سيما عند نقلهم من كتب إخوانهم المتأخِّرين من أصحاب المذاهب؛ سواء كانوا من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشَّافعي أو أحمد رحم الله الجميع، في حين أنَّهُ لم يَنْجُ من هذا التَّقليد إلَّا نزرٌ يسيرٌ من العلماء ممَّن ظهر اجتهادُهُ.
وهذا الصَّنيعُ من ابن تيميَّةَ رحمه الله ممَّا يَشْفعُ له ولغيره؛ لكونه كان يجهل حقيقةَ الأمر في أوائل الطَّلبِ؛ سواء في تحقيق الدَّليلِ أو في تحرير الاستدلال؛ أمَّا إذا ظهرتِ السُّنَّةُ وبَانَ حكمُها، كان - والحالة هذه - واجبًا عليه وعلى غيره الامثتالُ للسُّنَّةِ وتركُ ما يخالفُها، وهذا ما نصَّ عليه ابنُ تيميَّةَ نفسُهُ بقوله: «فلمَّا تبيَّن لنا ما جاء به الرسول: دار الأمر بين أن نتَّبعَ ما أنزل الله، أو نتَّبعَ ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب: هو اتِّباعُ الرسولِ... إلخ».
الأمر السَّادس: - وهذا ممَّا يُستأنَسُ به! -: أنَّ نصَّ قوله في «مجموع الفتاوى»: لم يكن مقيدا بشيء من مسائل الحج والعمرة كما مضى ذكره في المصدرين السابقين، بل جاء كلامه هنا مطلقا دون قيدٍ؛ لذا كان لتخريجه اعتبارٌ آخرُ.
يَتبيَّنُ ذلك من خلال ظاهر قولِه: «وأنا وغيري: كُنَّا على مذهب الآباء في ذلك»: فذِكْرُهُ للآباء هنا: فيه إشارة على أنَّهُ رحمه الله كان على مذهب الآباءِ لا العلماءِ؛ لأنَّ مذهب الآباء يُرادُ به - عند مقابلة العلماء -: ما أُثِرَ عنهم من العاداتِ والتَّقاليدِ التي كانوا يُلقِّنُونها أبناءهم الذين لم يبلغوا سِنَّ الرُّشدِ، أي: ما يتعلَّمُونه منهم في البيوت قبل الخروج لتلقِّي العلمَ في المساجد وحلقات العلم.
في حين أنَّنا نجدُ كلامَ ابن تيميَّةَ هنا جارٍ في تحقيق مسائل العلم وذكر خلاف العلماء الكبار، فكان في اختصاص ذكره للآباء هنا: إشارةٌ إلى أنَّهُ أراد به موروثَ الآباء من تقاليدَ وعاداتٍ ممَّا ليس عليها دليلٌ صحيحٌ، والله أعلم.
الأمر السَّابع: - وهو أيضا ممَّا يُستأنَسُ به! -: أنَّهُ يَظهَرُ من كلامِ ابن تيميَّةَ هنا: أنَّهُ كان عند أخذه لهذه الأقوال التي ورثها عن الآباء: كان رحمه الله صغيرا لم يبلغ سِنَّ الرُّشدِ؛ لأنَّهُ رحمه الله قد نَبَغَ منذ صِبَاهُ كما هو معلوم؛ حيث حضر مجالس العلماء الكبار وأخذ منهم الإجازات، وهو آنذاك ابنُ تسعة أعوام، كما أنَّهُ تَصدَّر للتَّدريس والتَّأليف وهو ابنُ سَبْعَةَ عشر من عُمُره.
الأمر الثَّامن: أنَّهُ مهما ظهر من اعتذارٍ أو إنكارٍ لكلامِ ابنِ تيميَّةَ هنا؛ إلَّا إنَّ هذا الكلامَ كان منه رحمه الله في أوَّلِ الطَّلبِ، أي: قبل نبوغه ومعرفته للدَّليلِ، وقبل أن يَنبُذَ قِلادَةَ التَّقليدِ، فأمْرٌ هذا سبيلُهُ كان من أظهر ما يُعتَذرُ لابنِ تَيميَّةَ وغيره، وهذا ما نَصَّ عليه رحمه الله بقوله: «فإنِّي كنتُ قد كتبتُ مَنْسَكا في أوائل عُمُري».
وعليه، فلا مَحَلَّ للانكارِ أو الرَّيبِ فيما أبداهُ ابنُ تيميَّةَ أو تركه في أوَّلِ طلبه للعلم؛ لأنَّ العبرةَ بالنِّهاياتِ لا بالبِداياتِ!
وحسبُكَ أنَّ نِهَاياتِ ابنِ تيميَّةَ رحمه الله - عند منتصف عُمُرِه إلى وفاته -: قد بلغ فيها رُتبةَ الاجتهاد المطلق، بل إخالُهُ أضحى مُجدِّدًا للملَّةِ دون نزاع، الأمر الذي يمنعه شرعا أن يكون مُقلِّدا لأحدٍ مهما كانت مكانتُه العلميَّةُ؛ لذا كان سبيلُه العلميُّ بعدئذٍ: العقلُ الصَّريحُ والنَّقلُ الصَّحيحُ من كتابٍ وسُنَّةٍ وإجماعٍ وقياسٍ صحيحٍ، وغير ذلك ممَّا هو من مسالك الاجتهاد عند المُجدِّدين من أهل العلم، والله تعالى أعلم.
وكتبه
فضيلة الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
الطائف المأنوس
(18/ربيع الأول/1444)