نقل وتنسيق
د/ خالد سعد النجار

طبيب وكاتب مصري
alnaggar66@hotmail.com

تعد نصوص أبي داود في رسالته إلى أهل مكة من النصوص المهمة عند أهل الحديث، وذلك لما تضمنته من إشارات في بيان منهج أهل الحديث في التصحيح والتضعيف، ولمكانة أبي داود رحمه الله تعالى، مع بيان خطته في كتابه السنن، ولما كنت قد شرحت تلك الرسالة لبعض طلبة الحديث فقد لفت نظري بعض نصوص الرسالة، حتى ظننت أن فيها سقطا أو تحريفا مما حداني إلى جمع مخطوطاتها ومطبوعاتها، فتبين لي بعد البحث أن الرسالة على ضوء ما تيسر لنا من مخطوطات وما رأيت في نصوصها من إشكالات في ثبوتها عن أبي داود وقفة، وهاك أدلتي على ما أقول:
الأول: لم أر حسبما تيسر لي لهذه الرسالة بعد البحث سوى مخطوطتين بإسنادين:
المخطوطة الأولى: من محفوظات المكتبة الظاهرية، رواية الحافظ عبد الغني المقدسي بإسناده.. قال: سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جميع الغساني بصيدا فأقر به، قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفضل بن يحيى بن القاسم بن عون بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي بمكة يقول: سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد السجستاني (بالبصرة) (1) وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة وغيرها جوابا لهم، فأملى علينا: سلام عليكم.. فذكر الرسالة.
قلت: ومحمد بن عبد العزيز الهاشمي لم يترجمه- بحسب اطلاعي- إلا ابن جميع الصيداوي(2) راوي الرسالة عنه عريا عن الجرح والتعديل ولم يذكره إلا برسالته تلك، وبهذا الإسناد رواها من وقعت له كابن حجر والسيوطي وغيرهما.
المخطوطة الثانية: من محفوظات جامعة برنستون- مجموعة يهوذا- رقم: 597، أميركا، وقد عُلق إسنادها هكذا: رواها أبو جعفر أحمد بن عيسى بن ماهان الهمذاني، (قال: ني) حامد بن بشر أبو العباس، قال: أملى علي أبو عبد الله محمد بن أيوب من كتاب أبي داود بخط يده رحمه الله تعالى، قال أحمد: يعني ابن عيسى_ (وني) حمدان بن أحمد أبو الحسن التمار قال: كتب إليَّ أبو داود وهو بمكة يزيد كلام بعضهم على بعض.. وذكر الرسالة.
قلت: وأحمد بن عيسى فيه كلام شديد، فقد قال أبونعيم: صاحب غرائب وحديث كثير(3)، وقال السمعاني: تكلموا فيه وفي رواياته(4)، وذكره الذهبي في الميزان(5) لروايته حديث كذب، وأورده ابن عراق في تنزيه الشريعة(6) في أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع من رواة الأخبار.
وحامد بن بشر وحمدان بن أحمد أبو الحسن التمار لم أعثر لهما على ترجمة، وللآن لم أقف على نسخ أخرى- بأسانيد مختلفة- مع حرصي وسؤالي لأهل العلم بالمخطوطات.
الثاني: أني لم أر من تابع محمد بن عبد العزيز المكي ولا أحمد بن عيسى مع جهالة الأول وضعف الثاني على رواية تلك الرسالة عن أبي داود، وبخاصة من رواة السنن مع أهميتها القصوى في بيان منهج أبي داود في كتابه.
الثالث: أن أبا بكر بن داسة روى مثل هذا الكلام عن أبي داود فلم يذكر فيه إلا ما جاء في آخر الرسالة، فقد قال الخطيب: ..سمعت أبا بكر بن داسة يقول: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، يعنى كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانماِئَة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله: «الأعمال بالنيات»، والثاني: قوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، والثالث: قوله: «لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه»، والرابع: قوله: «الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات» الحديث(7)
وابن داسة حافظ ومن كبار رواة السنن، ولم يذكر ما ذكره محمد بن عبد العزيز الهاشمي وأحمد بن عيسى الهمداني، وهذه مخالفة شديدة، إذ كيف يهمل ابن داسة ما جاء في رواية الهاشمي وأحمد بن عيسى رغم أهميته البالغة في بيان مذهب أبي داود في السنن.
والملفت للنظر إن المزي روى هذه الرسالة في أول كتابه تهذيب الكمال قائلا: وقال أبو بكر محمد بن عبد العزيز الهاشمي المكي: سمعت أبا داود السجستاني بالبصرة وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة جوابا لهم فأملى علينا: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله "صلى الله عليه وسلم" . أما بعد: عافانا الله وإياكم، فهذه الأربعة آلاف والثمانمائة حديث كلها من الأحكام، فأما أحاديث كثيرة من الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرجها والسلام عليكم ورحمة الله وصلى الله على محمد النبي وآله(8)
فهل اختصر المزي الرسالة؟ ولماذا يختصرها وهي الأصل في معرفة منهج أبي داود في سننه وكان ينبغي أن يسوقها بكاملها، وخصوصا إن كتابه تهذيب الكمال خاص بالكتب الستة ورجالها، أم أنها وقعت إليه كذلك، ويكون محمد بن عبدالعزيز قد رواها مرة مختصرة ومرة مطولة، ومن في حال محمد بن عبدالعزيز لا يحتمل منه ذلك والله أعلم.
الرابع: أن سياق النص يظهر أن الرسالة كانت قد بعث بها إلى أهل مكة وإن أبا داود إنما سئل عن نص ما أرسله سلفا ففي أول الرسالة: .. محمد بن عبد العزيز .. بمكة يقول: سمعت أبا داود .. (بالبصرة) وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة وغيرها جوابا لهم فأملى علينا سلام عليكم... .
قلت: فظاهر السياق إنه كان قد بعثها قبل، والسؤال: أين تلك الرسالة التي بعثها وأين رواتها من مكيين وغيرهم؟ ومحمد بن عبد العزيز مكي، وقد سمع حكاية أبي داود لنص الرسالة في البصرة، ولم يوقف على روايتها عن غيره من المكيين، وسواء سمعها بالبصرة أو بمكة أو بغيرهما فالسؤال: أين المكيون من تلك الرواية وهم الذين ابتدءوه بالسؤال عن منهجه في السنن؟ أيتكلفون إرسال تلك الرسالة ثم يضربون عن روايتها بأجمعهم؟!
الخامس: أن أبا داود ما استُخْبِرَ من أهل مكة وحدها بل ومن غيرها من الأمصار، فقد قال محمد بن عبد العزيز: سمعت أبا داود.. بالبصرة وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة وغيرها..، وعبر عنها الزركشي بقوله: وقد حكى أبو داود.. في رسالته التي كتبها إلى أهل الأمصار في سبب كتابة السنن(9)، والسؤال: أين الرسائل المرسلة إلى أهل تلك الأمصار؟ حتى يتفرد بحكايتها رجل شبه مجهول، بل وعلى الهيئة السابق ذكرها.
السادس: احتواء تلك الرسالة على أشياء مناقضة لما عرف عن أهل الحديث والأثر كقول أبي داود رحمه الله تعالى: إن أهل الحديث كانوا على الاحتجاج بالمرسل حتى جاء الشافعي فتكلم فيه وتبعه أحمد وغيره، وهذا مناقض لإجماعهم على رد المرسل، فقد قال مسلم: والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالحديث ليس بحجة(10)، وقال ابن عبد البر: وقال سائر أهل الفقه وجماعة أصحاب الحديث في كل الأمصار فيما علمت: الانقطاع في الأثر علة تمنع من وجوب العمل به(11)، وهذا كالإجماع كما استظهر ابن حجر (12)، وأبو داود من كبار أهل الحديث فكيف فاته ذاك الإجماع حتى يحكي ضده تماما.
السابع: نصه على أن الشافعي يرد المرسل مطلقا وهذا مخالف لنص الشافعي في الرسالة وتصرفاته.
الثامن: نصه في الرسالة على أن الأوزاعي ومالكا يحتجان بالمرسل وهذا معارض بقول الحاكم: والمراسيل واهية عند جماعة أهل الحديث.. ومالك بن أنس الأصبحي، وعبد الرحمن الأوزاعي..(13) وهم من أئمة أهل الحديث الداخلين في دعوى مسلم الإجماع على ردهم للمرسل.
التاسع: أن الرسالة تنص على أن العلماء كانوا على الاحتجاج بالمرسل- بإطلاق- وأن الشافعي هو أول من تكلم فيه– بإطلاق- وأن أحمد تابعه على هذا الكلام، فيلزم على هذا أن الشافعي خرق إجماع الناس قبله في الاحتجاج بالمرسل، وأن أحمد تابعه على هذا، وهو القائل للميموني محذرا ومشفقا: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام(14)، وأن أبا داود تكلم بلا علم حيث إن رد العلماء للمرسل من قبل الشافعي مستفيض مشهور، وتفصيل الشافعي في المرسل في كتابه الرسالة متيقن موجود، وقد كتبها قديما لعبد الرحمن بن مهدي إبان شبابه كما يظهر في رواية جعفر ابن أخي أبي ثور: سمعت عمي يقول: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن.. فوضع له كتاب الرسالة..(15)، فهل يعقل أن أبا داود لم يطلع على رسالة الشافعي وقد طار بها أهل الحديث والعلم كل مطار؟! فإن علمت أن عبد الرحمن وأبا داود بصريان زاد استغرابك.
العاشر: وجود دعاوى في الرسالة على خلاف الواقع وذلك كقوله: .. فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه..، وهذا حصر عجيب وخطأ من جهتين:
أ – الحكم بالوهاء على كل ما خرج من سنن أبي داود من أحاديث الأحكام وهذه دعوى خطأ.
ب – الادعاء بأن أحاديث الأحكام في سنن أبي داود كافية للمجتهد وهذا أيضا خطأ.
وقد رد كلا الخطأين الحفاظ والفقهاء فقال النووي رحمه الله تعالى رادا للقول بكفاية سنن أبي داود للمجتهد: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود(16)
الحادي عشر: حكى ابن حجر في النكت أن ابن كثير قال في مختصره إنه رأى في بعض نسخ الرسالة ما نصه: وما سكت عليه فهو حسن وبعضها أصح من بعض(17)، هذا على الرغم من أن النسخة التي كانت بحوزة ابن حجر والسيوطي والنسخ التي بأيدينا ليس فيها هذا الكلام، وقد وصف ابن حجر نسخته التي بيديه بقوله: النسخ المعتمدة التي وقفنا عليها ليس فيها هذا..، ونسخة ابن حجر كما في معجمه المؤسس هي نسخة الظاهرية برواية الصيداوي، فإن صح بأن ابن كثير رأى نسخا من الرسالة فهذا اضطراب لا يخفى لمخالفته ما جاء في الروايات المتداولة بإقرار ابن حجر نفسه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أبا داود يسكت عن أحاديث ضعيفة وبعضها منكر والضعيف والمنكر لا تجامع الحسن.
الثاني عشر: أن ابن كثير لما حكى كلام أبي داود في مختصره أطلقه وما قيد بأنه في رسالته إلى أهل مكة ولا غيرها بل قال: رُوي عنه أنه يذكر في كل باب أصح ما عرفه فيه، وقال: ويروى عنه أنه قال: وما سكت عنه فهو حسن، ثم أشكل قائلا: فقوله: وما سكت عليه فهو حسن، ما سكت عليه في سننه فقط أو مطلقا؟
قلت: وهذا يفيد أن كلام أبي داود الذي ساقه ابن كثير لم يكن في الرسالة وإلا ما جاز لابن كثير أن يشكل ذاك الإشكال والرسالة أصلا وموضوعا لخطة أبي داود في كتاب السنن، ولاحظ تصديره الكلام بقوله: روي عنه، ويروى عنه، وتلك اللفظة غالبا ما تستخدم للتمريض كما هو معلوم.
الثالث عشر: أن السيوطي وهو المتوفى 905 هـ وصف الرسالة بأنها عزيزة الوجود، فقال: رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه مشهورة لكنها عزيزة الوجود فلنسقها هنا لتستفاد(18).. فإن علمنا أن وفاة ابن جميع الصيداوي والذي انتشرت عنه الرسالة كانت سنة 402 هـ، علمت ما يلقيه تعبير السيوطي بأن الرسالة نادرة الوجود من ظلال الشك على ثبوت تلك الرسالة.
وقد يشكل على ما تقدم احتمال وجود نسخ أخرى بأسانيد صحيحة ولم نقف عليها وذلك لصغر الرسالة حيث لا تبلغ وجهًا ونصف الوجه كما في نسخة برنستون، فيجوز أن تكون موجودة في وسط مجموع أو مجاميع من المخطوطات المتناثرة في أرجاء المعمورة ولم تفهرس على الوجه الأمثل.
ونقول: رغم أن هذا الاحتمال قائم فلا يصلح الاعتراض به على ما حققناه، فإن ثبت بعد ذلك أن للرسالة أسانيد أخرى صحيحة، فلهذا شأن وبحث آخر، هذا والله تعالى أعلم(19)
الهوامش
1-من تهذيب الكمال (1/136) والبحر الذي زخر (3/1113) وطبعة الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، وليست في مخطوطتي الظاهرية وبرنستون، ولا في طبعة الكوثري ولا الصباغ ولا النورستاني.
2-معجم ابن جميع الصيداوي (126)
3- أخبار أصبهان (1/117)
4- الأنساب للسمعاني (2/104)
5- تنزيه الشريعة المرفوعة (1/17)
6- ميزان الاعتدال (رقم 513)
7-تاريخ بغداد (10/78)
8- تهذيب الكمال (1/36)
9- النكت على كتاب ابن الصلاح (1/493)
10- السابق (1/30)
11- التمهيد (1/5)
12-النكت على كتاب ابن الصلاح (1/491)
13- المدخل إلى الإكليل (9) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/568)
14- المسودة (543)
15- معرفة السنن والآثار (83)
16- إرشاد الفحول للشوكاني (2/208)
17- النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/432)
18- البحر الذي زخر (3/1110)
19-هذه المقالة مختصرة من بحث طويل في تلك المسألة وقد ضمنته كتابي: التوقيف على ما في «التعريف بأوهام من قسم السنن إلى صحيح وضعيف» من الخطأ والمجازفة والتحريف، يسر الله إخراجه.