بسم الله الرحمن الرحيم
الحجر الأسود.. ما على الأرض شيء من الجنة غيره
عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال -صلى الله عليه وسلم-
( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) (1)
الحجر الأسود أشرف حجر على وجه الأرض، وهو أشرف أجزاء البيت الحرام، ولذا شرع تقبيله واستلامه، ووضع الخد والجبهة عليه، وموضعه جهة الشرق من الركن اليماني الثاني الذي هو في الجنوب الشرقي وارتفاعه من أرض المطاف متر واحد ونصف المتر، ولا يمكن وصفه الآن لأن الذي يظهر منه في زماننا ونستلمه ونقبله إنما هوثماني قطع صغيرة مختلفة الحجم أكبرها بقدر التمرة الواحدة، وأما بقيته فداخل في بناء الكعبة المشرفة، ويروى أن القطع تبلغ خمس عشرة قطعة إلا أن القطع السبع الأخرى مغطاة بالمعجون الذي يراه كل مستلم للحجر وهو خليط منالشمع والمسك والعنبر موضوع على رأسالحجر.
أما طوله فقد رآه (محمدبننافع الخزاعي) يوم اقتلعه القرامطة في القرن الرابع الهجري ورأى السواد في رأسه فقط وسائره أبيض وطوله قدر ذراع، وأول من طوق الحجر الأسود بالفضة (عبد الله بن الزبير) صوناً له وتتابع من بعده الخلفاء والأغنياء، وكانآخر من أهداه إطارا قبل قيام الدولة السعودية السلطان (محمد رشاد خان) سنة 1331هـوكان من الفضة الخالصة، وقد أصلح الملك (عبد العزيز آل سعود) من هذا الطوق، ثم في عام 1375هـ بدل الملك سعود الإطار السابق بآخر من الفضة الخالصة.
وقد وقع حادث على الحجر الأسود في آخر شهر محرم عام 1351هـ عندما اقتلعت قطعة منه، فعمل الأخصائيون مركبا كيماويا وأضيف إليه المسك والعنبر وبعد أن تم تركيب المركب الكيماوي أخذ الملك عبد العزيز رحمهالله قطعة الحجر بيده ووضعها في محلها تيمناً.
قال -صلى الله عليه وسلم-:
- ( الحجر الأسود من حجارة الجنة ) (2)
- ( نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ) (3)
- ( إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله تعالى نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ) (4) يعني بالركن ههنا: الحجر الأسود، وسمي ركنا لأنه مبني في الركن.
- ( إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا ) (5)
- ( لولا ما مس الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي، وما على الأرض شيء من الجنة غيره ) (6)
وعن عابس بن ربيعة رحمه الله، قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك ". أخرجه الجماعة (7).
وفي رواية لمسلم والنسائي " ولكن رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بك حفيا " أي شديد السرور في غاية اللطف والاعتناء وبارا به. ويستحب أن يخفف القبلة بحيث لا يظهر لها صوت ويقول عند الاستلام: ( باسم الله والله أكبر ) وعن ابن عباس [ أنه قبله وسجد عليه وقال: رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبله وسجد عليه ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل هكذا ففعلت ] (8)
قال الحافظ ابن حجر: قال الطبري: إنما قال ذلك عمر، لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر تعظيم بعض الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه إتباع لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته، كما كانت تعتقده في الأوثان.
ثم قال... وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في إتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاد، أن يبادر إلى بيان الأمور ويوضح ذلك (9).
من هنا يظهر أن تقبيل الحجر الأسود ليس على سبيل التعظيم والتعبد، وإنّما هو على سبيل الحبّ، كما يُقَبِّل أحدُنا أولادَه وزوجتَه. فلو كان التقبيل دليلاً على التعظيم والتعبد،لاستلزم أن الجميع يعبد أولاده وزوجته. ومن الواضح أنّ ذلك غير معقول ؛ فعُلِمَ أن التقبيل لا يستلزم العبادة والتعظيم ؛ فقد يكون مصدره الحبّ.
وقد أبان هذه الحقيقةَ سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على رؤوس الأشهاد ؛ ولو كان الحجر معبودًا، لما قال له عمر -رضي الله عنه-: "إنك لا تضر ولا تنفع" ؛ فعُلِمَ أن الدافع إلى تقبيله هو الحبّ
أما قوله -صلى الله عليه وسلم- ( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) قال البيضاوي: شبه خلق الحياة والنطق فيه بعد أن كان جماداً لا نطق فيه بنشر الموتى وبعثها، ولا امتناع فيه فإن الأجسام متساوية في الجسمية وقبول الأعراض التي منها الحياة والنطق، واللّه قادر على جميع الممكنات، لكن الأغلب على الظن أن المراد منه تحقيق ثواب المسلم وأن سعيه لا يضيع وأجره لا يفوت، والمراد بالمستلم بحق من استلم اقتفاء لأثره وامتثالاً لأمره. وقال الطيبي: ويشهد للوجه الأول شهادة لا ترد، تصدير الكلام بالقسم وتأكيد الجواب بالنون لئلا يظن خلاف الظاهر، و" على" في قوله -صلى الله عليه وسلم- (يشهد على من استلمه بحق ) مثلها في قوله تعالى{ ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة143) أي رقيباً حفيظاً عليكم، فالمعنى يحفظ على من استلم أحواله شاهداً ومزكياً له، ويجوز أن يتعلق (بحق) بقوله (يشهد) أي يشهد بحق على من استلمه بغير حق كالكافر والمستهزئ ويكون خصمه يوم القيامة، ويشهد بحق لمن استلمه بحق كالمؤمن المعظم لحرمته.

الهوامش والمصادر
(1) رواه الترمذي وابن ماجة (صحيح) حديث رقم: 5346 في صحيح الجامع (2) (سمويه) عن أنس (صحيح) حديث رقم: 3175 في صحيح الجامع (3) رواه الترمذي عن ابن عباس. (صحيح) حديث رقم: 6756 في صحيح الجامع (4) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو (صحيح) حديث رقم: 1633 في صحيح الجامع (5) رواه أحمد عن ابن عمر (صحيح) حديث رقم: 2194 في صحيح الجامع (6) سنن البيهقي عن ابن عمرو (صحيح) حديث رقم: 5334 في صحيح الجامع (7) البخاري 3/369 في الحج: باب ما ذكر في الحجر الأسود، وباب الرمل في الحج والعمرة، وباب تقبيل الحجر، وأخرجه مسلم رقم (1270) في الحج: باب استحباب تقبيل الحجر الأسود (8) قال الألباني في إرواء الغليل 4/310 صحيح (9) فتح الباري 3/370

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com