▪ الفقيه الذي يستحق اسم الفقه هو من امتلك تلك النظرة الشمولية المترامية لعلم الفقه المنزل على الواقع
فتراه مزج أصول الشريعة وقواعد الفقه مع فروعها ثم خلط ذلك كله بالفتوى وأحكامها مازجا جميع ذلك بالواقع الذي يعيشه
فبات فقيه البدن والنفس
▪ ولا يخفى على أكثر الفقهاء والمتفقه وعلماء الشرع اليوم أن معرفة الواقع وفقهه لم تكن أكثر تأثيرا في الفقه والفتوى وأحكامهما في زمن أكثر منه في زماننا
وذلك لما حصل فيه من انفتاح واختلاط وتصادم في الحضارات والعادات والأخلاق الدولية العالمية
واشتراك في المصالح والنظم والقوانين السياسة والاقتصادية الدولية العالمية
▪ وليس المراد بفقه الواقع هنا هو فقه واقع مسألة معينة فحسب
فإن هذا إن كان كافيا في الأزمان السالفة فإنه لم يعد كافيا في زماننا هذا
بل على الفقيه اليوم أن يعرف الواقع العام لدولته وللعالم كأشهر قضايا السياسة الدولية والعالمية
والخطوط العريضة للاقتصاد الدولي والعالمي الذي تقوم عليها أغلب النظم الاقتصادية الدولية اليوم
لأنه لا يصح له أن يفتي في القضايا السياسة الكبرى مثلا وهو جاهل بواقع السياسة الدولية والعالمية
وكذا لا يصح له أن يحرم معاملة مالية عمت بها البلوى أو يحلل ظاهرة اقتصادية دولة أو عالمية وهو جاهل بواقع الاقتصاد الدولي والعالمي
▪ وقد نظرت في أكثر ما يجب على الفقيه والمفتى اليوم أن يعرفه من فقه وأحوال الواقع الذي يعيشه
فوجدت أن واقع الاقتصاد العالمي هو أوجب ما عليه معرفته والسؤال عنه
لشدة ارتباطه كليا وجزئيا بالفتوى
ولكثرة النوازل في المعاملات المالية والمصرفية والبنكية وشدة ارتباطها بالفقه وأحكام المفتي
فهل الفقيه العارف بواقع الاقتصاد الدولي والعالمي مثله مثل ذاك الفقيه الذي لا يعرف ذاك الواقع عندما يفتيان في هذه المعاملات أو في تلك الظواهر الاقتصادية وكبار المعاملات البنكية؟
ولذلك اصطلح أهل الفقه في هذا الزمن على علم الاقتصاد الإسلامي ورغبوا بالاهتمام به والتخصص فيه ووضعوا فيه المصنفات حتى بات عندهم علما مستقلا وفرعا بارزا من أهم فروع الفقه الإسلامي
▪ ولا شك أن فهم الاقتصاد الاسلامي بعيدا عن الاقتصاد الوضعي يوقع الفقيه في حرج كبير بل يمنع الاستفادة منه
لأن اقتصاد دولة الفقيه اقتصاد وضعي
واقتصاد العالم الذي يعيش فيه اقتصاد وضعي
وقد تقرر أن من شروط الفقيه والمفتي معرفة الواقع وفقهه
كما تكلم في ذلك بعض أهل العلم الأقدمين
وتقدم أن زماننا يوجب على الفقيه معرفة الواقع أكثر من غيره من الفقهاء السالفين لما وصفنا من حال هذا الزمان
وأنه يتوجب عليه ليكون أقرب لإصابة الحق أن لا يقتصر على معرفة فقه واقع مسألة بعينها وحسب بل عليه أن يعرف الواقع الكلي العالمي والدولي
فظهر أن الفقيه الذي يعرف الاقتصاد الوضعي مع الاقتصاد الإسلامي أقرب لإصابة الحق في أحكامه وفتاويه من غيره ممن عرف الاقتصاد الإسلامي فقط
▪ ومما هو معلوم عند أهل الاقتصاد أنه لا سبيل لمعرفة الاقتصاد العالمي والدولي إلا بدراسة الاقتصاد الجزئي والكلي
والاقتصاد الجزئي عندهم هو المتعلق بالفرد والمجتمع
والكلي هو المتعلق بالدول
▪ وليس المقصود هو التخصص في علم الاقتصاد الوضعي فإنه علم كبير وعميق مترامي الأطراف
وأيضا ليس المقصود هو معرفة الاقتصاد العالمي والدولي أجمع والتخصص في ذلك كما نجده اليوم من الاقتصاديين المتخصصين
ولكن المراد معرفة الخطوط العريضة في كليهما وأخذ أشهر المعادلات والنظريات المتعارف عليها في هذا العلم وبين أهله مع متابعة كثير من التحاليل الاقتصادية ومتابعة الأزمات الاقتصادية.
▪ ولا يفوتني هنا أن أنبه على أن هذا القدر المطلوب معرفته من هذا العلم يمكن تحصيله خارج الجامعات وقد سألت بعض المختصين فأقر ذلك
ولا شك أن طالب العلم لو التحق بإحدى كليات الاقتصاد لكان أسهل عليه وأقصر لهذا الطريق
كما لا شك أن من لم يتيسر له الالتحاق بإحدى الكليات يحتاج أن يراجع أهل الاختصاص فيما أشكل عليه
ولا يخفى أن علم الاقتصاد ليس من العلوم العلمية البحتة كالهندسة والطب بل هو علم من العلوم الاجتماعية لأنه في الحقيقية توصيف لسلوك اجتماعي
نعم فيه نسبة أقرب للعلوم البحتة كالجزء المقرر من علم التفاضل والتكامل
لكن هذه النسبة قليلة
كما المطلوب معرفته من هذا العلم لا يحتاج إلى تخصص كتخصص أهله كما أسلفنا
هكذا قرر لي بعض أهل الاختصاص في علم الاقتصاد
▪ وبالجملة:
لا بد من اشتراط معرفة الواقع وفقهه في رتبة الفقيه والمفتي المجتهد
وهذا أحسبه لا خلاف فيه
وإنما قد يقع الخلاف في توصيف هذا الفقه الواقع المشروط معرفته والقدر المطلوب منه
وأرى أن زماننا يحتم اشتراط قدرا أكبر من معرفة هذا الفقه لاختلافه عن باقي الأزمنة السالفة
وأن من ذلك : معرفة الواقع العالمي خاصة في الجانبين الاقتصادي والسياسي
وأن علم الاقتصاد خاصة الكلي العالمي لو اشترطنا معرفته في رتبة الفقيه والمفتي لما أبعدنا عن الصواب
وأن هذا يتأكد في زماننا أكثر من غيره
كما اشترط العلماء معرفة الحساب لعلم الفرائض
وكما اشترطوا معرفة قدر لا بأس به من علوم العربية
فإن لم يصح ذلك وعسر
فأرى إدخال هذا العلم ضمن العلوم الملحقة بالعلوم الشرعية كعلوم اللغة ونحوها
وقد بينت القدر المطلوب معرفته للفقيه من هذا العلم
▪ وفي الختام :
أحث طلبة العلم على الاعتناء بعلم الاقتصاد الإسلامي والتخصص فيه
فإنه علم شريف اشتدت الحاجة إليه في هذا الزمن
وهو علم غض طري يحتاج إلى دراسات وبحوث كثيرة
وتجديد وإبداع ورد ودفاع عن هذا العلم وإثبات أحقية وصوابية هذا الاقتصاد في مقابلة الاقتصاد الوضعي
كما أدعوا وأحث طلاب الاقتصاد المتخرجين من كليات الاقتصاد الجامعية التخصص في الاقتصاد الإسلامي
فإنهم أحرى بالإبداع فيه وإثرائه وترقيته.
والله أعلم