نفع الله بكِ أم علي
نفع الله بكِ أم علي
قال - رحمه الله -: وفي الحديث: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، فسئل عنه فقال:((الرياء)).
والرياء قسمان: رياء المسلم، ورياء المنافق.
فرياء المنافق: رياء في أصل الدين، يعني: أنه راءى بإظهار الإسلام، وأبطن الكفر، قال تعالى:{ يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.
ورياء المسلم الموحِّد: مثل أن يُحسِّن صلاته؛ من أجل نظر الرجل، أو أن يُحَسِّن تلاوته؛ لأجل التسميع؛ ليُمدَح ويُسمع، لا لأجل التأثير.
فالرياء: مشتق من الرؤية، فجهته الرؤية، ومن صوره: أن يحسن العبادة لأجل أن يرى من المتعبدين كأن يطيل في صلاته، أو يطيل في ركوعه، أو في سجوده، أو يقرأ في صلاته أكثر من العادة، لأجل أن يرى ذلك منه، أو يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه: إنه يقوم الليل. فهذا كله شرك أصغر.
والشرك الأصغر - الذي هو الرياء - قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها فيه.
فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به: وإذا ابتدأ النية بالرياء، كمن يصلي الراتبة لأجل أن يرى أنه يصليها، وليست عنده رغبة في أن يصليها، لكن لما رأى أنه يُرَى صلاها؛ ولأجل أن يمدح؛ لما يرى من نظر الناس إليه، فصلاته هذه حابطة ليس له فيها ثواب.
لكن إذا عرض الرياء له في أثناء العبادة فيكون ما زاده لأجل الرؤية باطلا كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
فالشاهد من حديث الباب: قوله - عليه الصلاة والسلام -:((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) فهو أخوف الذنوب التي خافها النبي - عليه الصلاة والسلام - على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد، فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر، فيكون أشد ما يُخاف عليهم هو الشرك الأصغر.
والشرك الأصغر تارة يكون في النيات، وتارة يكون في الأقوال، وتارة يكون في الأعمال، يعني أنه يكون في القلب، وفي المقال، وفي الفعال، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف كل واحد من هذه الثلاثة.
فيدل قوله - عليه الصلاة والسلام -:( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) أنه أخوف الذنوب على هذه الأمة. لكن لماذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعظم الذنوب خوفا؟
الجواب: أنه كان كذلك لأجل أثره، وهو أنه لا يغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه. والشيطان حريص على إيقاع أهل التوحيد في الشرك الأصغر، ووصمهم بالرياء في الأقوال، والأعمال، والنيات. وفرحه بذلك أعظم من فرحه بغيره من الذنوب.
ثم بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود فقال: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار).
وجه الاستدلال منه: أنه قال: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا) ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء عبادة، وهو من أعظم العبادات؛ فقد جاء في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة)، وفي معناه حديث أنس الذي في السنن، ولفظه (الدعاء مُخُّ العبادة). فهو أعظم أنواع العبادة، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئا منها لند من الأنداد، فقد استوجب النار.
وقوله: (دخل النار): يعني كحال الكفار، فيكون خالدا فيها؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر: فإنه يحبط عمله بذلك، ولو كان أصلح الصالحين، وقد قال - جل وعلا - لنبيه: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} فالله عظيم، والله أكبر، وخلقه كلهم محتاجون إليه، وعبيد له - سبحانه -، بمن فيهم أفضلهم: وهم الأنبياء والمرسلون، فلو فرض أنْ أشرك نبينا صلى الله عليه وسلم لحبط عمله، ولكان في الآخرة من الخاسرين، أفلا يوجب هذا أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحض عليه ويُكَرِّه ويُبَغِّض في التوحيد وحال هؤلاء، كما قال الله - جل وعلا - عن أسلافهم: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون}.
فوجه الاستدلال ظاهر - إذًا - في قوله صلى الله عليه وسلم (من مات، وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار)، وأنه يوجب الخوف، لأن قصد المسلم، بل قصد العاقل: أن يكون ناجيا من النار، ومتعرضا لثواب الله في الجنة.
ولفظ: (من دون الله) يكثر وروده في القرآن والسنة، ويراد به عند علماء التفسير، وعلماء التحقيق شيئان:
1 - أن تأتي بمعنى (مع)، فيكون معنى: (من دون الله) أي مع الله، وعبَّر عن المعية بلفظ (من دون الله)؛ لأن كل من دُعي مع الله، فهو دون الله - جل وعلا - فهم دونه، والله - جل وعلا - هو الأكبر، وهو الأعظم، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم.
2 - أن تأتي بمعنى (غير) فيكون معنى: (من دون الله) أي: يدعو إلها غير الله، يعنـي أنه لم يعبد الله، وأشرك معه غيره، بـل دعا غيره استقلالا.
فشملت (من دون الله) الحالين: من دعا الله ودعا غيره، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالا.
قال: ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار).
تقدم قريبا أن قوله: (لا يشرك به شيئا) فيه نوعان من العموم: عموم في أنواع الشرك؛ويدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي؛ لأن لفظة: " يشرك " نكرة، وعموم - أيضا - في المتوجه إليهم وهو المُشْرَك بهم كما يدل عليه قوله (شيئا) لأنه - أيضا - نكرة في سياق النفي.
فمعنى قوله:(من لقي الله لا يشرك) نفي لجميع أنواع الشرك.
فمعنى قوله:( به شيئا) أي: لم يتوجه بالعبادة لأي أحد، لا لملك، ولا لنبي، ولا لصالح، ولا لجني، ولا لطالح، ولا لحجر، ولا لشجر، ولا غير ذلك.
قوله:(دخل الجنة): يعني أن الله - جل وعلا - وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه وتفضله، وبوعده الصادق الذي لا يُخلَف.
قوله:(ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار) أي: أن كل مشرك متوعَّدٌ بالنار، ووجه الدلالة مستقيم مع استدلال الشيخ بالآية؛ لأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر، أو الأصغر، أو الخفي: فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار والعياذ بالله.
قوله:(من لقيه يشرك به شيئا) فيه عموم أيضا كما ذكرنا؛ لأن (من) هنا شرطية، و (يشرك) نكرة، فتكون عامة لأنواع الشرك، و (شيئا) عامة في المتوجَّه إليهم.
فإن قيل:علام يدل قوله:(من لقيه يشرك به شيئا دخل النار)؟ هل يدل على أنه دخول أبدي، أو أمدي؟
فالجواب:أن ذلك بحسب نوع الشرك، فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولا أبديا، وإن كان الشرك أصغر، أو خفيا فإنه يكون متوعدا بالنار أي: سيدخل النار ويخرج منها؛ لأنه من أهل التوحيد.
وهل يدخل الشرك الأصغر في الموازنة أو لا؟ تقدم الجواب أن الشرك الأصغر يدخل في موازنة الحسنات والسيئات، وأنه إذا رجحت حسناته فإنه لا يعذب على الشرك الأصغر لكن هذا ليس في حق كل أحد من الخلق، فإن منهم من يعذب على الشرك الأصغر؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست شاملة لكل الخلق، وليست شاملة أيضا لكل الذنوب، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار، ولو رجحت الحسنات على السيئات فإنه يستوجب الجنة. ولكن لا بد من أن يطهر في النار،وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك؛ لأن قوله:(من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار)يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فعلى المرء أن يطلب الهرب من الشرك بجميع أنواعه، ويسعى إلى ذلك جهده.
وعلى المرء - أيضا - أن يستعيذ بالله - جل وعلا - من الشرك الأصغر والخفي، بقوله: " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلم ". لأنه إذا علم فأشرك، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه، وهو: عدم المغفرة، ففي هذا الدعاء، الذي علمناه رسولنا - عليه الصلاة والسلام - التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم، والشرك الأصغر مع الجهل؛ ولذا قال: { أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه }؛ لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم فيجب أن يستعيذ المرء بالله من أن يشرك به شركا أصغر فما هو أعلى منه من باب أولى، وهو يعلم.
ثم قال:( وأستغفرك مما لا أعلم ) قد يقع في الشرك الأصغر أو الخفي، وهو لا يعلم، ويظهر شيء من ذلك على فلتات لسانه، وهو لا يقصد، ولمثل ذلك شرع هذا الدعاء.
فهذا يدل على أن الشرك أمره عظيم، فلا يتهاونن أحد به ؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد، فإنه يكون، فإنه يكون متهاونا بأصل دين الإسلام، بل يكون متهاونا بالذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة سنين عددا، بل يكون متهاونا بدعوة الأنبياء والمرسلين؛ فإنهم اجتمعوا على شيء واحد، وهو العقيدة، وتوحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وأما في الشرائع فلكل واحد شرع خاص به في الغالب.
لهذا وجب علينا الحذر كل الحذر من الشرك بأنواعه، وأن تتعلم ضده، وأن تتعلم أيضا أفراد الشرك، وأفراد التوحيد، وبذلك يتم العلم، ويستقيم العمل.
وأما تعلم ذلك على وجه الإجمال، فهذا كما يقال: نحن على الفطرة، لكن إذا أتت الأفراد فربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك، وهم لا يشعرون؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك، نسأل الله جل وعلا العفو والعافية.
فاحرص - إذًا - على تعلم هذا الكتاب ومدارسته، وعلى كثرة مذاكرته، وفهم ما فيه من الحجج والبينات؛ لأنه أفضل ما تودعه صدرك، بعد كتاب الله - جل وعلا - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلعله أن يكون - إن شاء الله - سببا عظيما من أسباب النجاة والفلاح.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
الشرح:هذا الباب هو (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)، أي: باب الدعوة إلى التوحيد. وقد ذكر في الباب قبله (باب الخوف من الشرك)، وقبله ذَكَرَ (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، و(باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب).
ولما ذكر بعده (باب الخوف من الشرك): اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في نفس الموحد، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه: بأن عرف فضله، وعرف معناه، وخاف من الشرك، واستقام على التوحيد، وهرب من ضده، هل يبقى مقتصرا بذلك على نفسه، ويضنّ به على غيره، وهل تتم حقيقة التوحيد في قلبه إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم، ألا وهو إفراده - جل وعلا - بالعبادة وبما يستحقه سبحانه وتعالى من نعوت الجلال، وأوصاف الجمال؟.
الجواب: طبعا لا، لذا بوب الشيخ -رحمه الله- بهذا الباب؛ ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك، ومن تمام التوحيد: أن يدعو المرءُ غيره إلى التوحيد؛ فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله عُلِمَت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وشهادته معناها: اعتقاده ونطقه وإخباره غيره بما دلت عليه، فلا بد -إذًا تحقيقًا للشهادة، وإتمامًا لها- أن يكون المكلَّف الموحِّد داعيا إلى التوحيد.
لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله.ثم إن له مناسبة أخرى لطيفة، وهي: أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان لأفراده، وتفسير للشرك وبيان لأفراده، فتكون الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك.
وهذا من المهمات، لأن كثيرين من المنتسبين للعلم -من أهل الأمصار- يسلمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد، أو جاء التفصيل في بيان أفراد الشرك، فإنهم يخالفون في ذلك، وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس بحقائق أفراد التوحيد، وأفراد الشرك.
فالذي تميزت به دعوة الإمام المصلح رحمه الله أن الدعوة فيها إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية، ليست إجمالية، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون ممن يقولون: نهتم بالتوحيد ونبرأ من الشرك، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك.
والذي ذكره الإمام -رحمه الله- في بعض رسائله أنه لما عرض هذا الأمر -يعني الدعوة إلى التوحيد- على علماء الأمصار قال: وافقوني على ما قلت، وخالفوني في مسألتين: في مسألة التكفير، وفي مسألة القتال.
وهاتان المسألتان سبب مخالفة أولئك العلماء للشيخ، لأنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد، والنهي عن أفراد الشرك.
فالدعاء -إذًا- إلى شهادة لا إله إلا الله هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة، وفي الربوبية، وفي الأسماء والصفات عن الله - جل وعلا - وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية؛ ولهذا فصل الإمام - رحمه الله - في هذا الكتاب أنواع التوحيد، وأفراد توحيد العبادة، وفصَّل الشرك الأكبر والأصغر، فبين أفرادا من ذا وذاك.
وسيأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده؛ لأنه (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله).
قال - رحمه الله -:(وقول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}).
هذه الآية من آخر سورة يوسف هي في الدعوة إلى الله، وسورة يوسف - كما هو معلوم - لِمَنْ تَأَمَّلَها هي في الدعوة إلى الله؛ من أولها إلى آخرها، فموضوعها - إذا - الدعوة؛ ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في بيان حال الدعاة إلى الله، وحال الرسل الذين دعوا إلى الله، وما خالف به الأكثرون الرسل، واستيئاس الرسل من نصرهم ونحو ذلك من أحوال الدعاة إلى الله. وفي آخر تلك السورة قال الله - جل وعلا - لنبيه: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة} أي: سبيلي ومنهجي: أنني أدعو إلى الله، فمهمة الرسل هي: الدعوة إلى الله - جل وعلا -.
فأحسن الأقوال: قول من دعا إلى الله، وأحسن الأعمال: عمل من دعا إلى الله - جل وعلا -؛ ولهذا قال سبحانه: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} قال الحسن البصري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ما معناه: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله من خلقه، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، هذا حبيب الله. .
وهذا أمر عظيم؛ فالداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا كما دلت عليه الآية السابقة.
وموطن الشاهد من قوله: {هذه سبيلي أدعو إلى الله} هو قوله:{أدعو إلى الله}، فإنه دعاء إلى الله - جل وعلا - لا إلى غيره، وفي هذا فائدتان:
الأولى: أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده، ودعوة إلى دينه، كما سيأتي تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها: حديث ابن عباس رضي الله عنه في إرسال معاذ إلى اليمن، وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في إعطاء علي الراية.
فدل قوله - جل وعلا -: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله} على الفائدة الأولى - كما تقدم - وهي أن الدعوة إلى الله فيها دعوة إلى التوحيد.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، والدعاء إلى الإسلام، يعني أن الداعي إلى الإسلام يحتاج أن يكون مخلصا في ذلك؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في مسائل هذا الباب: في قوله: {إِلَى اللَّهِ} التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
وقوله في الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ} البصيرة: هي العلم، وهي للقلب كالبصر للعين يبصر بها المعلومات والحقائق، فكما أنك بالعين تبصر الأجرام والذوات، فإنك ببصيرة القلب والعقل تدرك المعلومات، والمعنى: أنه دعا على علم، وعلى يقين، وعلى معرفة، لم يدعُ إلى الله على جهالة.
وقوله تعالى: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يعني: أدعو أنا إلى الله وكذلك من اتبعني ممن أجاب دعوتي، فإنهم يدعون إلى الله أيضا على بصيرة، وهذا أيضا من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب؛ لأن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله.
فالمتبعون للرسل - عليه الصلاة والسلام - والموحدون لله: لا بد لهم من الدعوة إلى الله، بل هذه صفته صلى الله عليه وسلم وصفتهم التي أمر الله نبيه أن يخبر عنها،
فقال {قل} يعني: يا محمد: {هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} فهذه إذًا خصلة أتباع الأنبياء الذين لم يخافوا من الشرك فحسب، ولم يعلموا التوحيد ويعملوا به فحسب، بل دعوا إلى ذلك،
وهذا أمر حتمي ولازم؛ لأن من عرف عِظَم حق الله - جل وعلا - فإنه يغار على حق الرب سبحانه وتعالى، وكيف لا يغار على مولاه، وعلى حق من أحبه فوق كل محبوب من أن يكون توجه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات؟!.
فلا بد أن يدعو إلى أصـل الدين وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلون، ألا وهو توحيده -جل وعلا- في عبادته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته جل وعلا.
وهذا إن دل على شئ ،فيدل على فقه هذا الإمام العلامة رحمه الله رحمة واسعة .
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ: عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [مَا اسْتَعَاذَ بِكَ] [مِنْهُ] عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ.
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا "
آمـيـن
ثم ساق الإمام - رحمه الله - حديث ابن عباس أنه قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله):
هذا موطن الشاهد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يكون أول ما يدعو إليه هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وفسَّرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، وهي بلفظ: (إلى أن يوحدوا الله).
فالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله مأمور بها، وهي: الدعوة إلى التوحيد. فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر معاذا أن يدعو أهل اليمن، وكانوا من أهل الكتاب، يعني: من أهل الكتاب المُتَعبدين بالتوراة والإنجيل، فبعضهم كان من اليهود، وبعضهم من النصارى، أما المشركون فيهم فهم قليل، وأكثرهم كان على إحدى الملتين.
قال العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ:(إنك تأتي قوما أهل الكتاب) فيه توطين وتوطئة للنفس بأن يهيئ نفسه لمناظرتهم، وقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه من العلماء بدين الإسلام، ومن علماء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقال له عليه الصلاة والسلام ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم ولدعوتهم، ثم أمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه أن يوحدوا الله - جل وعلا -.
وفي إعراب قوله: (فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله) وجهان:
الأول: برفع قوله: (أولُ) على أنه اسم لـ (يكن)، ونصب قوله (شهادة) على أنه الخبر. فيكون المعنى على هذا الوجه: أنه أخبره عن الأولية، فابتدأ بالأولية ثم أخبره بذلك الأول.
الثاني: بنصب قوله: (أولَ) على أنه خبر لـ (يكن) مقدم، ورفع قوله (شهادة) على أنه اسمها مؤخر، فيكون المعنى على هذا الوجه: الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يُدعى إليه.
وهذان الوجهان جائزان. والمشهور هو الوجه الثاني يعني: بجعل (أول) منصوبة؛ وذلك لأن مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم، وهو المقصود؛ ليلتفت السامع والمتلقي - وهو معاذ - إلى ما يُراد منه أن يُخْبَر به من جهة الشهادة.
فموطن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة إيراده في الباب: هو ذكر أن التوحيد هو أول ما يدعى إليه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
ثم ساق في الباب أيضا حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ))لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ((فبات الناس يدوكون ليلتهم ...).
قوله: (بات) البيتوتة هي: المكث في الليل سواء أكان نوم أو لم يكن.
ومعنى قوله: (يدوكون ليلتهم) أي: يخوضون في تلك الليلة، و (باتوا) يعني ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم، لِعِظَمِ هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام.
قال: ... (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به فبصق في عينيه، ثم دعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية،فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام... )).
فقوله: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام...)) هذا هو موطن الشاهد والمناسبة من إيراد هذا الحديث في الباب.
قال: ((ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه)). فالدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضم إليها عليه الصلاة والسلام أيضا أن يدعوهم إلى حق الله فيه، يعني: إلى ما يجب عليهم من حق الله فيه.
فقوله: (( وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه...)) يعني في الإسلام، من جهة التوحيد، ومن جهة الفرائض، واجتناب المحرمات؛
ولهذا يجب أن تبدأ بالدعوة أولا إلى أصل الإسلام، وهو: التوحيد، وبيان معنى الشهادتين ثم بيان المحرمات، والواجبات؛ لأن أصل الأصول هو أولى الواجبات بالتقديم.
ومما يلاحظ - هنا - أن آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة كانوا دعاة إلى الله - جل وعلا - وإلى التوحيد، وحديث معاذ يبين أن معاذا كان من الدعاة إلى الله، وقد فصل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله جل وعلا وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علي،فيه أيضا الدعوة إلى الإسلام، فيكون هذان الحديثان كالتفصيل لقوله في الآية: {أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}
فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وهي الدعوة إلى توحيده وإلى الإسلام، وما يجب على العباد من حق الله فيه.
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
سبق بيان أن التوحيد هو: شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال العلماء: إن العطف في قوله: " التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " من عطف المترادفات.
ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود، أعني: الترادف الكامل، لكن ترادف ناقص موجود فيكون هذا - إذًا - من قبيل عطف المترادفات التي يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.
وقوله هنا: " باب تفسير التوحيد " يعني: الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد، وقد تقدم أن التوحيد هو: اعتقاد أن الله - جل وعلا - واحد في ربوبيته لا شريك له، واحد في إلهيته لا ند له، واحد في أسمائه وصفاته لا مِثْل له، سبحانه وتعالى، قال -جل وعلا-: {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير}، وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا، فالتوحيد - إذًا - هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.
قوله: "... وشهادة أن لا إله إلا الله " يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة هي أعظم كلمة قالها مكلَّف، ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبَّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.
والشهادة تارة تكون شهادة عن حضور وبصر، وتارة تكون شهادة عن علم، بمعنى أنه: إما أن يشهد على شيء حضره ورآه، أو يشهد على شيء علمه، فهذان معنيان للشهادة. فإذا قال قائل: أشهد، فيحتمل أنها بمعنى: المشاهدة والرؤية ويحتمل أنها بمعنى العلم. ومعنى الشهادة في قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، شهادة علمية؛ ولهذا تضمن قوله: أشهدُ، العلمَ.
والشهادة في اللغة، والشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شهد) كقـوله:
{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. وكقوله: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به، والاعتقاد بما شهده فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة من علم ويقين؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلا إذا كان ثمَّ علم ويقين.
الثاني: التكلم بها، فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقادا؛ فإنها تقتضي - أيضا - إعلاما ونطقا.
والثالث: الإخبار بذلك، والإعلام به، فينطق بلسانه، وهذا من جهة الواجب، ويخبر غيره بما شهد، وهذا من جهة (الشهادة).
فيكون معنى: أشهد أن لا إله إلا الله: أعتقد وأتكلم، وأعلم، وأخبر: بأن لا إله إلا الله. فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد، وافترقتْ كذلك عن حال القول، كما افترقت - أيضا - عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد لتحققها من حصول الثلاثة مجتمعة؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.