قيل الكثير عن ابن حزم في مسألة التأفيف,و سخروا منه من أجل ما ذهب إليه, لكن في الحقيقة , ابن حزم لم يجامل أحدا على حساب دينه, بل جاهر بما اعتقده أنه الحق,و لو سخر منه الناس,و كفى بهذا بيان قدر هذا العالم العبقري.
قال الله عز و جل "فلا تقل لهما أف"
قال ابن حزم: أما قول الله تعالى:"فلا تقل لهما أفّ" فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما و لا قتلهما,و لما كان فيها إلا تحريم قول"أفّ" فقط.انتهى
و قال أيضا في التقريب:
و كذلك قوله تعالى :"فلا تقل لهما أف",فإنّه لا يفهم من هذا اللفظ إلّا منع "أفّ" فقط, و أمّا القتل و الضّرب و غير ذلك فلا منع منه في هذا اللفظ أصلا,لأنّ كل ذلك لا يسمّى "أفّ" و لا يعبّر عنه بأفّ".انتهى
و قال مخالفوه, أن قوله عز و جل"فلا تقل لهما أف" فيه إشارة إلى نهي ضربهما و شتمهما ,
قلت:إن ابن حزم لا يذهب إلى تحريم ضرب الوالدين و شتمهما, بل إلى وجوب الإحسان إليهما, إلا أن هذا ليس بدليل قوله عز و جل"فلا تقل لهما أف" ,
فلقد قال في الإحكام:
و لكن لمّا قال الله تعالى في الآية نفسها :"و بالوالدين إحسانا,إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما و قل لهما قولا كريما, واخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا", اقتضت هذه الألفاظ من الاحسان و القول الكريم و خفض الجناح و الذل و الرحمة لهما و المنع من انتهارهما, و أوجبت أن يؤتى إليهما كل بر و كل خير و كل رفق, فبهذه الألفاظ و بالأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه و بكل معنى, و المنع من كل ضرر و عقوق بأي وجه كان. انتهى
و الحق مع ابن حزم في هذا و إليك البرهان:
ابن حزم أنكر على من نهى عن الضرب من الآية و فقط و ليس من مجموع الأدلة, أما مخالفوه الذين يرون أنه يمكن أن نستفيد حكم النهي عن الضرب من الآية فقط فهم مخطئون, فإنهم جمعوا عدة أدلة بدون أن يشعروا,
فنقول لهم: قولوا لنا, لماذا نهيُ الله عز و جل عن قول الأف فيه إشارة إلى النهي عن الضرب؟
فسيقولون :لأن الأذى الذي يسببه قول الأف, أقل من الأذى الذي يسببه الضرب,
فنقول لهم:هذا فيه نظر, لكن سنسلم الأمر, و ماذا في هذا؟و ما دخل الأذى في كلامنا هذا,
لو كان هذا الأذى شيء أمرنا به الله عز و جل, لكان نهيه عن القول لهما "أف" فيه إشارة إلى أن نضربهما, لأن الضرب فيه الأذى أكثر من الأف, فيكون النهي عن الأف إشارة إلى البحث ما يوجد فيه خير أكثر و هو الضرب الذي يوجد فيه الأذى أكثر,
فسيقولون لنا: لكن ايذاء الوالدين نهى الله عز و جل عنه, فنقول لهم:ما هو دليلكم؟
فإما سيقولون:دليلنا:" لا تقل لهما أف", فيقال لهم هذا دور,
و إمّا أنهم سيقولون:قال الله عز و جل"و بالوالدين إحسانا" و كل ما دل على و جوب بر الوالدين,
فحينئذ نقول لهم:ألم يكفيكم قوله عز و جل"فلا تقل لهما أف"؟فلقد احتجتم بعدة أدلة لتثبتوا أن النهي عن قول الأف فيه إشارة إلى النهي عن الضرب,
ثم نذكر ما يردده كثيرا مخالفو ابن حزم :و هو ماذا يقول أهل الظاهر فيمن لا يحفظ إلا الفاتحة و قوله عز و جل"و لا تقل لهما أف",هل يضرب والديه لعدم معرفته بدليل تحريم الضرب؟
فنقول لهم:لا يجوز أن يضرب والديه,لكن قبل أن نفصّل في هذا, نسألهم :ماذا يقول أهل القياس فيمن لا يحفظ إلا الفاتحة, هل يضرب والديه لعدم معرفته بالأصل الذي يقيس عليه؟
أما حرمة ضرب الوالدين فمنهي عنه و لو لم يعلم أدلة النهي عن الضرب من الكتاب و السنة,بل لا يجوز له أن يضرب أي أحد لم يعتد عليه,لأن هذا علم ضروري, فلو اعتقد أنه له ضرب أحد, لجوّز لغيره أن يضربه, و جوز لزيد أن يضرب عمرا,و جوّز لعمرو أن يضرب زيدا,و سنمشي في الطرقات و كل واحد يضرب آخر , و جائز لكل واحد أن يضرب صاحبه إلى أن يموت, و من رأى أن هذا جائز التحق بالمجانين,و لم يكن الكلام مع هذا فائدة.
و من قال ماذا لو لم يكن نص إلا قوله عز و جل"فلا تقل لهما أف",هل سيحرم الضرب؟
فيقال لهم:إن قصدتم لم يكن نص يحرم فيه الاعتداء فهذا تصوّر مذموم,فهو كمن قال:ماذا لو كان نص يأمر بضرب الوالدين, أو ماذا لو كان نص يأمر بقتل الناس,أو ماذا لو كان نص يبيح لمسلم الزنا بوالديه, و لستم بأحسن من قال:ماذا لو لم يكن نص إلا قوله عز و جل"فلا تقل لهما أف", هل سيحرم على أحدنا ضرب أخيه؟
ثم هل سيحرم التبرم منهما , و التبرم أقل أذى من الأف؟
فهذا يدخل تحت مسألة الأصل في الأشياء هل الإباحة,أو الحرمة أو التوقف؟و ليس لها علاقة بقوله عز و جل"فلا تقل لهما أف"فهذه اللفظة لا يفهم منها وحدها حرمة ضرب الوالدين, كما لم يفهم منها حرمة ضرب الأخ
و الحمد لله رب العالمين.