تعارُض الوصل والإرسال في الحديث
رَوَى هذا الحديثَ عن الزهريِّ اثنان، أحدهما أرسله والآخر أسنده. وهذا الاختلاف بين الطريقين هو مِن قبيل العلل القادحة، والسبيل إلى معرفة الصواب في حال الاختلاف هو الترجيح. وقد أنكرَ الشيخُ السكران التميمي أنَّ يكون هذا الاختلافُ مؤثراً، لأنَّه جَعَلَ طريقَ موسى بن عقبة حديثاً آخر غير حديث يونس بن يزيد. يقول: ((وقد أخطأ مَن جعل مخالفة موسى بن عقبة هي مخالفة لنفس هذا الوجه، بل ما رَوَىَ موسى إلا رواية جابر رضي الله عنه للقصة من طريق الزهري، وذلك في (المغازي ص254) حيث رواها عن الزهري مرسلا منقطعاً. وهذه الرواية شاهدة للحديث معنا كما سيأتي بإذن الله. وعليه فلا يحسن جعل طريق موسى علة يضعف بها الحديث ويرد، فلا وجه للمخالفة هنا)). اهـ
قلتُ: بل المخالفة قائمة، وبها قال ابن حجر عند كلامه على هذا الحديث. فبعد أن ذكر رواية يونس عن الزهري، قال في التغليق: ((وخالفه موسى بن عقبة، فرواه في المغازي عن ابن شهابٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. لم يَذكر عروة ولا عائشة)). اهـ فلو كان طريق موسى بن عقبة حديثاً آخر غير حديث يونس، لَمَا كان لِتَنصيصِ ابنِ حجر على مخالفة موسى ليونس معنى!
ثُمَّ مَن قال إنَّ موسى لَمْ يَرْوِ القصة عن الزهريِّ إلاَّ مِن رواية جابر بن عبد الله! القصةُ رواها موسى عن الزهري مرسلةً مِن أولها إلى آخرها، إلاَّ فقرةً واحدةً أسندها عن جابر وهي احتجامه صلى الله عليه وسلم. وَما قَبْلَ الاحتجام وما بعده فهو عن الزهري مرسلاً. وهذا واضحٌ في قولِ ابن حجر أيضاً في الفتح:((ووَقَعَ في مغازي موسى بن عقبة عن الزهريِّ مرسلاً: "ما زلتُ أجد مِن الأكلة التي أكلتُ بخيبر عداداً، حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري")). اهـ ولو كان عن جابر كما فهم الأخ التميمي لذكره.
وهذه هي رواية موسى بن عقبة عن الزهريِّ بتمامها:
((لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقَتَل مَن قتل منهم، أهدت زينب بنت الحارث اليهودية - وهي ابنة أخي مرحب - لصفية شاةً مصليةً، وسَمَّتها وأكثرت في الكتف والذراع لأنه بلغها أنه أَحَبُّ أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية، ومعه بشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة، فقدَّمت إليهم الشاة المصلية. فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عظماً فانتهش منه. فلمَّا استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته، استرط بشر بن البراء ما في فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم! فإنَّ كتف هذه الشاة يخبرني أنْ قد بُغيت فيها". فقال بشر بن البراء: "والذي أكرمك، لقد وجدتُ ذلك في أكلتي التي أكلتُ، فما منعني أن ألفظها إلاَّ أنِّي أعظمتُ أن أنغصك طعامك! فلمَّا أسغتَ ما في فيك، لم أكن أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوتُ أنْ لا تكون استرطتَها وفيها بغيٌ". فلم يقم بشر مِن مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان، وماطله وجعه حتى كان لا يتحوَّل إلى ما حوِّل.
قال الزهريُّ: قال جابر بن عبد الله: "واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكاهل يومئذٍ، حَجَمَه مولى بياضة بالقرن والشفرة".
وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين، حتى كان وجعه الذي توفِّي فيه. فقال: "ما زلتُ أجد مِن الأكلة التي أكلتُ مِن الشاة يوم خيبر عدداً، حتى كان هذا أوان انقطع الأبهر مني". فتوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً)). اهـ مِن الدلائل.
قلتُ: الجزء الذي رواه الزهري عن جابر عند موسى بن عقبة إنما هو الاحتجام لا خبر الأبهر. وقد دلَّنا على ذلك أيضاً مَا أخرجه أبو داود في سننه مِن طريق يونس بن يزيد، والدارمي في سننه من طريق شعيب بن أبي حمزة، كلاهما عن الزهري قال: ((كان جابر بن عبد الله يُحدِّث أن يهوديةً مِن أهل خيبر سمَّت شاةً مصليةً)) الحديث بطوله. وفي آخره: ((واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله مِن أجل الذي أكل مِن الشاة، حَجَمَه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة مِن الأنصار)). اهـ فبانَ أنَّ حديث الأبهر لمْ يروه الزهريُّ عن جابر كما قال الشيخ التميمي، وإنما أرسله.
قال الشيخ محمد بن عبد الله: ((يونس أقوى وأصح حديثاً عن الزهري من موسى بن عقبة، فلا يصح إثبات التعارض بتقابل روايتيهما)). اهـ قلتُ: أشرنا قبلُ أنَّ حديث يونس لا يُعرف إلا عن عنبسة بن خالد وهو مُتكلَّمٌ فيه، وقد قال الساجي: ((رَوى عن يونس أحاديث انفرد بها عنه)). اهـ فالحمل إذن إنما هو على عنبسة لا يونس. هذا أولاً. وأمَّا ثانياً، فإنَّ بعض الأئمة جعل حديث موسى بن عقبة عن الزهريِّ مِن أصحِّ ما يُروى في المغازي. قال يحيى بن معين: ((كتاب موسى بن عقبة عن الزهريِّ مِن أصحِّ هذه الكتب)). اهـ وقال الحاكم: ((وقد ذكر جماعةٌ مِن الأئمة أنَّ أصحَّ المغازي كتاب موسى بن عقبة عن ابن شهابٍ)). اهـ وقد كان يتحرَّى الدقة فيما يرويه عن الزهري، فكان يقول له: ((افصل كلامك عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم)). اهـ
إذن نحن نقارن رواية موسى بن عقبة عن الزهري المرسلة برواية يونس عن الزهري التي تفرَّد برفعها عنبسة، ومِن هنا كان الترجيح. فموسى ذكر حديث الزهري بطوله، وعنبسة اقتصر على آخره. وموسى أرسله عن الزهري، وعنبسة أسنده عن عائشة. فمِن ثَمَّ كان حديث موسى عن الزهري في المغازي مقدَّماً على تفرُّد عنبسة عن يونس وتفرُّدُه ليس على شرط الصحيح.
وخلاصة القول هنا أنَّ حديث الأبهر ليس بحُجَّةٍ عند البخاريِّ لأمرين:
الأول: أنه علَّقه ولم يصل إسناده، فخرج بذلك عن أن يكون مِن موضوع الكتاب.
والثاني: أنه لا يُعرف مسنداً إلا مِن طريق عنبسة بن خالد، والبخاريُّ لا يُخرج له منفرداً، فخرج بذلك عن أن يكون على شرط البخاريِّ في الصحيح.
فإذا ضممتَ إلى هذا الأمر عدمَ إخراج مسلمٍ للحديث في صحيحه ولا أحدٍ مِن الأربعة، وكذا كَوْنَ الحديث وردَ مرسلاً مِن طريقٍ أخرى: علمتَ أنَّ إعلاله ليس مجازفةً ولا تهوُّراً.
هذا والله أعلى وأعلم