حدث بها خلف بن محمد بن إسماعيل أبو صالح البخاري الخيام عن أبي بكر محمد بن حريث الأنصاري قال:
سمعت الفضل ابن العباس الرازي (فضلك) وسألته فقلت : أيهما أحفظ أبو زرعة أو محمد بن إسماعيل فقال لي :لم أكن التقيت مع محمد بن إسماعيل فاستقبلني ما بين حلوان وبغداد قال فرجعت عنه مرحلة قال وجهدت الجهد على أن أجئ بحديث لا يعرفه فما أمكنني .
قال وأنا أغرب على أبي زرعة عدد شعره . ا.هـ
خرجها الخطيب وابن عساكر في تاريخهما
وهذه الحكاية في نظري منكرة :
فمن أين لفضلك الرازي أن يغرب على أبي زرعة هذا العدد الكثير من الأحاديث
وأبو زرعة أحفظ أهل عصره وهو أحفظ من فضلك الرازي وأمثاله من الحفاظ كصالح جزرة وابن واره ومسلم
وإنما أبو زرعة معدود في رتبة البخاري وأبي حاتم رحم الله الجميع
وإنما تقبل هذه الحكاية ولا تستنكر إذا كان الإغراب بحديث أو حديثين
وذلك أن الإغراب في تلك الأعصار على الحفاظ لا يكاد يقع وإذا وقع إنما يقع في حديث أو حديثين إلى عشرة أحاديث كحد أقصى
وذلك لحصر الطرق وبسطها والاشتراك فيها وجمعها وتصنيفها بعد تتبعها التتبع التام من قبل حفاظ الحديث في تلك الأعصار وأئمة المدارس الحديثية المعروفة
وهذا أحسبه مقررا عند أهل الحديث
فهذا أبو حاتم أغرب على الذهلي عشرة أحاديث فقط من أحاديث الزهري وهذه حالة شاذة لا يقاس عليها أيضا لإمامة أبي حاتم وسعة حفظه ولأن الذهلي متخصص في حديث الزهري فالإغراب عليه فيه من أندر النوادر
وهذا أحمد بن حنبل وقرينه أحمد بن صالح المصري الحافظان الكبيران تذاكرا مرة فلم يستطع أحدهما أن يغرب على الآخر حتى أغرب عليه ابن حنبل في آخر المجلس بحديث واحد فقط وكان منكرا
فإن أكثر الغرائب مناكير
وأعجب من ذلك:
ما فعل أبو حاتم الرازي إذ قال : قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: منأغرب على حديثا غريبا مسندا صحيحا لم أسمع به فله علي درهم يتصدق به وقد حضر على باب أ ابي الوليد خلق
من الخلق أبو زرعة فمن دونه، وانما كان مرادى ان يلقى علي ما لم أسمع به فيقولون هو عند فلان فأذهب فأسمع وكان مرادي أن استخرج منهم ما ليس عندي فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب على حديثا.
ومن أجل هذا وغيره قال الحافظ الذهبي عندما تكلم عن التفرد:
(وإن كان من أصحاب الأتباع قيل : غريبُ فَرْد ، ويَنْدُرُ تفرُّدهم ، فتجدُ الإمامَ منهم عندهَ مِئتا ألف حديث ، لا يكادُ ،ينفرد بحديثينِ ثلاثة .
ومن كان بعدَهم فأين ما يَنفرِدُ به ما علمتهُ وقد يوُجَد . ا,هـ
ولا شك أن الإغراب والتفرد في طبقة أحمد وابن المديني نادر جدا وفيما بعدهم من طبقة البخاري أندر والفرق بين الطبقتين لا يكاد يذكر
وإنما يتصور الإغراب في الطبقات المتقدمة كمثل قصة شعبة مع أبي حصين ونحوها
والله أعلم
والمقصود أن الإغراب في زمن أبي زرعة لا يكاد يقع سواء كان المُغرب هو البخاري أو من في رتبته ولو وقع فإنما هو في حديث أو حديثين فقط
فكيف تصح حكاية فضلك الرازي هذه
وهو دون أبي زرعة في الحفظ
ويزعم فيها أنه أغرب عليه عددا كثيرا من الأحاديث لا حديثا أو حديثين
وحفظ البخاري وحفظ أبي زرعة متقاربان
فإن قيل : قد علمنا نكارة الحكاية فبمن تعصب الجناية؟
قلت: بخلف بن محمد البخاري الخيام فإنه على كثرة روايته وحديثه فقد اتهموه بالوضع وعدم الأمانة ولينوا أمره وتبرؤوا منه بعد روايتهم عنه وقالوا: العهدة عليه
فيظهر والله أعلم أن الحكاية من كيسه لما عرفنا من حاله
وقد ينضاف إلى هذا أمر آخر وهو:
أن خلفا هذا بخاريٌّ روى كثيرا من أخبار وثناء على البخاري
وقد وقع بين أبي زرعة والبخاري ما هو معروف بعد مسألة اللفظ
فلعل خلف أراد بوضع هذه الحكاية الحط من أبي زرعة على حساب رفع رتبة البخاري
والله أعلم
ولا أرى رد جميع ما روى خلف خاصة فيما يحكيه من حكايات إلا إذا كان متنها منكرا والله أعلم
فالحاصل : أن الحكاية منكرة بمجموع هذه الأمور والدلائل
تنبيه: قد يظن بعض الناس أن لا فائدة كبيرة في تضعيف هذه الحكاية إذ فضل كل من أبي زرعة والبخاري وحفظهما بائن لا خلاف فيه
وليس كذلك
فإن المقصود من تضعيف الحكاية واستنكارها هو التنبيه على قواعد وفوائد في باب التفرد من علم العلل والحديث وبيان أن هذه الحكاية تصادم المقرر في هذا الباب ولا يصح الاحتجاج بها على خلاف مسائل هذا الباب
والله أعلم