الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين أما بعد: مما لا شك فيه أنَّ الخشوع فيها واجب من واجباتها ومطلب نفيس عند المؤمن ، الخشوع هو روح الصلاة ولبها حتى قال ابن القيم رحمه الله " فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه" الوابل الصيب ص19 . الخشوع قيام بين يدي الله بالخضوع والذل ومحله القلب وثمرته على الجوارح والأعضاء وهي تابعة للقلب فإذا فسد خشوعه بالغفلة والوساوس فسدت عبودية الأعضاء والجوارح فالقلب ملك والأعضاء جنوده به يأتمرون وعن أمره يصدرون فإذا عزل الملك بفقد القلب لعبوديته ضاعت الجوارح وأمَّا التظاهر بالخشوع فممقوت وهو خشوع النفاق عن أبي الدرداء أنه قال " تعوذوا بالله من خشوع النفاق قال قيل يا أبا الدرداء وما خشوع النفاق قال أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع " الزهد لأحمدج1ص142 ومصنف ابن أبي شيبة35711 والخشوع في الصلاة إنَّما يحصل لمن فرَّغَ قلبه لها وآثرها على غيرها وعندها تكون راحة وقرة عين له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاَةِ )) المسند 14069والنسائي 3940 عن أنس رضي الله عنه . الخشوع واجب وشأنه عظيم وفقده سريع ووجوده نادر خاصة في هذا الزمن الذي فسدت فيه أحوال الكثير وهو أول علم يرفع ويفقد عن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ قال " لَأُحَدِّثَنَّك َ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ من الناس الْخُشُوعُ يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فلا تَرَى فيه رَجُلًا خَاشِعًا " الترمذي 2653وصححه الحاكم338 وقال حذيفة رضي الله عنه " أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وربَّ مصلٍّ لا خير فيه ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعا " المدارج1ص521
إخواني : كثيرا ما نرى أقواما يتقدمون غيرهم إلى المساجد لأداء الصلاة ويحرصون على ذلك فترى الواحد منهم في روضة المسجد يتلو آيات الله أو يسمعها فيكبر في عينك ويسمو في اعتبارك ثم لا تلبث أن تفاجأ بهذا الرجل نفسِه الراكع الساجد القارئ السامع يرتكب المعاصي والآثام ويتعدى حدود الله غير هياب ولا وجل فيغش ويخدع وينم ويغتاب ويكذب ويشتم ويدخل آلات اللهو وأجهزة الفساد إلى بيته فيأخذ منك العجب كل مأخذ كيف يجتمع هذا وذاك ؟ كيف يجتمع الحرص على الصلاة مع معصية الله والانحراف عن سبيله ؟ وحق لك التساؤل ما بال بعض الناس يصلون فلا تأمرهم صلاتهم بالمعروف ولا تنهاهم صلاتهم عن المنكر والفحشاء ؟ أليس الله يقول (( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )) ؟ فما بال صلاته لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ؟ ما بال تلك الصلاة لا تحجزه وتردعه ؟ إن كلام الله حق لا شك فيه ، إذا فلماذا يندر في الناس الر جل الخاشع ؟ لماذا هذا المصلي يتأمل الجدران ويهيم في الوديان ولا يجهز خططه وأفكاره لأمور دنياه إلَّا وهو واقف بين يدي خالقه ومولاه في الصلاة ؟ لماذا يخرج من المسجد مسرعا بعد الصلاة فلا يذكر الله بعدها ويستغفره من تقصيره فيها فضلا عن أن يأتي بسنن الصلاة ورواتبها ؟ لماذا يؤم المساجد كثيرون فيركعون ويسجدون ويقومون ويقعدون ثم يخرجون كما دخلوا بقلوب قاسية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ؟ أيها المسلمون: لعلكم تتطلعون إلى معرفة السبب والجواب واضح وهو أن هؤلاء يؤدون صلاة لا روح فيها ولا طمأنينة ولا خشوع ، لقد استحوذ عليهم الشيطان والهوى فلم يرو من صلاتهم إلَّا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً بينما قلوبهم خاوية وأرواحهم بالدنيا وشواغلها متعلقة ونفوسهم بالمال والأهل مشغولة فلا ركوع فيه يعتدلون ولا سجود فيه يطمئنون ولا بآية مما سمعوا أو قرءوا يتعظون ، إن صلاتَهم فقدت روحَها ولبَّها ألا وهو الخشوع ، فصلاتُهم ليست الصلاة التي عناها المولى بقوله (( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )) إنَّ الصلاة التي عناها المولى هي الصلة بين العبد وربه ، هي الخشوع والخضوع بين يدي الله ومتابعة الإمام وعدم موافقته أو مسابقته ، هي الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم وصلَّاها أصحابه من بعده ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، قال وهب بن منبه رحمه الله في قوله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )) المراد به ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا إذ بين فيه العلة فقال حتى تعلموا ما تقولون وكم من مصل لم يشرب خمرا وهو لا يعلم ما يقول في صلاته " إحياء علوم الدين للغزالي ج1ص150. لقد أسكرته الدنيا بشهواتها وملذاتها .
وللحديث بقية في رسائل أخرىوصلى الله وسلم على محمد وصحبه .