عبد الرحيم الوهيبي / كاتب سعودي
إن أحد هؤلاء الفضلاء لا يستكثر أن ينفق سنتين في تحقيق أحكام الطهارة وتتبع الأقوال والآثار، وهذا أمر جيد، ولكنه يستكثر تخصيص شهرين لفهم واقع سياسي أو اجتماعي معقد، ويكتفي في هذا المجال بانطباعات شخصية أو مقالات صحفية.
حينما يكون الفصام النكد عند طالب العلم، بين مكتبته الشرعية الزاخرة بكتب المتقدمين والمتأخرين، وبين تفاصيل واقعه السياسي والاجتماعي، تبرز على مسرح المجتمع مواقف المشايخ الفضلاء وفتاويهم المؤيدة للاستبداد والطغيان ...
والحديث هنا لا يتعرض لما اصطلح على تسميته "عمائم السلاطين"، ولكن القضية التي أرغب بتسليط الضوء عليها هنا، هو ذلك الأنموذج من طلبة العلم، والذي قد لا ينقص أحدهم الإخلاص "نحسبه والله حسيبه"، كما لا ينقص أحدهم العلم الشرعي، كضبط المتون واستحضار أقوال الفقهاء في عامة أبواب الفقه، بل وربما عرف من سيرتهم، كثرة التعبد والتعفف عن تقبل أعطيات الوجهاء والأغنياء..ولكن مع كل هذه السيرة العطرة، ربما وجدت أقوال هذا الرجل أو مواقفه وفتاويه، تشكل "الذخيرة الحية" التي يستهدف بها المصلحون للمجتمع .......والمحتسبون على أهل الاستبداد....
ربما استبعد بعض الناس إمكانية وجود هذا الصنف من طلبة العلم، ولكني عشت تجربة في مجال عملي، أكدت لي وجود هذه النوعية من طلبة العلم، وكثيراً ما تتجلى حقائق واقعنا السياسي والفكري من خلال دوائر صغيرة في مجال عملنا أو قضية رأي عام مثيرة أو حدث اجتماعي له أبعاده الإعلامية...
وفيما يتعلق بتجربتي، عشت مع زملائي حالة استبداد مزرية من قبل مديرنا المباشر، كان الرجل أنموذجاً للموظف العربي، الذي ما إن يتسنم إدارة هيئة أو مؤسسة حكومية، حتى يلحقها ببقية أملاكه الخاصة......
فهو يقصي هذا ......ويقرب هذا.....ويعفو عن هذا.....ويعاقب ذاك، دون الرجوع لأية معايير شرعية أو نظامية ...، سلكت في البداية أسلوب الحوار والخطاب اللطيف، لبيان أهمية العدل بين الموظفين، دون أن ألقى سوى الاستعداء والاستهداف.......
ثم نشبت أزمة بين معظم الموظفين وبين المدير، بسبب أنه كان يعمد لإراحة بعض الأسماء المقربة منه، وتكليفها بمهمات سهلة يسيرة، بخلاف نظرائهم من الموظفين...... شكلت مع مجموعة من زملائي موقفاً موحداً، لمجابهة لنقاش المدير ومجابهته وإلزامه بتطبيق النظام بالمساواة بين الموظفين في العمل دون التمييز......فمن يا ترى كان العقبة الكؤود أمامنا؟؟
شيخ فاضل وطالب علم، يحفظ الكثير من المتون في كافة التخصصات الشرعية، يفتي الناس في شئونهم المختلفة، وقف مناقشاً لنا في أحد الاجتماعات، ليطبل للمدير المستبد من حيث لا يشعر، وحينما أظهرت له أن أفعال الرجل لا يقتضيها شرع منزّل أو قانون مرّسم! قال لي: إن المدير يعد نائباً عن ولي الأمر، ويجب علينا أن نثق به، وأن نعلم أنه لم يبعد هذا أو يقرب هذا، إلا لمصلحة هو يراها، وأنه ربما كان له نظرة كمدير تختلف عن نظرة الموظفين......ولم يتوقف عند هذا، بل أحالني إلى كتب الفقهاء، التي تشير إلى أن لنائب ولي الأمر، أن يفعل ما فيه مصلحة...!!!
قلت له: شيخنا الفاضل، هل من حق هذا المدير أن يقصي المجتهدين ويقرب البطالين، فيوكل لزيد أعمالاً تكلفه جهداً متواصلاً منذ أن يأتي حتى ينصرف، وزميله المساوي له في الوظيفة تتم إراحته، ولا يكلف إلا بأعمال لا تستهلك سوى 10% من وقته الوظيفي......ثم بعد ذلك تمنعنا من مجرد سؤال هذا المدير ومناقشته!! فإن كان الرجل قام بهذا التصرف لمصلحة تخدم العمل خفيت علينا ...فهلا أوضحها لنا ببيان أو اجتماع؟؟ وإن كان هؤلاء البطالين الذين قربهم يقومون بأعمال جبارة غير ظاهرة، فهلا جلاها وأبان دخائلها ...حتى يقتنع المقهورون......ويص مت المستضعفون؟؟
إنك أيها الشيخ الفاضل، تشرع الاستبداد بهذا الفقه الأعوج..؟؟؟
فعندما نحاججك في ظلم المدير، أخذت في ذكر المسوغات الفضفاضة العائمة ...فإن نقضناها بصريح الشرع وصحيح العقل ونصوص النظام....هرعت لإهداء هذا المدير صك احتكار "الحكمة" و"المصلحة"، التي يجهلها كافة موظفيه ومرؤوسيه بما فيهم شخصكم الكريم..... فهل كان هذا المدير "إلهاً" لا يسُأل عما يفعل، حتى صورت لنا أنه قد يعمل عملاً، وإن كان ظاهر الفساد والظلم، فإن له فيه حكمة لا نعلمها..!!
أين نحن من منهج السلف الصالح الذين وقف أحد عامتهم ليحاسب أمير المؤمنين عن ثوبه الذي يلبسه...ونحن هنا لن نسأل المدير عن قيمة ثوبه، ولا عما حواه بطنه، ولا عن خبايا مكتبه، الذي تعج أدراجه بقرابين الكذب والنفاق والاحتيال...؟؟؟ ولكننا شيخنا الفاضل إن سلمنا معك بنظر هذا المدير الثاقب فلم تعتب علينا إن طالبنا أن يظهر أنوار عبقريته مكللة، بما يدعمها من الشرع المطهر أو حتى نصوص النظام!!
إن الخلط من قبل هذا الشيخ الفاضل وأمثاله، يتركز في أمرين:
أولاً: عدم تحقيق كلام الفقهاء في المسألة، إذ إن الفقهاء تكلموا عن مواصفات وخصائص الولاة الذين تعهد إليهم هذه الثقة، والتي يسبغها صاحبنا على كل أحد.
ثانياً: غياب الإطلاع على الواقع بتعقيداته ومستجداته، والاستهانة بهذا الركن الذي لا يصح للفقيه أن يتخذ موقفاً شرعيا،ً دون الاجتهاد في معرفته، لا الاكتفاء بنظرة سطحية عابرة .
إن أحد هؤلاء الفضلاء لا يستكثر أن ينفق سنتين في تحقيق أحكام الطهارة وتتبع الأقوال والآثار، وهذا أمر جيد، ولكنه يستكثر تخصيص شهرين لفهم واقع سياسي أو اجتماعي معقد، ويكتفي في هذا المجال بانطباعات شخصية أو مقالات صحفية.
إن "البلية" في هذا الصنف أكبر، و"الفتنة" فيه أعظم، إذ إن السيرة الذاتية لهؤلاء الفضلاء، تعزز موقفهم لدى الناس، سيما وأن أقوالهم ومواقفهم تتناسق مع ما جُبل عليه بعض الناس من إيثار السلامة والرضا بالواقع المرير، بخلاف شيوخ المستبد، الذين تمجهم عقول عامة الناس، إذ إنهم يرون بأعينهم المغانم العاجلة التي يغنمها القوم من فتات المستبد، ولهذا فالمستبد يحرص على الإبقاء على الأنموذج الأول، لأنه الأكثر قبولاً والأقل كلفة...!!!
_________________
مجلة العصر
http://www.alasr.ws/index.cfm?method...*******id=9544
من الجيد إن كان ثمة مناقشة لأراء الكاتب أن تكون في نفس الرابط الذي وضعته .