".....ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذة صغيرة حقيرة غير كبيرة من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس ، فلعله يصيب منها اليسير ، فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
فالتمست للإنسان مثلا ، فإذا مثله مثل رجل نجا من خوف فيل هائج إلى بئر ، فتدلى فيها، وتعلق بغصنين كانا على سمائها ، فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر، فإذا حيات أربع قد أخرجن رءوسهن من أحجارهن، ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه، فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض ، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه ، إذ أبصر قريبا منه كوارة فيها عسل نحل، فذاق العسل فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يذكر أن رجليه على حيات أربع لا يدري متى يقع عليهن ، ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين ، ومتى انقطعا وقع على التنين، فلم يزل لاهيا غافلا مشغولا بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك.
فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشرورا ، ومخافات وعاهات، وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن، فإنها متى هاجت أو أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت، وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض الليل والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل، وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه ، وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس ، ويتشاغل عن نفسه ، ويلهو عن شأنه ، ويصد عن سبيل قصده.
فحينئذ صار أمري إلى الرضا بحالي وإصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي لعلي أصادف باقي أيامي زمانا أصيب فيه دليلا على هداي، وسلطانا على نفسي، وقواما لأمري"
من كتاب: كليلة ودمنة.