المزهر في علوم اللغة وأنواعها - السيوطي

قال القالي في أماليه : حدثنا أبو بكر قال أخبرنا عبد الرحمن قال : سمعت عمي يحدث أن أبا العباس ابنَ عمه - وكان من أهل العلم - قال : شهدت ليلة من الليالي بالبادية وكنت نازلاً عند رجل من بني الصَّيداء من أهل القَصيم فأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق فأتيت أبا مَثْواي فقلت : إني قد هَلعْت من الغربة واشْتَقْتُ أهلي ولم أُفدْ في قَدْمتي هذه عليكم كبيرَ علم وإنما كنت أغْتَفر وحشة الغربة وَجَفاء البادية للفائدة فأظهر توجُّعاً ثم جفاء ثم أبرز غداء فتغديت معه وأمر بناقة له مَهْرية فارتحلها واكْتَفلها ثم ركب وأرْدَفَني وأَقْبَلَهَا مَطْلع الشمس فما سرنا كبير مسير حتى لَقيَنَا شيخٌ على حمار وهو يترنم فسلّم عليه صاحبي وسأله عن نسبه فاعْتَزَى أسدياً من بني ثعلبة فقال : أتُنشد أم تقول فقال : كُلاًّ فقال : أينَ تُؤم فأشار بيده إلى ماء قريب من الموضع الذي نحن فيه فأناخ الشيخ وقال لي : خذ بيد عمك فأنزلْه عن حماره ففعلت فألقى له كساء ثم قال : أنشدنا - يرحمك الله - وتصدَّق على هذا الغريب بأبيات يَعيهنّ عنك ويذكرك بهن فقال : إي ها الله إذاً !


ثم أنشدني : [ - من الطويل - ]

( لقد طال يا سوداء منك المواعد *** ودون الجَدَا المأمول منك الفَراقدُ )
( تمنيننا غداً وغيمكَم غداً *** ضَبابٌ فلا صحوٌ ولا الغيم جائد )
( إذا أنت أُعْطيتَ الغنى ثم لم تَجُدْ *** بفَضْل الغنى أُلْفيتَ مالَك حامدُ )
( وقلّ غَناءً عنك مالٌ جمعته *** إذا صار ميراثاً ووَاراك لاحد )
( إذا أنت لم تَعْرُك بجنبك بعض مَا *** يريبُ من الأدْنى رَمَاك الأباعدُ )
( إذا الحلم لم يَغلب لك الجهلَ لم تزل *** عليك بُرُوقٌ جَمّةٌ ورواعد )
( إذا العزم لم يَفرُج لك الشّدّ لم تزل *** جنيباً كما استتلى الجنيبة قائد )
( إذا أنت لم تترك طعاماً تحبُّه *** ولا مَقْعَداً تُدعى إليه الولائد )
( تجللّت عاراً لا يزال يشُبُّه *** سباب الرجال : نثرهم والقصائد )


وأنشدني أيضاً : [ - من الطويل - ]

( تعزّ فإن الصبر بالحرّ أجمل *** وليس على رَيْب الزمان مُعَوَّل )
( فلو كان يغني أن يُرى المرءُ جازعاً *** لنازلة أو كان يُغْني التَّذَلُّلُ )
( لكان التعزّي عند كل مصيبة *** ونازلةٍ بالحرّ أوْلَى وأجْمَل )
( فكيف وكلٌّ ليس يعدو حمامَه *** وما لامرىءٍ عما قضى الله مَزْحَل )
( فإن تكن الأيام فينا تبدَّلت *** ببُؤْسَى ونعمى والحوادث تفْعل )
( فما ليَّنَتْ منا قناة صليبة *** ولا ذلّلَتْنا للتي ليس يَجْمُل )
( ولكن رَحَلْناها نفوساً كريمة *** تُحَمَّل ما لا يستطاع فتحمل )
( وقَيْنَا بعزم الصبر منَّا نفوسَنَا *** فَصَحَّتْ لنا الأعراض والناس هُزَّل )

قال أبو بكر قال عبد الرحمن قال عمي : فقمت والله وقد أنسيت أهلي وهان علي طول الغربة وشظف العيش سروراً بما سمعت، ثم قال لي : يا بُنيَّ ! مَنْ لم تكن استفادةُ الأدب أحبَّ إليه من الأهل والمال لم يَنْجُب
_____________انتهى.