تقع اللاّئمة عند الحديث عن الإرهاب على أنظمة ظالمة مستبدّة تستثمر كلّ وسيلة ممكنة في إلهاء النّاس وتغييبهم أو تسليط بعضهم على بعض، فهي في الوقت الذي تخنق فيه أصوات العلماء العاملين، وتمنع النّصف عن الأحرار المعارضين، لا تجد غضاضة في سيّاستها المفسدة الرّعناء فيما يقوم به حواريّوها ((المتفيقهون)) من إطلاق ((فتوى التّكفير)) على عواهنه إطلاقا يستغلّون به ــ عن جهل بتراث الأمّة وتاريخها ــ اندفاع الشّباب، فيذكون عن قصد أو بغيره عداءه للمجتمع ويحرّضون شعوره فيه بالاغتراب، لقد عكس هؤلاء المجرمون في حقّ الإنسانيّة غاية الدّعوة بالتّحريض على الكراهيّة، فبدلا من أن يغرسوا في النّفوس بذور الإيمان للسّمو بها وتعهّدها بالعلم والمعرفة، حتى تنمو في ظلّ الإخلاص في عبادة الله وحبّ الخير للنّاس، وتزدهر بالاجتهاد في تحصيل النّفع العامّ والخاصّ فتثمر غلال الإحسان الذي يعمّ المجتمع الإنسانيّ فتتحقّق التّنميّة ويتحقّق التّقدّم على مدرج الحضارة، فإنّهم يزرعون التّكفير منهجا عقديّا، ويتعهّدون إنماءه بالتّحريض ليثمر الفتن والدّماء والخوف على النّفس والمال والعرض، وهذه هي أشدّ درجات البغي فتكا، لذلك فإنّ مجرّد التّركيز على الأعراض بدل السّبب مضيعة للوقت والجهد والمال. إنّ الإرهاب الفكري ــ وهو ديدن أنظمة الاستبداد وسلاح أدواتها القمعيّة الرّهيبة، ووسيلة يسترزق بها الزّبانيّة من ((العلماء المأجورين)) و ((الدّعاة المتفيقهين)) ــ هو إرهاب عقديّ بالتّعريف، وهو علّة الإرهاب الدّمويّ ومحرّضه وزناده، لذلك فهو مرام أعدائنا منّا، وإنّ مردّه إلى التّزمّت والإيغال في المذهبيّة والبعد عن مقاصد الإسلام أمر محقّق، فسيجد المتتبّع للشّأن الإسلاميّ أنّ الباعث عليه من جهة ما هو ذاتيّ عدم الاهتمام بالفهم المتجدّد لآي الكتاب ونصوص السّنّة، وسوء الاستنباط من سيرة السّلف: أي من الآل الأطهار والصّحب الأخيار، ومن جهة ما هو موضوعيّ ما يشتغل عليه الأعداء ((عبر المجنّدين)) ومن خلال ((الأتباع والمتحالفين)) من برامج تخريبيّة سواء في السّرّ أو في العلن، ومن أهداف مادّيّة ومعنويّة ترمي إلى إضعاف الأمّة والحيلولة دون قيام وحدتها، وتحقّق صحوتها الدّينيّة، ونهضتها العلميّة والتّقنيّة، وهنا يصير لزاما طرح السّؤال عن كيفيّة تحصين الأمّة من شرور هذا الوباء الاجتماعيّ ومضاعفاته الهدّامة، فيبرز التّخلّص من التّكفير بوصفه منهجا تربويّا معتلاّ أهمّ الحلول الفعّالة، لأنّ القضاء على التّكفير هو قضاء على بؤرة الإرهـاب الذي لا ينظر إليه إلاّ بوصفه مرضا وبائيّا عضالا، وخلّة أخلاقيّة مؤذية! لقد كان التّكفير وما يزال منزلقا فكريّا خطيرا ومنهجا عقديّا لم يتبنّه في تاريخ الأمّة إلاّ الغلاة الذين اتّخذوه مطيّة لاستحلال الدّماء والأموال والأعراض، ويستغرب المرء كيف صار أمرا مستساغا عند منتحلي العلم الشّرعيّ، لكنّ العجب يرتفع عند إدراك أنّه بعد أن أصبح وسيلة لتصفية الحساب مع الخصوم والمخالفين بعلم أنظمة الاستبداد وتحت نظرها لم يعد أمرا مضبوطا بأصول العلم وقواعده، ويكفي للتّأكّد من ذلك الدّخول بكبسة زرّ إلى تلك المنتديات الحوارية التي تنسب نفسها للإسلام والإسلام منها براء، ليدرك المرء خطورة هذا الفتنة التي لم يعد ينظر إليها لا من باب الاجتهاد الشّرعيّ المنضبط بالشّروط الفقهيّة الصّارمة، ولا من باب الاجتهاد القضائيّ الموجود على مدار التّاريخ الاجتماعيّ بوصفه قضيّة سياسيّة يمارسها ((أهل الرّأي من الولاة)) ليبوءوا إما بأجرها أو بوزرها، ولكن ولسبب ما يجري التّوسّع في إطلاقها من قبل من لا يمتلكون لا صفة العلم ولا صفة الولاية الشّرعيّة، من قبل نكرات موصوفة تتكلم لغة المجتمع، وتعيش بين أفراده، تنبت ممّا تأكل من خير البلاد شحوما ولحوما لكنّها توجّه في المقابل سلاحها ضد البلد وأهله نكرانا وجحودا، وتبثّ سمومها تربّصا وكيدا، إنّهم يستهينون الحكم بالكفر على المخالفين دون إدراك خطورته الفكريّة، وأبعاده المنهجيّة، ومظاهره التّربويّة، ومآلاته الاجتماعيّة المأساويّة وهو ما ينتهك حرمة العلم والعلماء، ويبثّ منهجا سقيما في وعي الأجيال المسلمة، ويفضي في المحصّلة إلى نشر الكراهيّة وزرع الشّقاق بين المسلمين لتمزيق صفّهم والحيلولة دون وحدتهم واستعادة مجدهم، أخرج البخارىّ ومسلم فى الصّحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم َ عَنْ الْخَيْر، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَة َ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْر، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْر مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ" قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَهْدُون بِغَيْرِ هَدْيِي - وفى رواية ويستنون بغير سنتي - تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ" قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْر مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَاب جَهَنَّم َ مَنْ أَجَابَهمْ إِلَيْهَا قَذَفُوه ُفِيهَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ : "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُون َ بِلسِاننا"، نأمل في فعّاليّات الصّحوة المباركة خيرا، نثق في الله عزّ وجلّ إذ يقول: ((ولا يحيق المكر السّيّئ إلاّ بأهله)) والله المستعان وهو أرحم الرّاحمين