سادت في فترة زمنية سابقة صورة ذاك المثقف الطليعي الذي يريد أن يخبر الناس أين الطريق وما معنى الثقافة وما أفضل الخيارات لحياتهم.
إنه ذاك المثقف الذي مازال يراوح مكانه، ويرى أن الخلل في الشعوب التي لم تأت لتسأله أو لتسلمه مقاليد الأمور ليرشدها إلى الطريق الذي يوصل إلى الحداثة والتطور أو إلى الحق والحقيقة.
لا يخالط الناس كثيراً، يظهر ويلبس بما يميزه عن العامة الذين مازالوا في طور التعلم. يعرف كتبا ويروي عنها، وأحيانا بالنص، لتبهر الجمهور الذي يرى في هذا قمة العظمة، إنه لم يسمع بهذا الكتاب، ولا بتلك الأسماء الرنانة، يُسأل ليُجيب ويُصدر الأحكام التي ليست قابلة للاستئناف ولا المناقشة، فمن سيجرؤ على مناقشته؟
في المقابل، يظهر مثقف الشبكات الاجتماعية بصورة مبتسمة على صفحته الانترنتية، وبلباس أقل ما يقال عنه: عادي. يُناقَش ويناقِش، ولا يغضب حينما يسفه قوله، بل يُظهر، قدر استطاعته، تلطفه وتقبله للنقاش.
المثقف العصري لا يحب ذكر أسماء مؤلفين وكتاب ليظهر مدى تبحره العلمي والمعرفي، إنه فقط يذكر فكرته مجردة من أي عزو أو إسناد، إنه شخص ظريف يحب الآخرين، لا يحمل شحنات صدامية مع أطراف معينة.
لا يعنيه من أنت، وإنما مدى قوة الفكرة وتناسقها وجمال صيغتها، لا يلتفت ولا يحتفي كثيراً بما يحمل الكاتب من شهادة أو خبرة، بل جل همه ما يبثه من أفكار، إنه لا يستشير غيره بشأن من هو صاحب أجمل أسلوب أو أحسن فكرة، بل يختار بمحض إرادته، لا يستسيغ فكرة الموجهة والأستاذ الذي يخبرك ماذا يجب أن تقرأ وما هو الأفضل لهذه المرحلة أو تلك، إنه شخص مولع بالمرجعية.
لقد فرضت الشبكات الاجتماعية تغيرات هائلة، وأصبحت الثقافة والمثقف مجرد سلعة تُتداول، بحسب ما تملكه من قيمة بالنسبة للمتلقي. لا الأحزاب ولا النخبة صاحبت التاريخ النضالي تثقل الميزان في سوق المنافسة على جذب المتلقين، إنه ببساطه ما يمتلكه من فكر قادر على أن يجيب على أسئلة المتلقي وأن تحوز على رضاه، بقالب بسيط ووقت وجيز جداً، كما هي طبيعة الشبكات الاجتماعية وما تمنحه من حيز للكتابة.
مسكين هذا المثقف الذي يسعى جاهداً ُ ليحصل على رضا الجمهور الذي أصبح يتحكم بميول المثقف أو على الأقل يؤثر في خيارته الفكرية أكثر من ذي قبل، بعد أن يكتب أو يتحدث، تأتيه الإجابة سريعة وقبل أن يرتد إليه طرفه، لتتحكم في كتابته التالية، إنه عصر الجماهير الغفيرة.
إنه تغير عالمي لم يسلم منه أحد، وخاصة مستخدمي الانترنت. لم تعد الأحزاب ولا المجتمع المدني يقوم بدور الوسيط الذي ينقل إرادة الناس إلى الدولة ولجسمها البيروقراطي، إذا غضب الناس سجلوا غضبهم على صفحاتهم، ليصل إلى القائمين على الشأن العام الإنذار الأول الذي قد يتلوه الإنذار الثاني، لا بل قد يرون أن ميعاد الثورة قد حل، وأن ساعة تغيير النظام قد أزفت، وحينها يجب على الجميع الاستجابة.
هذا بالنسبة للأنظمة، أما النخب المثقفة، فهي تسير فوق رؤوس الثعابين، حديث واحد قد يؤدي بصاحبه إلى وادي النسيان، لأنه لم يراع المتلقي، أو بالأحرى المحاور، الذي لا يعنيه إلا أن تكون قادرا على ترجمة ما يتردد في مخيلته.
يغلب على هذه الثقافة، الاهتمامات اليومية أو مستقبل الحياة العملية الدنيوية، فلا تستهويه الأسئلة الكبرى التي طالما أشقت كثيرا من المثقفين والعلماء قرونا، إنها اهتمامات من قبيل: أفضل طريقة للحكم، نقد لتصرفات الدولة ومثقفي الشأن العام، طلب استشارة في شأن خاص، وشؤون اجتماعية عامة، ورواية تجارب خاصة وتعليق على أخبار.
زد على ذلك، أنها ثقافة تبتلع أصحابها، فمن الصعب نقل الاهتمامات العلمية الشخصية إلى عالم الشبكات الاجتماعية، لا بل تفرض أسلوبا خاصا يتماشى مع عالمها المتميز.
كما هو ظاهر، هناك اختفاء للأسئلة الكبرى التي في الغالب تسأل وتناقش في ثقافتنا العربية: العولمة، الرأسمالية، المجتمع المدني، التغريب، الحركات الإسلامية. وهذا ما أثر بطبيعة الحال في العلوم والمعارف، لأن التأثير انتقل من مجال البناء العلمي الذي يحتاج سنوات طوال لإنجاز مشروع واحد إلى الشبكات الاجتماعية التي تحتاج فقط إلى قدر من الاهتمام بالشأن العام ومهارة في التعامل مع مستخدمي هذه الشبكات، وقدرة على بث الأفكار والقناعات.
لكن السؤال: هل هذا سوف يؤثر في البناء العلمي والمعرفي على المدى البعيد، أم أن أصحابها سوف يستيقظون لحظة، ليقولوا إنها لاتسمن ولا تغني من جوع.