الرد على مقال هل الحكم بجلد المتخلف عن صلاة الجماعة جائز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد: لقد اطلعت على ما مقال عنوانه (هل الحكم بجلد المتخلف عن صلاة الجماعة جائز) وطلب كاتب المقال الرد على مقاله، وأحببت أن أشارك في الرد على المقال بشيء من الإسهاب وتحرير هذه المقالة تحريراً علمياً تبين بطلان ما ذهب إليه الدكتور الفاضل، وأن كلامه غير صحيح بلا ريب، حيث لا يخفى على من يقرأ هذا المقالة بعد كاتبها عن الصواب.
الرد على المقال.
قوله (الحكم بما أنزل الله يشمل الحكم بكتاب الله أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،)
قلت : هذا كلام صحيح لكن يضاف إلى ذلك ما حكم به صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما لم يثبت به نص من الكتاب والسنة وأخص بذلك سنة الخلفاء الراشدين.
والمراد بسنَّة الخلفاء الراشدين : ما أفتى به وسنَّه الخلفاء الراشدون أو أحدهم ؛ للأمَّة ، وجمعوا الناس عليه ، ولم يخالف نصّاً ، وإن لم يتقدم من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيءٌ كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في معرض استدلاله للاحتجاج بأقوال الصحابة في كتابه (إعلام الموقعين: 4/176).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " ما كان من سنَّة الخلفاء الراشدين الذي سنُّوه للمسلمين ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ؛ فهذا لا ريب أنَّه حجَّة ؛ بل إجماع . وقد دلَّ عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) " (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 20/573-574 .) .
قوله (وحيث أن كتاب الله ليس فيه أمر بجلد المتخلف عن صلاة الجماعة).
هذا كلام خطأ وذلك لأن جلد المتخلف عن صلاة الجماعة هو من باب التعزير وقد اتفق الفقهاء على أن التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، سواء كانت فعلاً للمحرمات، أو تركاً للواجبات.
* قال ابن القيم رحمه الله: "واتفق العلماء على أن التعزير مشروع في كل معصية ليس فيها حد وهي نوعان ترك واجب أو فعل محرم ".( الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص : 154).
* قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في المصرين على ترك الجماعة : " إن من أصر على ترك الجماعة ينكر عليهم وترد شهادتهم بل يقاتلون في أحد القولين وهذا عند من استحبها فأما من قال بوجوبها فإنه يقاتل تاركها ويفسق المصرين على تركها إذا قامت عليهم الحجة التي تبيح القتال والتفسيق كما يقاتل أهل البغي بعد إزالة الشبهة ورفع المظلمة.(أنظر : النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لمجد الدين ابن تيمية 2 /260).
وقال في حاشية رد المحتار : "وقال في شرح المنية : والأحكام تدل على الوجوب ، من أن تاركها بلا عذر يعزر وترد شهادته ، ويأثم الجيران بالسكوت عنه".(رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 1/552).
وقال في كتاب (الحاوي الكبير): " فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا ( يعني صلاة الجماعة ) فَقَدْ عَصَوْا ، وَأَثِمُوا بِقُعُودِهِمْ عَنْهَا ، وَوَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا".(الحاوي الكبير ـ للماوردي (2/684).
قال ابن القيم رحمه الله : "فعلى متولى الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس وأما القتل فإلى غيره . واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء فإنها عماد الدين وأساسه وقاعدته وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله أن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة "(الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص : 349).
فالحاصل أنه للإمام أن يعزر الرعية في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، سواء كانت فعلاً للمحرمات، أو تركاً للواجبات .
وعقوبة التعزير غير مقدرة، وللحاكم اختيار العقوبة التي تلائم الجاني فتبدأ بالنصح والوعظ، والهجر، والتوبيخ، والتهديد، والإنذار، والعزل عن الولاية، وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد وقد يكون التعزير بالتشهير، أو الغرامة المالية، أو النفي وذلك يختلف باختلاف الأماكن، والأزمان، والأشخاص، والمعاصي، والأحوال.
قوله : (ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجلد المتخلفين عن صلاة الجماعة)
قلت : هل يعقل أن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتخلفون عن صلاة الجماعة زهداً في فضلها وتركاً لها بلا عذر بعد سماعهم النصوص الشرعية التي تأمر بها وتحث عليها وترغب فيها.
وهل يعقل أيضاً أن يكون قوماً وصفهم الله بقوله : "{كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون }[الذاريات:17] وقوله : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون}[السجدة:16] وقوله تعالى في وصفهم : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ }[محمد:29] هل يعقل أن يكون تركهم للجماعة خصلة فيهم فحاشاهم أن يكونوا كذلك.
بل كيف يتركونها مع إجماعهم على وجوبها وتحذيرهم من التخلف عنها ونصوصهم في ذلك مشهورة
• قال ابن مسعود -رضي الله عنه- "ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" رواه مسلم كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى، (3/ 1235)، رقم (1461)..
ولم يجئ عن صحابي واحد خلاف ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه ، وهذا دليل على أنهم ما كانوا يتخلفون عنها إلا من عذر فكـيف لنا نزعم بأنهم كانوا لا يصلون في جماعة مع عدم العذر أليس هذا من الافتراء على هؤلاء الصحب الكرام. ؟!
ولعل الدكتور استدل على ما ذهب إليه بحديث هم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإحراق البيوت على المتخلفين عن الصلاة ولم يفعل وهذا خطأ منه كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
قوله (فهذا هو الحكم بالأهواء)
قلت : هذا كلام خطأ فليس جلد المتخلف عن صلاة الجماعة لغير عذر من الحكم بغير ما أنزل الله، وإنما هو من التعزير، الذي أجمعت الأمة على مشروعيته في كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة، ، وهو مفوض إلى رأي الإمام على حسب ما تقتضيه المصلحة، ويتحقق به الردع كما سبق بيانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : "فَالْعُقُوبَ ُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.( السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص: 60)
وقال أيضا: وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ:(أَحَد ُهُمَا) عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ، جَزَاءً بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ، كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ، وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ.
وَ(الثَّانِي) الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ، وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ، فَإِنْ تَابَ؛ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا.
فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ، أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ.( السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص: 94)
قوله : (لقد ثبت وجود متخلفين عن صلاة الجماعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه هم بتحريق بيوتهم، ولكنه لم يحرق بيوتهم ولم يجلدهم ولم يعزرهم بأي صورة أخرى).
قلت : هذا عمدة ما احتج به صاحب المقال وهو حديث أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " " إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ الْعِشَاءِ وَصَلاةُ الْفَجْرِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامُ , ثُمَّ أَمُرُ رَجُلا فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقُ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمٌ مِنْ حَطَبٍ ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ " وفي رواية:" وَالّذي نَفْسي بيدَهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بحَطَبٍ فيحتطب ثُمَّ آمُرُ بالصَّلاةِ فَيُؤدَّنُ لهَا ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النّاسَ ثُمَّ أُخَالِفُ إلى رجَالٍ " لا يَشْهَدُنَ الصَّلاة " فأُحَرِّقُ عَلَيهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالّذي نَفْسي بيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنّهُ يَجِدُ عَرْقاً سَمِيناً أَوْ مِرْمَامتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ " مُتّفقٌ عَلَيْهِ وَاللّفْظُ للْبُخَاريِّ ". ويجاب على هذا الحديث بما يأتي:
أولاً : أن أهل العلم أجابوا عن هذا الحديث بأن هؤلاء المتخلفين كانوا منافقين ، وذلك لأن سياق الحديث يقتضيه ، فإنه لا يُظن بالمؤمنين من الصحابة أنهم يؤثرون العظم السمين على حضور الجماعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي مسجده .قال الحافظ في الفتح : " قَوْله - -صلى الله عليه وسلم-- " لَيْسَ صَلَاة أثقل على الْمُنَافِقين من الْعشَاء وَالْفَجْر " يُوضح بِأَنَّهُ ورد فِي الْمُنَافِقين"... إلى أن قال "وَقَالَ الطَّيِّبِيّ خُرُوج الْمُؤمن من هَذَا الْوَعيد لَيْسَ من جِهَة أَنهم إِذا سمعُوا النداء جَازَ لَهُم التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة بل إِن التَّخَلُّف لَيْسَ من شَأْنهمْ بل هُوَ من صِفَات الْمُنَافِقين وَيدل عَلَيْهِ قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لقد رَأَيْتنَا وَمَا يتَخَلَّف عَن الْجَمَاعَة إِلَّا مُنَافِق. "( فتح الباري شرح صحيح البخاري 2 /127).
فمن أجل ذلك هم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعقابهم على تركهم صلاة الجماعة؛ لأن الصحابة لم يكن يصدر منهم ذلك على سبيل الدأب والعادة، بل كان الغالب عليهم الحرص على حضور الجماعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ما لم يمنعهم من ذلك عذر؛ كمرض، أو خوف، أو مطر، أو سفر، أو شيء من هذا النحو.
ثانياً : زعمه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هم بتحريق بيوتهم، ولكنه لم يحرق بيوتهم ولم يجلدهم ولم يعزرهم بأي صورة أخرى فهو زعم يرده الواقع الحسي والدليل النقلي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يهم إلا بما يجوز فعله إن فعله، فيحتمل أن يكونوا انزجروا من النهي كما ذكر ذلك ابن دقيق العيد.
ثالثاً :كيف يفعل ما هم به وفي هذه البيوت من لا تجب عليهم الجماعة من النساء والذرية كما سيأتي؟!.
رابعاً : أليس في قوله -صلى الله عليه وسلم-( فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هو تهديد لهؤلاء المتخلفين عن الجماعة وهو نوع من أنواع التعزير كما سبق. وهي عقوبة ناجعة تكفي لإصلاح المتخلف وتأديبه وردعه .
خامساً : على زعم أن هؤلاء كانوا من عصاة الصحابة فنقول بأن الحديث حجة في باب التعزير كما ذكر ذلك أهل العلم فقوله-صلى الله عليه وسلم- : "فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار". ذهب جمهور العلماء : إلى أنه يشرع للإمام أن يهدم أماكن الفساد ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- همّ بهدم هذه البيوت ؛ لأنها أعانت على التخلف عن الفريضة التي فرض الله شهودها ، وهي الصلاة مع الجماعة وقد امتنع-صلى الله عليه وسلم- من تحريق هذه البيوت لوجود العذر ، فقد دلت الروايات الأخر أن النبي-صلى الله عليه وسلم- امتنع من تحريق البيوت لما فيها من النساء والصبيان كما في رواية الإمام أحمد وغيره :" لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار."، فدلت هذه الروايات على مشروعية الامتناع عن العقوبة إذا تضرر الغير ، ومن هنا قال بعض العلماء : لا يجوز أن يؤخذ غير المذنب بالمذنب ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- امتنع من تحريق البيوت خوفاً على النساء والصبيان ، وكل من النساء والصبيان لا ذنب له ولا إخلال فدل على أنه لا يجوز أن يعاقب البريء بالمذنب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ثنايا شرحه للحديث:" فبين -صلى الله عليه وسلم-أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة , وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية . فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة , وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله ".( مجموع الفتاوى 23 /228)
وقال ابن القيم رحمه الله : "وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية".( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 /331).
سادسا: قال الإمام رحمه الله: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام". يعني لا تذهب إلى قول ليس لك فيه سلف من الأئمة المتبوعين من أئمة السلف المشهود لهم بالإمامة في الدين.
وسؤالي هنا هل لك في هذا القول سلف ؟ أي هل هناك أحد من الفقهاء والعلماء ذهب إلى ما ذهبت إليه من فهمك لهذا الحديث أو قال بمثل ما تقول به ؟ أرجوا أن تذكر لي عالماً من علماء السلف فهم هذا الحديث بفهمك أو قال بأن هذا الحديث حجة في باب عدم التعزير؟
إن جل من تكلم في شرحه لهذا الحديث إنما يذكرونه إما للاحتجاج به في وجوب صلاة الجماعة أو يذكرونه في باب الترهيب من التخلف عن صلاة الجماعة بغير عذر ،أو يذكرونه في الاحتجاج به على تعزير المتخلف عن صلاة الجماعة بغير عذر كما سبق .ولم يفهم أحد منهم قط بمثل ما فهمتَه أو قال فيه بمثل ما قلتَه.
فتبين لنا أنه لا حجة لصاحب المقال على استدلاله بهذا الحديث في عدم تعزير المتخلف عن صلاة الجماعة.
قوله (وفي هذا حكمة عظيمة حيث أن الصلاة يجب أن تكون خالصة لله سبحانه لا تصدر إلا عن عقيدة صحيحة ولا تقبل إن كانت خوفا من التعزير).
قلت هذا هو المطلوب شرعاً من كل مسلم فالطاعات كلها، والعبادات جميعها، من صلاة وصوم، وحج وصدقة، وكل طاعة يتقرب إلى الله بها لا بد أن تقوم على هذه الأمور الثلاث : تعبد الله حبًّا فيه – سبحانه - ورجاءً لثوابه، وخوفًا من عقابه - جل علا.
لكن قد يكون في الأمة من يتهاون عن أداء ما أوجبه الله عليه أو الانتهاء عما نهاه الله عنه فهل يترك بلا تأديب ولا ردع . ولذلك قال أهل العلم إذا تواطأ أهل قرية أو جماعة لهم منعة على ترك شيء من شعائر الدين الظاهرة كالأذان والصلاة والزكاة قوتلوا على ذلك كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من امتنع عن الزكاة.
وقالوا أيضاً : . ومن منع الزكاة بخلاً مع إقراره بوجوبها أثم ، وأخذت منه كرهاً مع التعزير ، وإن قاتل دونها قوتل ، حتى يخضع لأمر الله ويؤدي الزكاة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة ".
فالحاصل أن الكثير من الناس قد تذكره وتبين له خطورة ما هو عليه من فعله للمحرم أو تركه للواجب وتخوفه وتحذره وتذكر له شناعة الذنوب، وتذكر له عقوبتها في الآخرة والتحذير من أن يعجل الله له العقوبة في الدنيا، وما أشبه ذلك ولكنه لا يرتدع عما هو عليه، بل يستمر على ذلك ، إذاً فكيف يصلح الناس وكيف ينزجرون، وكيف يتركون هذه المحرمات، إلا بمثل هذه التعزيرات التي ترتدعهم. فالله جل شأنه لما خلق الخلق وشرع الأوامر والنواهي لم يترك الإنسان هملاً إن شاء فعل الأوامر واجتنب النواهي، وإن شاء ترك الأوامر وارتكب النواهي، وإنما جعل الله له مرغبات يجدها في الدنيا وفي الآخرة تدفعه إلى فعل الواجب وترك المحرم، كما جعل له أيضاً مرهبات وزواجر وجزاءات يلقى بعضها في الدنيا وبعضها في الآخرة، إذ هو ترك واجباً أو أتى منهياً.
قوله (وبغض النظر عن الحكمة من عدم التعزير).
قلت : أين الحكمة من عدم تعزير المتخلف عن صلاة الجماعة بلا عذر فهذا كلام غير صحيح بل الحكمة في التعزير لا في عدم التعزير فإنما شرع التعزير؛ صيانة للمجتمع من الفوضى والفساد، ودفعاً للظلم، وردعاً وزجراً للعصاة وتأديباً لهم.
قوله (فإن المتفق عليه أنه عندما يكون هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه سلم في واقعة، لا يجوز الاجتهاد فيها بالرأي ، .....إلى قوله فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي.) .
قلت : سبق الإشارة والتنبيه على دعواه وخطأه في هذه الدعوى.
قال ابن القيم رحمه الله : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة ، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله" (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/330).
ثم هناك أمر آخر وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل حد شارب الخمر أربعون جلدة وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس وتارة بالنفي وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وأبو بكر. هل نقول بأن عمر رضي الله عنه خالف النهج النبوي وذلك باجتهاده في مقابلة النصوص الشرعية ؟ إن عمر رضي الله عنه فعل هذا من باب التعزير، حيث أنهمك الناس في شرب الخمر فرأى عمر أن يعزرهم بذلك بعد أن استشار أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الزيادة فوافقوه عليها.
وهذه الاجتهادات الصادرة عنه رضي الله عنه في التعزيز وافقه عليه الصحابة لكمال نصحه ووفور علمه وحسن اختياره للأمة وحدوث أسباب اقتضت تعزيره لهم بما يردعهم لم يكن مثلها على عهد رسول الله أو كانت ولكن زاد الناس عليها وتتايعوا فيها. فكيف به رضي الله عنه لو رأى ما نحن فيه من ضياع لحق من حقوق الصلاة وهو آداءها في جماعة ورأى تهاون الناس في هذا الجانب.
قوله (ومن هنا لا يجوز الاجتهاد في واقعة .....إلى قوله قال تعالى "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم")
قلت : ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعزر كثيراً من العصاة، منهم الذي أتاه وذكر له أنه أصاب من امرأة كل شيءٍ إلا النكاح، وقال له: (أصليت معنا) الحديث، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، ولم يعزره عليه الصلاة والسلام، وكذلك في حديث الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان ؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية ،ولم يعزره بأي نوع من أنواع التعزير مع حصول المعصية منه ، فهل يا ترى إذا وجدنا أحداً يقبل امرأة في الطريق نتركه بحجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-لم يعزر من فعل ذلك ، وإذا علمنا بأن فلاناً من الناس انتهك حرمة شهر رمضان وجامع زوجته في نهار رمضان ولم يحصل منه توبة ولا ندم لفعله ونتركه هكذا بلا محاسبة . هل يقول بذلك عاقل. وهل إذا عزرناه بأي نوع من أنواع التعزير يكون تعزيرنا له اجتهاد منا في مقابلة النص وخروج عن هديه -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال الإمام البغوي في " شرح السنة : "من جامع متعمدا في رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة ويعزر على سوء صنيعه "
إن التعزير ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لغيره فعند حصول ما يوجبه فلابد منه وهو رجع إلى الإمام بحسب المصلحة، فإذا رأى أن هذه المعصية قد انتشرت وأنه يجب أن يعزر فيها الناس بعقوبة تردعهم عنها فعل ذلك، وإلا ترك، وهذا من سياسة الناس بالشرع لا بالأهواء كما يقول صاحب المقال.
وكون صاحب المقال يعترف أن تارك الجماعة فيه خصلة من النفاق كما في قوله (وتوضيح أن صلاة الجماعة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق) فهذا يكفي في وجوب تعزير المتخلف عنها بغير عذر بأي نوع من أنواع التعزير حسب ما يراه القاضي خاصة إذا تكرر ذلك من المتخلف عنها.
قوله (وكما أن التخلف عن صلاة الجماعة ضلال، فإن جلد المتخلف عنها ضلال أشد لأنه تشريع بغير هدى من الله، وتجاوز صارخ لمبدأ اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، واجتهاد في غير موضع الاجتهاد).
قلت : الرد على صاحب المقال في هذه الجزئية من وجوه.
الأول : أنه حكم على تارك صلاة الجماعة بالضلال و الضلال معناه الانحراف عن الطريق الصحيح ومن ذلك قوله تعالى{ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا }. وما دام أن ترك الجماعة ضلال ومنكر فللإمام أن يعاقب من فعل ذلك بما يراه.
الثاني : أن رمي من يؤدب المتخلف عن صلاة الجماعة بالضلال بل رميه بالضلال الأشد هو التجاوز الصارخ حيث أجمعت الأمة على مشروعية التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة بعد زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق بيان ذلك من تكلم في هذه المسألة من أهل العلم .
الثالث : أن التجاوز الصارخ هو أن يترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع. فأين التجاوز الصارخ في تعزير المتخلف عن الصلاة في جماعة بلا عذر أليس في تعزيره صيانة للأمة وحفظاً لشعائرها ، أليس في تعزيره نصرة له على نفسه؛ لأنه إذا أدب استقام وانتصر على نفسه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ (تَحْجُرُهُ) أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ " (رواه البخاري) فهذا الذي أدبناه يكون تعزيره نصراً في الواقع، لأننا نصرناه على نفسه؛ إذ إن هذا سيردعه عما كان عليه.
الرابع : إن الأخذ على يد هؤلاء المتخلفين عن أداء الصلاة في جماعة هو عين اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، واجتهاد في موضع الاجتهاد الحق الذي لا لبس فيه ولا شطط لا كما يقول صاحب المقال من أنه تجاوز صارخ لمبدأ اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، واجتهاد في غير موضع الاجتهاد.
قوله (فما تفسير العلماء السلفيين بمصر لهذا الانحراف من أساتذتهم وقدواتهم؟؟)
- لا أدري ماذا يقصد صاحب المقال من الزج بسلفيي مصر في حكم حكم به القاضي في المملكة في أمر يرى صاحب المقال أنه انحراف عن الشرع أو بمعناه الذي اصطلحه (تجاوز صارخ لمبدأ اتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام) ما دخل سلفيي مصر في هذه القضية.
- ثم أمر آخر أليس في دعواك اتهام لقضاة المملكة بأنهم منحرفون حيث يحكمون الأهواء في مقابلة النصوص الشرعية بل أليس فيه أيضاً إتهام لعلماء المملكة بالانحراف حيث يرون هذه الأحكام تطبق أمامهم ولا ينكرون على ولي الأمر حيث هذا منكر في نظرك . هل هذه مداهنة منهم لولي الأمر ؟ إذا كنت ترى ذلك فما تقول في تصديق العلامة سماحة الشيخ محمد ابن ابراهيم عندما قضى أحد القضاة بجلد المتخلف عن صلاة الجماعة ومما قاله رحمه الله على الحكم :"وذكر القاضي أنه لما تحقق لديه مجاهرته بالمعصية ومعاندته ومكابرته للحق وعدم قبوله النصيحة واستهزاؤه بالناصحين وتركه الصلاة مع الجماعة قرر توقيفه عشرين يوماً وتعزيره أربعين جلدة مع أخذ التعهد عليه بعد ذلك بالحضور لأداء الصلاة مع الجماعة . ونفيد جلالتكم أن ما قرره القاضي في حق المشتكي لما ذكر عنه في محله . فينبغي تنفيذ ما حكم به عليه . ولا يلتفت لما ذكره .."
وهذا سؤال توجه به سائل إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
س: ما عقاب من يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد؟.
ج: يستحق أن يعزر ويؤدب من جهة ولي الأمر، أو من جهة الحسبة التي عنيت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من جهة المحكمة إذا كان تخلفه بدون عذر للتساهل؛ لأنه ترك واجبا تشبه بأهل النفاق، فالواجب أن يؤدب، وإذا رأى ولي الأمر أن يكتفي بتوبيخه في المرة الأولى حتى لا يعود، فإن عاد فهو يستحق التأديب بجلدات، أو سجن حتى لا يعود، وهذا العمل متوعد بما يتوعد به أهل المعاصي؛ لأنه متشبه بأهل النفاق، نسأل الله العافية والسلامة.( فتاوى نور على الدرب لابن باز السؤال رقم : 54 ).أليس في هذا إتهام لهؤلاء العلماء بالانحراف ؟.
- ثم هناك أمر ثالث نقوله لصاحب هذا المقال هل تعيب على سلفي مصر أن يكون من أساتذتهم وقدوتهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي وغيرهم من علماء السلف المتقدمين وكذلك العلماء المتأخرين من علماء هذه المملكة كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ صالح الفوزان وكذلك علامة الديار المصرية أحمد شاكر وعلامة الديار الشامية الألباني وغيرهم من الذين شهد لهم القاصي والداني بالعلم والتقوى وتحري الحق ؟ هل تعيب علينا أن يكون هؤلاء قدوتنا وأساتذتنا . إن كون هؤلاء العلماء قدوتنا وأساتذتنا تهمة لا ننفيها وشرف لا ندعيه. - ثم إن وصف علماء السلف بالانحراف تجاوز صارخ من صاحب المقال (هداه الله) وإساءة أدب مع هؤلاء الأئمة الأعلام رحم الله من توفي منهم واطال الله أعمار من بقي منهم على طاعته.أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين وأن يلهمنا رشدنا وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أبو عبد الرحمن المصري