بسم الله الرحمن الرحيم
مرة أخرى : لماذا لم يعتبر علماء الشريعة آراء الفلكيين ؟
ردًا على العلويط وغيره
الحمد لله خالقنا ومولانا, أغنانا بشريعته عن عقولنا وأهواءنا, والصلاة والسلام على حبيبنا وسيدنا محمد عبد الله ورسوله بلغّنا ما أُنزل إليه وبالعض عليه أوصانا, وعلى الآل والأصحاب وسلم تسليمًا كثيرًا .... أما بعد :
علمُ مقاصد الشريعة, علمٌ جليلٌ وأحق الناس بالإحاطة به وتطبيقه هم أهل العلم الراسخين, الذي يعلمون المقاصد الحقيقية من الزائفة, والمصالح المرعية من الملغاة, والوسائل المعتبرة من غيرها.
وقد أكثر الأستاذ العلويط من الدندنة حول موضوع مقاصد الشريعة, ورمى أهل العلم والفقه بتقصيرهم في هذا الباب, مع زعم إحاطته بالباب فأخذ يحاجج أهل العلم الراسخين وهو في واد والمقاصد في واد أخر.
يقول هداني الله وإياه : (( وقد بينت في مقال سابق حرمة أو كراهية الرؤية البصرية بمكبر أو بالعين المجردة في زمننا لأنها تفضي الى خلاف مقصودها )) .
سبحان الله كيف يمكن أن يكون الأمر المشروع بالتوجيه النبوي والمجمع عليه بين السلف خصوصًا وبين جماهير علماء الأمة عمومًا محرمًا أو مكروهًا ؟
هل يقول هذا مطّلع على علوم الشريعة فضلًا عمن يزعم البحث والاجتهاد ؟!
يقول ابن رشد الحفيد : " فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعًا وعشرين، ويكون ثلاثين، وعلى أن الاعتبار في تحديد شهر رمضان، إنما هو الرؤية ".انتهى [بداية المجتهد (1/284)] ومن المعلوم أن ( إنما ) أداة تفيد الحصر.
ثم هل يُعقل أن تؤدي الوسيلة التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلاف مقصودها !! نعوذ بالله من مآلات هذا الكلام .
تيقن بصرك الله بالحق, أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, ومن هديه عليه الصلاة والسلام قوله : " لا تصوموا حتى تروا الهلال " وقد أوصانا عليه الصلاة والسلام بقوله : " عليكم بسنتي " وقال عليه الصلاة والسلام مؤكدًا : " عضوا عليها بالنواجذ " وهذه الوسيلة عمل بها خير البشر عليه الصلاة والسلام, ثم أصحابه من بعده, وتتابع عليها المسلمون, مع وجود الحساب حينذاك, مما يدل دلالة قطعية على اشتمالها على تمام المصلحة وتحقق كمال المقصد الشرعي من طريقها, يقول ابن تيمية : " وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِسَابِ النُّجُومِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : ( إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ) ".انتهى [مجموع الفتاوى (25/207)].
ولكن لخطأ العلويط في معرفة مقصد الشارع وقع في هذه الشناعة العظيمة وهذا أحسن المحامل, فالسنة وحي والأمر برؤية الهلال لإثبات دخول الشهر وخروجه نطق به الرسول الأمين, ولا شك عند المؤمنين ولا ريب من أن هذا الأمر يشتمل على تمام المصلحة وكمالها, وهو محقق للغاية في المقصد, فالشريعة منفي الحرج عنها, وهي حنيفية سمحة, ولا أدري من أين جاء الزعم بأن اجتماع المسلمين في مختلف البقاع على يوم واحد للصيام والإفطار مقصود للشارع, أو أن اليقين الجازم بدخول الشهر وخروجه مقصود للشارع وفيه من العنت والمشقة ما فيه؟!
الحق أن من مقاصد الشريعة بتعليق دخول الشهر برؤية الهلال أو إكمال العدة وحصره في ذلك, إمكانية معرفة دخول شهر رمضان في كل بقعة يتواجد فيها أهل الإسلام على مختلف أصنافهم, والتيسير والتخفيف عليهم, وجعل الامتثال للأمر بصيام شهر رمضان في متناول جميعهم, ليحققوا ركن الصيام, دون اعتبار لتوحيد الصيام أو الإفطار في جميع بقاع العالم الإسلامي, ودون اعتبار لكمال الشهر أو نقصه عددًا لتنصيص الشارع على كماله أجرًا, ودون اعتبار لاحتمال تداخل شيء من رمضان مع شعبان وذلك لأن مجرد الغمام يوجب إكمال شعبان وهلال رمضان قد يكون في السماء, فالمقصد الشرعي متحقق بإمكانية الرؤية أو إكمال العدة, ولله الحمد والمنة, ومن قصد غير هذه الوسيلة التي نص عليها الشارع وأجمع عليها أهل العلم فقد ضاد الشريعة .
يقول الشاطبي : "فَإِذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ عَيْنَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالْإِذْنِ؛ فَقَدْ قَصَدَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ؛ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيمَا قَصَدَ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ كِفَاحًا؛ فَقَدْ جَعَلَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ مُهْمَلَ الِاعْتِبَارِ، وَمَا أَهْمَلَ الشَّارِعُ مَقْصُودًا مُعْتَبَرًا، وَذَلِكَ مُضَادَّةٌ لِلشَّرِيعَةِ ظَاهِرَةٌ". انتهى [الموافقات (3/29)]
ثم ذهب الأستاذ العلويط وغيره يقيسون قياس إبليس, فأتوا بمسألة موجبات القصاص ومسألة موجبات دخول أوقات الصلوات ونحوها, وساووا بينها وبين مسألة موجب دخول الشهر القمري وخروجه.
وجوابهم فيما يلي :
أولًا : تشبيه دخول الشهر بدخول وقت الصلاة، تشبيه خاطئ حيث أن وقت الصلاة مُتعلق بدخول الوقت لا برؤية الشمس، قال تعالى: ((أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا)) [الإسراء:78]. وكذلك الأحاديث الشريفة لم تدل على التثبت من رؤية الشمس ولكن إدراك الوقت، فعليه إذا علمنا بدخول وقت الصلاة بأي طريقة كانت، جاز لنا اعتمادها والصلاة بناء عليها، ولهذا يقبل علماء الشريعة بالحساب الفلكي في تحديد أوقات الصلاة. في حين أن دخول الشهر ربطه الشارع بالرؤية، لا بخروج الهلال [يعني ولادته] ولو كان بالأخير لجاز الأخذ بالحساب، ولكن نص الشارع على الرؤية وبـها يجب أن يعمل المسلمون [الشيخ بكر أبوزيد،فقه النوازل (2/169) عن بحث للدكتور محمد بخيت المالكي] وينطبق على موجبات القصاص ما تقدم, ويزيده إيضاحًا ما يلي في الوجه الثاني .
ثانيًا : العمل بالحساب لتحديد أوقات الصلاة, أو بالأدلة الجنائية في القصاص أو البوصلة لتحديد القبلة أو الرادارات العسكرية في رصد الأعداء, هو عمل بالشريعة, لأن الشريعة شرعت لنا الأخذ بالوسائل المشروعة المفضية لتحقيق المقاصد على أكمل وجه, وهذا عين ما فعله أهل العلم في مسألة دخول الشهر وخروجه, فإلتزام إثبات الشهور القمرية بالرؤية أو إكمال العدة هي الوسيلة المشروعة المفضية لتحقيق المقصد الشرعي على أكمل وجه كما تقدم بيان حقيقة المقصد الشرعي خلاف لفهم العلويط الخاطئ له.
ثالثًا : تتعيَّن الوسيلة إذا توقف تحصيل المقصد على وسيلة واحدة بعينها لا يتحقق هذا المقصد إلا بها . [ وهذا عين ما هو حاصل في مسألتنا فإن الرؤية وإكمال العدة هي الوسيلة المشروعة الوحيدة لإثبات دخول الشهر وخروجه بالنص والإجماع ].
ويدخل تحت ذلك إذا كان للمقصد أكثر من وسيلة إلا أن هذا المقصد لا يتحقق كاملًا إلا بوسيلة واحدة، فيعتبر وجود هذه الوسائل كعدمها . [أحكام الوسائل عند الأصوليين للجيزاني] وهذا متحقق بيقين في مسألتنا, وقد أقر بذلك الدكتور محمد بن صبيان الجهني سلمه الله, رئيس قسمالهندسة النووية بجامعة الملك عبدالعزيز قائلًا : " وها نحن أثبتنا أنالحساب الفلكي لايمكن أن يكون وسيلة تؤدي إلى المقصد الشرعي بطريقة أوفى وأكمل منالرؤية البصرية أو التلسكوبية وذلك لاضطراب هذه الوسيلة اضطرابًا شديدًا لايمكنها منمنافسة الوسيلة الظنية (الرؤية) وعندي أن الظني غيرالمضطرب مقدم على اليقينيالمضطرب ذلك أن الظني مغتفر خطاؤه واليقيني غير مغتفر.
وبعد هذا كله يجوز لنا أننقول:
كانت الأمة مجمعة علىالرؤية البصرية لما يقرب من 14 قرنا وكان الخلاف بينها لا يتجاوز وحدة مطالعواختلاف مطالع وعدد شهود. أما اليوم فقد اختلفت الأمة على الحساب خلافا لم تختلفهمن قبل فأصبحت شيعا وأحزابا لا يقبل بعضها قول بعض, إننا لم نحقق الوحدة المنشودة من الحسابالفلكي بل إن الحساب الفلكي زادنا تفرقًا حتى أصبح لكل فلكي رأي في المسألة ". انتهى [راجع مقاله بعنوان (الحساب الفلكي بينالقطعية والاضطراب)].
وقال العلويط وفقه الله : (( لا يقوون على ترائي الهلال ولا يحسنونه سوى قلة منهم - يقصد عوام المسلمين - وإذا قلت إن من يتقن الحساب قلة فكذلك من كان حديد البصر قلة ولو جعلنا الأكثر هو الأصح لأصبح الفلك والحساب هو المعتمد لأن من يتقن الحساب أو الفلك هم أكثر ممن يستطيع مشاهدته بالعين المجردة )) .
قوله هذا مبني على الخلل في معرفة المقصد الشرعي كما تقدم بيانه, فمن أين أتيت باشتراط حديد البصر مطلقًا, ومن قال أن الشريعة أمرت بالتكلف لترائي الهلال, ونبينا صلى الله عليه وسلم يأتيه الأعرابي ويأتيه آحاد الصحابة رضي الله عنهم, فيقبل قولهم, ولم يُنقل أنه شدّد عليهم أو كلف طائفة مخصوصة برؤية الهلال, بل كان الأمر على طبيعته, فإن رؤي الهلال صاموا أو فطروا, وإلا أكملوا الشهر ثلاثين, فما تتوهمه من شروط إنما يشترطونها السادة الفقهاء من باب التثبت لغلبة الجهل والتقصير في العصور المتأخرة, وإلا فالصحيح مدار القبول على العدالة بحسب تحققها في الرائي من أهل الإسلام, فإن عُدم المترائون الثقات, فلا تثريب على أهل الإسلام, وعليهم الانتقال إلى البدل وهو إكمال الشهر ثلاثين فيا لها من شريعة سمحة يريد المتنطعون تشويهها والله المستعان.
يقول الاستاذ العلويط سدده الله : (( وحينما قال الفلكيون أن الرائين شاهدوا زحل فكلامهم صحيح فهم قد شاهدوه بالفعل وظنوه هلالا فهم أصح من الرائين وتحديدهم للمرئي هل هو الهلال أو زحل يقدم على قول الرائين لتشابه الجرمين ))
هذه مكابرة لا تليق بالأستاذ والحق أن الرؤية صحيحة ومطابقة للواقع عند ذي إنصاف, ومن راقب الإبدار جزم بذلك, ولو سلمنا للأستاذ جدلًا, بأن الرائين قد أخطأوا في رؤية الهلال وشاهدوا بدلًا عنه زحلًا أو غيره, فإن كانوا عدولًا واستفرغوا وسعهم عند الترائي ولم يتعمدوا الخطأ, فقد قاموا بالواجب الشرعي ولا يضرهم هذا الخطأ, وهم مأجورون على كل حال, ولا يترتب على هذا الخطأ أدنى مخالفة شرعية, ما لم ينقص الشهر عن تسعة وعشرين يومًا, والأجر تامًا لثلاثين يومًا بحمد الله ومنته, فلماذا التشغيب وهذا التعمق المذموم.
يقول الأستاذ العلويط هداه الله : (( فلو تجاوزنا المعاني الحرفية في النظر الفقهي وأخذنا بالحساب لتم إعتماد جهات فلكية موثوقة )) .
أهل الإسلام ليسوا في حاجة إلى هذا التعمق والتكليف الزائد, فالشريعة أتت بالتخفيف والتسهيل على العباد بعامة, وفي هذه المسألة بخاصة, فما يكون هذا التعمق إلا مذمومًا شرعًا وعقلًا, ويكون من الزيادة في الدين, وله من المفاسد ما الله به عليم.
والآن إليك شهادة خبير فلكي أخر وهو الدكتور محمد بخيت المالكي - دكتوراه في الفلك من جامعة جلاسكو – يشرح فيها حقيقة الدعوى المزعومة بدقة الحسابات الفلكية فيقول سلمه الله : " من المهم أن نفرق في البداية بين نوعين من الحساب المتعلق بالهلال، النوع الأول هو حساب موقع القمر الحقيقي، و النوع الثاني هو حساب رؤية القمر:
1- حساب موقع القمر الحقيقي:- وهو حساب يعتمد على قوانين الجاذبية والتي هي سنة من سنن الله في كونه أذن سبحانه لخلقه بمعرفتها واستخدامها. وقد اكتشف قوانينها الحسابية نيوتن حتى تطورت إلى النسبية الخاصة والعامة وما بعدها.
وتبعا لهذا القانون يُعرف موقع القمر بالنسبة للأرض بدقة عالية جدا (تصل نسبة الخطأ إلى زيادة أو نقص متر عن موقعه الحقيقي، وهي دقة تعد عالية جداً، ..... لكن وكما نعلم أن الشارع أمرنا أن نرى الهلال كما يظهر في السماء لا كما هو على حقيقته، أي أننا مطالبين بما تراه العين المجردة وهي صورة الهلال الوهمية الناتجة بسبب أثر الانكسار الجوي أو غيرها، فيكون حساب موقع القمر الحقيقي غير صالح لحساب هلال أول الشهر، بالرغم من دقته العالية.
2- حساب رؤية القمر: وهذا النوع يعتمد على النوع الأول من الحساب، ولكن يُضيف أثار الانكسار وغيرها ما أمكن، فيقدر لنا موقع القمر كما يمكن أن يُرى بالعين المجردة، وهذا النوع من الحساب هو الذي يعتمده أكثر الحاسبين لحساب هلال أول الشهر. وهنا لا يمكن القول بأن الحسابات بدقة عالية كما سبق، حيث أن ظواهر الغلاف الجوي كثيرة ونحن نريد أن نقدر آثارها على امتداد البصر على الأفق، والذي يصل لراصد على سطح البحر لمسافة خمس كيلومترات.
فإذن سيكون حساب أثر الغلاف الجوي بدقة عالية من الأمور شبه المستحيلة، حيث لو افترضنا وجود عاصفة رملية على بعد خمسة كيلومترات عن الراصد للهلال فإنه لن يشعر بـها، وسيكون من الصعب إدخالها في حساباته للهلال، ومثل هذه العاصفة - أو ماشابه - يمكن أن تغير عوامل الرؤية وأثر الانكسار فيصبح الهلال أعلى مما تتوقعه الحسابات التي لم تأخذ أثر الانكسار في الحسبان، فيقال غرب الهلال في الوقت الفلاني، لكن وبسبب الظروف الجوية تكون هناك صورة وهمية للهلال لم تغرب بعد فيراه بعض رائي الهلال. فيقال لذلك أخطأ الحاسبون - ولا مشاحة في الاصطلاح -، لكن هذا ليس خطأ في الحساب بل هو نقص في الفرضيات الابتدائية للحساب، أي أن أثر هذه الظاهرة - العاصفة - لم يُؤخذ في الحسبان، فهو إذًا نقص وليس خطأ، وعليه لا يمكن القول أننا اكتشفنا سنة الله في رؤية الهلال". انتهى المقصود
ثم يختم هذا الجزء فيقول سلمه الله : " ليس أمام الحاسبين إلا أن يقبلوا بأن هناك عوامل لم يضموها لحساباتـهم الفلكية، والأمر لا يسلم من الخطأ. وكما يعلم الجميع أن العلم قام على الملاحظة (مثل حركة القمر)، ثم من مجموعة ملاحظات تُوضع نظرية حسابية معينة كقاعدة حسابية لهذه الملاحظات (الأرصاد)، ومن هذه النظرية الحسابية نخرج بتوقعات لأرصاد مستقبلية (الهلال للأشهر اللاحقة)، والتي نتأكد منها بأرصاد لاحقة، وأي خطأ في التوقعات الحسابية يؤدي لتصحيح للنظرية وهكذا تستمر الدورة التطويرية للنظريات. وفي حالتنا هذه إذا ناقضت الأرصاد الحسابات، فيكون علينا مراجعة وتصحيح حساباتنا والأخذ بالاعتبار العوامل التي قد نكون قد أهملناها، والله أعلم ". انتهى [انظر مقال بعنوان (ملاحظات على أسباب الاختلاف بين الرؤية الشرعية والحساب الفلكي لهلال الشهر الإسلامي)]
إذا فهمت ما سبق من كلام الدكتور المالكي, فقارن بالله عليك أيها القارئ ما تقدم بكلام الإمام الفذ ابن تيمية من قرون مضت, يقول رحمه الله : " وَالْمُعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ فِي الْهِلَالِ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبْتَدِعٌ فِي الدِّينِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْعَقْلِ وَعِلْمِ الْحِسَابِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ . بِالْهَيْئَةِ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَنْضَبِطُ بِأَمْرٍ حِسَابِيٍّ وَإِنَّمَا غَايَةُ الْحِسَابِ مِنْهُمْ إذَا عَدَلَ أَنْ يَعْرِفَ كَمْ بَيْنَ الْهِلَالِ وَالشَّمْسِ مِنْ دَرَجَةٍ وَقْتَ الْغُرُوبِ مَثَلًا ؛ لَكِنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً بِدَرَجَاتٍ مَحْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حِدَّةِ النَّظَرِ وكلاله وَارْتِفَاعِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَرَاءَى فِيهِ الْهِلَالُ وَانْخِفَاضِهِ وَبِاخْتِلَافِ صَفَاءِ . الْجَوِّ وَكَدَرِهِ . وَقَدْ يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ لِثَمَانِ دَرَجَاتٍ وَآخَرُ لَا يَرَاهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَ دَرَجَةً ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحِسَابِ فِي قَوْسِ الرُّؤْيَةِ تَنَازُعًا مُضْطَرِبًا وَأَئِمَّتُهُمْ : كَبَطْلَيْمُوسَ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ حِسَابِيٌّ . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِم ْ مِثْلُ كوشيار الديلمي وَأَمْثَالِهِ . لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْهِلَالِ فَرَأَوْا الْحِسَابَ طَرِيقًا تَنْضَبِطُ فِيهِ الرُّؤْيَةُ وَلَيْسَتْ طَرِيقَةٌ مُسْتَقِيمَةً وَلَا مُعْتَدِلَةً بَلْ خَطَؤُهَا كَثِيرٌ وَقَدْ جُرِّبَ وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ كَثِيرًا : هَلْ يُرَى ؟ أَمْ لَا يُرَى ؟ وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّهُمْ ضَبَطُوا بِالْحِسَابِ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَأَخْطَئُوا طَرِيقَ الصَّوَابِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي يُوَافِقُهُ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ كَمَا تَكَلَّمْت عَلَى حَدِّ الْيَوْمِ أَيْضًا وَبَيَّنْت أَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَة ِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْعِشَاءِ مِنْ حِصَّةِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُ لَوْ كَانَ الْمُوجِبُ لِظُهُورِ النُّورِ وَخَفَائِهِ مُجَرَّدُ مُحَاذَاةِ الْأُفُقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْحِسَابِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْأَبْخِرَةِ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرٌ وَالْبُخَارُ يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْأَرْضِ الرَّطْبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ فِي الصَّيْفِ وَالْأَرْضِ الْيَابِسَةِ . وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ بِالْحِسَابِ فَسَدَتْ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ . وَلِهَذَا تُوجَدُ حِصَّةُ الْفَجْرِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ أَطْوَلَ مِنْهَا فِي زَمَانِ الصَّيْفِ . وَالْآخِذُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْحِسَابِيِّ يُشْكِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ الْفَجْرِ عِنْدَهُ تَتْبَعُ النَّهَارَ وَهَذَا أَيْضًا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ".انتهى [مجموع الفتاوى (25/207-208)].
فلله در أئمة الإسلام , وعجبًا لجهال هذه الأيام الذين لا يعرفون قدرهم, وأربا بالأستاذ العلويط أن يكون منهم, والحاصل أن الحساب الفلكي لا يكون قطعيًا إلا بحسب ما يقطع به آحاد الفلكيين لا مجموعهم, والقطعية نسبية كما هو معلوم, فما كان قطعيًا عندك, فهو ظني عند غيرك, إلا ما جاء به الوحي من نصوص الكتاب الكريم والسنة الصحيحة المتلقاة بالقبول وما تفرع عنهما من إجماع يقيني.
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه ما يجعل البصير يقطع بظنية الحساب الفلكي.
فعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، قَالَ : خَرَجْنَا لِلْعُمْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِبَطْنِ نَخْلَةَ قَالَ : تَرَاءَيْنَا الْهِلاَلَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : هُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، قَالَ : فَلَقِينَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقُلْنَا : إِنَّا رَأَيْنَا الْهِلاَلَ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : هُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : هُوَ ابْنُ لَيْلَتَيْنِ، فَقَالَ : أَيَّ لَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ ؟ قَالَ فَقُلْنَا : لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ مَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ ، فَهُوَ لِلَيْلَةٍ رَأَيْتُمُوهُ.
[صحيح مسلم (1088)]
وفي لفظ عند ابن خزيمة (1915) وغيره : " إن الله قد أمده لكم لتروه " .
وقد بوب عليه النووي بقوله : " باب بَيَانِ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِكِبَرِ الْهِلاَلِ وَصِغَرِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّهُ لِلرُّؤْيَةِ فَإِنْ غُمَّ فَلْيُكَمَّلْ ثَلاَثُونَ " .انتهى [شرح مسلم (7/198)]
قَالَ الْقَاضِي عياض : " مَعْنَاهُ أَطَالَ مُدَّتَهُ إِلَى الرُّؤْيَةِ ".انتهى[مشكاة المصابيح (4/1308)].
وفيه دليل على أن الله جل وعز ووسعت قدرته كل شيء, قد يشاء ويمد في بقاء الهلال بعكس ما تزعمه الحسابات الفلكية فيختل حسابها, وهذا قاطع للنزاع في كون الحساب الفلكي ظني, وفيما تقدم كفاية لذوي الإنصاف والله تعالى أعلم وأحكم وهو الموفق والمستعان.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
وكتبه / أبو طارق علي بن عمر النهدي .
23 / شوال / 1432 للهجرة .