قال ابن الجوزي /الثبات عند الممات
إِنِّي رَأَيْتُ جُمْهُورَ النَّاسِ إِذَا طَرَقَهُمُ الْمَرَضُ اشْتَغَلُوا تَارَةً بِالْجَزَعِ مِنْهُ وَالشَّكْوَى وَتَارَةً بِالتَّدَاوِي إِلَى أَنْ يَشْتَدَّ فَيُشْغِلُهُمُ اشْتِدَادُهُ عَنِ الالْتِفَاتِ إِلَى الْمَصَالِحِ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ فِعْلٍ لِلْخَيْرِ أَوْ تَأَهُّبٍ لِلْمَوْتِ
فَكَمْ لَهُ مِنْ ذُنُوبٍ لَا يَتُوبُ مِنْهَا أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لَا يَرُدُّهَا أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ ظِلامَةٌ لَا يَخْطُرُ لَهُ تَدَارُكُهَا وَإِنَّمَا حُزْنُهُ عَلَى فِرَاقِ الدُّنْيَا إِذْ لَا هِمَّةَ لَهُ سِوَاهَا وَرُبَّمَا أَفَاقَ فَأَوْصَى بِجَوْرٍ
وَسَبَبُ هَذَا ضَعْفُ الإِيمَانِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعلم}
وَقَدْ عَمَّ هَذَا أَكْثَرَ الْخَلْقِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلانِ
فَيَنْبَغِي لِلْمُتَيَقِّظِ أَنْ يَتَأَهَّبَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ قَبْلَ هُجُومِ الْمَرَضِ فَرُبَّمَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ عَمَلٍ أَوِ اسْتِدْرَاكِ فَارِطٍ أَوْ وَصِيَّةٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا حَقُّ امْرِئ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَقَدْ خُذِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَتَاهُ الْخِذْلانُ مِنْ أَوَّلِ مَرَضِهِ فَلَمْ يَسْتَدْرِكْ قَبِيحًا مَضَى وَرُبَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِ جوارا فِي وَصِيَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَاجَأَهُ الْخِذْلانُ فِي سَاعَةِ اشْتِدَادِ الأَمْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَرَضَ وَتَسَخَّطَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخِذْلانِ
وَهَذَا مَعْنَى سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ الشَّكُّ أَوِ الْجُحُودُ فَتُقْبَضُ النَّفْسُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَدُونَ ذَلِكَ أَنْ يَتَسَخَّطَ الأَقْدَارَ
قِيلَ لِلرَّجُلِ عِنْدَ مَوْتِهِ قَلْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ هُوَ كَافِرٌ بِهَا
قَالَ الْقُرَشِيُّ وَذَكَرَ هَاشِمُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ بِالضَّيْعَةِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقُلْتُ قَلْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ هَيْهَاتَ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنُهَا
قَالَ مُجَاهِدٍ مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا مُثِّلَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ فَاحْتُضِرَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَالَ شَاهِكَ مَاتَ
قَالَ الْقُرَشِيُّ وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي فُضَيْلُ بن عبد الوهاب قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ :
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ لَعِبَتْ ... كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ
وَسَمِعْتُ أَنَا رَجُلا كَانَ كَثِيرَ الصَّوْمِ وَالتَّعَبُّدِ اشْتَدَّ بِهِ الأَلَمُ فَافْتُتِنَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَقَدْ قَلَّبَنِي فِي أَنْوَاعِ الْبَلاءِ فَلَوْ أَعْطَانِيَ الْفِرْدَوْسَ مَا وَفَّى بِمَا يَجْرِي عَلَيَّ ثُمَّ صَارَ يَقُولُ وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الابْتِلاءِ مِنَ الْمَعْنَى إِنْ كَانَ مَوْتًا فَيَجُوزُ فَأَمَّا هَذَا التَّعْذِيبُ فَأَيُّ شَيْءٍ الْمَقْصُودُ بِهِ
وَسَمِعْتُ شَخْصًا آخَرَ يَقُولُ وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ الأَلَمُ رَبِّي يَظْلِمُنِي
وَهَذِهِ حَالَةٌ إِنْ لَمْ يَنْعَمْ فِيهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلثَّبَاتِ وَإِلا فَالْهَلاكَ وَمِنْهَا مَا كَانَ يُقَلْقِلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَخَافُ أَن يشتدد عَلَيَّ الأَمْرُ فَأَسْأَلُ التَّخْفِيفَ فَلا أجَاب فأفتتن
فقد كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَأْتِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمٍ فَيَقُولُ يَا إِبْرَاهِيمُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَنَا عَلَى التَّوْحِيدِ
و لَمَّا اشْتُدَّ بِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبُ الإِيمَانُ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ