جعل سبحانه لهفة الأهل على أولادهم غريزة عند الناس إجمالاً بغض النظر عن إيمانهم , فضمن بذلك للولد من يرعاه حتى يشتد عوده , وإن كان الأهل عندما يربون أولادهم 20 سنة لا يضمنون أن يبرهم الأولاد في نهاية المطاف , لكن ضمن للمؤمن أن يحفظ له الأجر على تربية ابنه إن كان الابن صالحاً أم لا...مادام قد رباه لوجه الله, بناء على أن ابنه أمانة عنده.
عندما يندفع الأهل إلى متابعة أولادهم ليل نهار , فيخنقوا أنفاسهم بحجة محبتهم والخوف عليهم من الوقوع في الخطأ , يزهد عندها الأولاد بأهلهم وينزعجوا منهم ويعتبرونهم غير متفهمين لمشاعرهم وظروفهم وتزداد سماكة الحاجز بين الأولاد والأهل ويظهر ما يسمى بصراع الأجيال ,
فالأهل لا يصلون إلى هدفهم في حماية أولادهم , و حتى محبة أولادهم لهم واحترامهم فقدوه أيضاً ,
أما المؤمن فلا يدع لعواطف محبته لأولاده وخوفه عليهم تجرفه إلى المبالغة في ملاحقتهم , فهو يعرف أن الأولاد ما هم إلا أمانة , عليه أن يقوم بواجبه تجاههم من النصح الهادئ واللطيف ومساعدتهم في مشاريعهم العملية والاجتماعية على قدر الاستطاعة ,

لكنه يعلم أن القرار الأول والأخير لهم وما عليه سوى النصح كالصديق المخلص المحب تماماً ليس أكثر, وحتى لو اختاروا الخطأ فليس لك إجبارهم على ما هو صحيح برأيك , لأنك (لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) , وعندما يشعر الأولاد بهدوء تصرفات أهلهم ورزانتها وحياديتهم الكاملة عن التأثير على قراراتهم , تراهم وبشكل تلقائي عفوي يحرصون على أن يستشيروهم في أمورهم , لأن الأهل صاروا عبارة عن أصدقاء مريحين خفيفي الظل ,
لكن يمتازون عن رفاق الأبناء أنهم أكثر خبرة في هذه الحياة , فكيف يفوِّت الأولاد على أنفسهم نصيحة من كان هذا حالهم , فوصل الأهل إلى هدفهم بالإحاطة بأولادهم في اللحظة التي قرروا أن يتركوا حماية أولادهم لله سبحانه , وهنا نجد أن الأهل الذين تعبوا على أنفسهم طيلة حياتهم يتعلمون ويتثقفون ويتبعون النهج الإلهي في السعادة , نجدهم يؤثِّرون بعلمهم وخبراتهم الإيمانية في أولادهم تأثيراً كبيراً بسلاح العلم ,

أما الوالدين اللذان اكتسبا صفة "الوالدين" لمجرد أنهما قاما بممارسة الجنس فنتج عنه أولاد , دون أن يرافق ذلك علم غزير وعمل مخلص , فتجدهما ليس في أيديهما إلا سلاح الضرب والصراخ سبيلاً للتأثير ,
فلا يجنيا إلا الفشل . وهذا سر من أسرار نجاح المؤمن وهو أنه يكسب الشيء مكافأة له على زهده به , كما حدث الأمر ذاته مع النبي إبراهيم (ع) عندما نجح في أن يزهد بابنه ويفوض أمره لله وأراد أن يذبح ابنه امتثالاً لأمر الله , عندها أكرمه الله وأعاد له ابنه وأمره بذبح كبش بدلاً عنه, (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ*ف لَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*وَن ادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* ِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ*وَفَ َيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ,

وقد يظن البعض أن الله يفعل ذلك ليتأكد من حبنا له وحده بمعنى أنه يستفيد من ذلك – حاشا لله - , إنه سبحانه لا يستفيد منا بشيء فهو لا يحتاج إلى شيء وهو سبب وجود كل شيء , ولكن تعليق قلبنا بالله وحده هو نعمة يمنها الله علينا , لأننا نتقوى بذلك على أن نستطيع التحكم بأعصابنا ونسيطر عليها فلا تجرفنا عواطفنا إلى التعلق الزائد بمن نحب , لأن المحبوب عندما يرانا مقبلين عليه باندفاع بلا كوابح فلا بد أن يؤدي ذلك إلى زهد المحبوب بنا , لأن اندفاعنا يعني : أننا نعتقد أن هذا المحبوب قد رُزِقْنا به دون أن يكون لدينا من الميزات التي تجعلنا نستحقه , لذلك نخاف عليه من أن يطير من بين أيدينا , ثم لا نجد غيره ممن يرضى بميزاتنا المحدودة ,
ولكي تفهم المسألة أكثر ضع نفسك مكان من تحبه باندفاع دون كوابح , فستشعر بشعوره , ولا تكفي أن تكون نيتك طيبة في عالم الحب فعالم الحب فنون كثيرة على المرء إتقانها ليفوز بقلب حبيبه , ومن هذه الفنون القدرة على العطاء والمنع بالمقدار والتوقيت المناسبين , بل والقدرة على التحول من الإقبال على المحبوب إلى الابتعاد عنه ومن ثم العودة إلى الإقبال , بمرونة عالية جداً , فقد تقوم بالتحول بين هذين الضدين أكثر من مرة في الجملة الواحدة التي تنطقها فتبدؤها بإقبال ثم تُلَمِّح ببعض الإدبار وتختمها بدرجة من درجات الإقبال , وهذا بلا شك يتطلب إحساساً عالياً من المتكلم بمحبوبه الذي يخاطبه حتى يعطيه ويمنعه على قدر ما يحس به من تغير في حاجة المحبوب لذلك ,

ومن البديهي أن المؤمن هو المرشح الأول لهذه القدرة العالية على الإحساس العالي بالمحبوب ,لأن تعلقه بالله يعطيه القوة على التحكم بنفسه , فهو يدعو الله بقوله "يا بصير" ليفتح عن بصيرته ويرى الأمور على حقيقتها دون غشاوة , ويدعو الله بقوله "يا ودود" ليزيد المودة بينه وبين من يحب , وهكذا يتقوى بكل اسم من أسماء الله الحسنى وبآيات الله ليكون الشخص الأسعد في هذه الحياة.
فعلم المؤمن أن الأمر كله بيد الله وأن الله يختار الخير لعباده , هذا العلم يجعله قوياً في وجه الأزمات النفسية فلا حزن ولا فرح مبالغ به (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )