تَخَيل العارفوالعالم الافتراضي عند أهل الباطن في ميزان الشرع
1) تمهيد: كيف عقله ؟روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُثنِيَّ على رجل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال: كيف عقله ؟. قالوا: يا رسول الله إن عبادته... إن من خلقه... إن من فضله... إن من أدبه... فقال: كيف عقله ؟ قالوا: يا رسول الله نثني عليه بالعبادة وأصناف الخير و تسألنا عن عقله !... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأحمق العابد يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر و إنما يُقَرَّبُ الناس من ربهم بالزلف (ج زلفة و هي القربة) على قدر عقولهم.
2) عقل المتصوفة وطريقة تفكيرهم:
طريقة تفكير الصوفية عجيبة غريبة لمن وقف على حقيقتها... تثير الدهشة والاستغراب... تعيش بك في عالم من خيال، نُسج من خيال وبخيال، وتمركز وترسخ في وجدان وعقول المتصوفة التي عليها أقفالها الموصدة... غذتها كتاباتهم وترهاتهم وهم يبحثون عن الحقيقة في غير محلها... ضلوا عن الكتاب والسنة ... ووصموا أهلهما بالعوام وأهل الظاهر أو الشريعة... في مقابل أهل الباطن والإشارة والعلم اللدني...
3) قصة الجوهري المثال الصارخ: التي تلخص لك فلسفة "تخيل العارف" و "وقوع ما تخيله في الحين" (بحسب معتقدهم):
لعل قصة الجوهري التي أنقلها في هذا الصدد هي أحسن مثال على ما أقول، أنقلها في سياقها بكل أمانة. نقلا عن كتاب جواهر المعاني (الجزء الأول – الباب الخامس – الفصل الأول في ذكر أجوبته عن الآيات القرآنية عن طريق أهل الإشارة الربانية ص 214-215)[1] : يقول علي حرازم: [وسألته[2] رضي الله تعالى عنه عن معنى الحروف اللفظيّة والحروف الرقميّة والحروف الفكريّة، ماذا يوجد عن كلّ واحد منهم ؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله : اعلم أنّ الحروف اللفظيّة يوجد منها عالم الأرواح، معناها أنّ كلّ كلمةِ ّ تَلَفَّظَ بها خُلِقَ منها مَلَكٌ يسبّح الله تعالى، فإنْ تكلّم بكلمة من الخير خُلِقَ منها مَلَكُ رَحْمَةٍ، وإنْ تكلّم بكلمة شرّ خُلق منها ملَكُ عذابٍ وكان من جملة ملائكة العذاب، فإنْ قدّر الله وتاب من تلك القَوْلَةِ خُلِعَتْ على الملَك الذي خُلِقَ منها خلعةً وانقلب بها ملَكَ رحمةٍ . والحروف اللفظيّة لا ظهور لها في عالم الحسّ. وأمّا الحروف الرقميّة يوجد منه عالم الحسّ، معناه هو الحروف التي تُدْرَكُ بالبصر. وأمّا الحروف الفكريّة يُوجَدُ منه عالم العقل في الخيال، معناه يوجد فيها ما يوجد عن حُكْمِ التخيّل .
ويسترسل علي حرازم مع شرح شيخه بقوله: أمّا تخيّل العامّة فلا يوجد منه شيء، ويُقال فيه تمنّي، وأمّا تخيّل العارف فكلّ ما تَخَيَّلَهُ يوجد في الحين، ومثاله ما وقع للجوهريّ[3] رضي الله تعالى عنه. قال : كان عليه جنابة ، كان بِمِصْرَ ، خرج يغتسل في النيل وحمَل خبزَ داره لِفُرْنٍ ، فأعطى خبزه للفرّان وذهب للنيل ليغتسل ، فلمّا وقع في وسط النيل واغتسل بعضا من الغسل وقع عليه شبه السِّنَة قليلة فرأى نفسه دخل بغداد وتزوّج بها امرأةً بقي معها ستّ سنين وولد له منها أولاد غاب عن عددهم ، ثمّ سرى عنه فوجد نفسه قائما في النيل يغتسل ، فكمّل غُسْلَه بانيًا على الذي تقدّم ، ثمّ جاء إلى الفرن ووجد الخبز كما أخرجه صاحب الفرن ، فأخذ خبزه ورجع إلى داره ، ثمّ أخبر زوجته بالقضيّة التي وقعتْ وأخبرها بالقضيّة كما هي ، فمكثت شهرين ثمّ جاءت المرأة التي تزوّجها ببغداد تسأل عنه حتّى وصلتْ إلى حارته ، فسألتْ عن داره فقال لها أهل الحارة : مِن أين تعرفيه ؟ فقالت لهم أنا زوجته وهؤلاء أولاده ، فقالوا لها ما خرج من ههنا ، فضربتْ عليه الباب فخرج فعرفها ، فما أنكرها ، فسأله أهل الحارة ماذا تقوله هذه المرأة ، فقال لهم إنّها زوجتي وهؤلاء أولادي منها ، ثمّ دخل على زوجته وقال لها : المرأة التي ذكرتُ لك ها هي قد جاءت بأولادها ، ودخل بها لداره .
ويضيف علي حرازم كلام شيخه بقوله: وأمّا العارفون فلهم تصرّف بالحروف الرقميّة ولهم تصرّف بالحروف اللفظيّة ولهم تصرّف بالحروف الخيالية، والتصرّف الرابع يسمّونه التصرّف بالجانب الأحمى، ولا يعلم هذا التصريف إلاّ الرسل دون الأنبياء، جعله الله محلّ أسراره وهو موضع النسب الإلهيّة، وكلّ رسول بُعِثَ إلى قومه أطلعه الله تعالى على بواطنهم من الطبع وما دارت عليه جبلاّتهم فعاملهم بحسب طباعهم ليدوم قيامهم بالتكليف، فإنّه لو لم يكن جَرْيُهُ على طباعهم لبطلتْ رسالته من أوّل وهلة، فما في عِلْمِ كلّ رسول إلاّ معرفة طباع الأمّة التي أُرسِل إليها فقط، ولا عِلْمَ له بطباع غيرهم، فلذا لم تعمّ رسالتهم، إلاّ ما كان من نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فإنّه أطلعه الله سبحانه على طباع الوجود كلّه، فهو يعامل كلّ طائفة على حسب طبيعتها...] اهـ وأكتفي بهذا القدر من الاستشهاد... وأعقب...
4) تعقيب:
أقول: كيف لعقل سليم أن يصدق مثل قصة الجوهري تلك ؟!... إن لدى السادة الصوفية القناعة التامة في هذا المعتقد ويبنون كل الأمور على هذا الفكر الشاذ. والأدهى والأمر أن كل أمور الشريعة تخضع عندهم إلى هذا المنطق... منطق عالم الباطن في مواجهة عالم الظاهر... وترجيح تأويل الإشارة والتلقي بالحال على تفسير القرآن كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم... وتلك هي الطامة الكبرى... ومرجعهم عمليا ليس الكتاب والسنة ولكن المرجع المعتمد لديهم هي تلك الكتب على غرار كتاب جواهر المعاني الذي نقلت عنه قصة الجوهري المثيرة للدهشة والاستغراب... التي تكشف لك العالم الافتراضي الذي يعيش فيه السادة الصوفية بعيدين عن التفكير الواقعي الملموس والمشاهد والمعاش عند كافة البشر.
[1] - كتاب جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني – المنسوب لعلي حرازم بن العربي برادة المغربي الفاسي – دار الكتاب العربي بيروت لبنان – الطبعة الثانية 1393هـ - 1973 م.
[2] - يقصد شيخه أحمد التجاني.
[3] - ولا يذكر من هو الجوهري هذا... لعله أبي الفضل الجوهري، الواعظ بمصر (الذي كان يخطب في جامع عمرو بن العاص بالقاهرة 469هـ) الوارد ذكره عند التجانيين في كتاب الرماح (الجزء الأول – الفصل الثاني).