الوجه الثاني:
- الإمام الرّماديّ وإنْ سمع من شيخه عبد الرّزّاق سنة 204هـ أي بعد أن ذهب بصره، وصار يتلقّن إلاّ أنّه يعتبرُ صحيح السّماع، وما كتبه عنه ليس فيه نظر؛ لأن الرّمادي إنما حدّث عن عبد الرزاق بكتبه ؛
قال الذّهبي في ترجمته: "الإمام الحافظ الضّابط، أبو بكر، أحمد بن منصور... الرّمادي البغدادي: حدّثَ عن عبد الرزاق بكتبه ، وعن زيد بن الحباب ، ويزيد بن هارون ، وأبي داود الطيالسي ... وخلقٍ كثير بالحجاز واليمن ، والعراق والشّام مصر.وكان من أوعية العلم."
ثم قال: "سمعنا من طريقه جماعةَ أجزاءٍ عن عبد الرّزاق. " انتهى
قلتُ: في "المعجم المفهرس" للحافظ ابن حجر روايته لجامع عبد الرزاق - وهو غير كتاب الجامع لمعمر بن راشد وليس هو كتابا ضمن "مصنّف عبد الرزاق"-من طريق:أبي الحسين ابن بشران، أنبأنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصّفار، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي أنبأنا عبد الرزاق به
قال الحافظ:"وآخره حديث النهي عن قتل الحيات."
والبغوي في "شرح السنة" يروي كثيرا حديث عبد الرزاق من هذا الطريق.
قلت: ابن خير في "فهرسته" لم يذكر في أسانيد كتاب "المصنف لعبد الرزّاق" إلا رواية الدبري..وكذلك الحافظ ابن حجر في "فهرسته" ويبدو أن رواية الدّبري اشتهرت لعلوها..
وإلاّ فـ"مصنف عبد الرزّاق" كموطأ مالك بن أنس ؛ رحل لسماعه غالبُ الأئمة، ومن بينهم: الرّمادي الذي يعتبر راوية كتبه .
- ومعلومٌ أنّ عبد الرزاق كُتبُه صحيحةٌ كان قدْ صنّفها قديماً، فرغَ منها، وسارتْ بها الرّكبان قبل أنْ يعمى؛
* أخرجَ الحاكمُ في "المستدرك" 1/43 -بسندٍ صحيح- عنْ أحمد بن يوسف السّلمي قال: سمعتُ عبد الرزّاق يقول:
كنتُ بمكّة فكلّمني وكيع بن الجرّاح أن أقرأ عليه، وعلى ابنه كتاب الوصايا، فقلتُ:إذا صرتُ بمنىً حدّثتُ، فلمّا صرتُ بمنى، حملتُ كتابي فحدّثتُهُ، ثم ذهبتُ إلى مكّة للزيارة، فلقيني أبو أسامة، فقال لي:يا يمانيّ خَدَعَكَ ذاك الغلامُ الرّواسيّ فقلتُ:ما خدعني؟؟ قال : حملتَ إليه كتابَك فحدّثتَهُ.فقلتُ: ليس بعجب أن يخدعني؛
حدّثني بشر بن رافع، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:قال رسول : "المؤمن غر كريم و الفاجر خب لئيم."
قال : فأخرجَ ألواحَهُ فقال: أَمْلِ عليّ. فقلتُ: والله لا أمليه عليك، فذهب" .انتهى
قلتُ: عبد الرزّاق حجّ قبل المائتين وكان بصيرا ووكيع مات سنة 198هـ
* وقال ابن ماجه في "سننه"(622): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّا قِ , إِمْلاَءً عَلَيَّ مِنْ كِتَابِهِ، وَكَانَ السَّائِلُ غَيْرِي، أخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ ،عَنْ عُمَرَ بْنِ طَلْحَةَ،عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ، قَالَتْ : كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً طَوِيلَةً ..الحديث.
قلتُ: محمد بن يحي هو الذهلي والحديث في "مصنف عبد الرزاق" برقم (1174).
- ولم يذكروا عن عبد الرّزاق أن كتبه طالها التّبديل والتّغيير بعد أن عمي، وإنما ذكروا أنه تغير حفظه فقط، وصار يتلقن ولا يعني أن الملقنين أدخلوا فيها ما ليس من حديثه كأن يعمدوا إلى كتبه وأصوله فيدخلوا فيها أحاديث ليست من سماعه..
فعبد الرزاق إنما تغير بعدما عمي؛ لأنه صار يحدّث من حفظه، فربما اختلط عليه الحديث، ووقعت له فيه أوهام.. أما كتبه وأصوله فبقيت صحيحة فإذا حدّث منها فلا يدخلها الوهم، والخطأ فتفريق الأئمة بين روايته قبل المائتين وروايته بعدها إنما يحسن إذا حدّث من حفظه، أمّا إذا حدّث من كتابه، فلا فرق بين المرحلتين؛ لأن كتابه هو هو، لم يتغير.
دليل ذلك أن الإمام أحمد بن حنبل الذي فرق بين المرحلتين هو نفسه يستدل على بطلان حديث بعدم وجوده في كتبه :
* قال أبو بكر الأثرم : سمعتُ أبا عبد الله-يعني أحمد بن حنبل- يُسْأَلُ عن حديث: "النار جبار" فقال: هذا باطل ليس من هذا شيء ثم قال ومن يحدث به عن عبد الرزاق قلت حدثني أحمد بن شبويه قال: هؤلاء سمعوا بعد ما عمي، كان يُلَقَّنُ فَلُقِّنَهُ، وليس هو في كتبه ، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه ،كان يلقنها بعد ما عمي.
* وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل نحو ذلك، وزاد: من سمع من الكتب فهو أصح.
* وقال ابن حبان: "كان ممن يخطئ إذا حدّث من حفظه على تشيع فيه، وكان ممّن جمع، وصنّف، وحفظ، وذاكر"
* وقال البخاري: "ما حدّث عنه (يعني معمر) عبدُ الرزّاق من كتابه فهو أصح" .
- هذا .. ويبدو أن عبد الرزاق، حتى قبل أن يصير ضريرا، كان ضبطه للحديث ضبط كتاب أكثر منه ضبط صدر..فكان ربما أخطأ إذا حدّث من حفظه -كما قال ابن حبان- لذلك نجد الأئمة النّقاد الذين رحلوا إليه في صنعاء أو سمعوا منه في مكة لما حج .. يحرصون كل الحرص على حديثه الذي يمليه من كتابه، ويتجنبون ما يرويه من حفظه ؛
* قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال أبي: ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه شيئا إلا المجلس الأول وذلك أنا دخلنا بالليل فوجدناه في موضع جالسا فأملى علينا سبعين حديثا ثم التفت إلى القوم فقال:لولا هذا ما حدثتكم -يعني أبي- .
* وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لي يحي -يعني ابن معين- : ما كتبتُ عن عبد الرزاق حديثا واحدا إلا من كتابه كله." اهـ العلل
* وقال أيضا سمعت يحي يقول ما كتبت عن عبد الرزاق حديثا قط إلا من كتابه لا والله ما كتبت عنه حديثا قط إلا من كتابه .
قلتُ:
ولا يبعد أن يكون الإمام الرمادي-وهو العارف بهذا الشّأن - قد تأسّى بشيخيه أحمد بن حنبل ويحي بن معين -وهو الذي رحل معهما إلى عبد الرزاق، ولمس منهما هذا التصرف-
= فلم يكتبْ عن شيخه عبد الرزاق إلا من كتابه. والله أعلـم