بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى وسلام على عبده الذي اصطفى محمد وآله وصحبه ومن على أثره اقتفى ..
وبعد ..
يقول المولى سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )
هذه الآية افترق فيها أهل السنة عن أهل الرفض ، فقال أهل السنة بموجبها بوجوب غسل الرجلين إلى الكعبين وعدم صحة الوضوء بدونه ..
ومذهب أهل الرفض الاكتفاء بالمسح للقدمين ، ويستدلون بقراءة الكسر في قوله تعالى : ( وَأَرْجُلِكُمْ )
وللإحاطة بجواب أهل السنة في هذه المسألة أقول وبالله تعالى التوفيق :
----

غسل الرجلين إلى الكعبين أحد فرائض الوضوء عند أهل السنة خلافاً للروافض القائلين بمسح الرجل من دون الغسل ويعدونه من أصول مذهبهم .
وشبهتهم في ذلك قول الله عز وجل (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) فقالوا : عطفت الرجل على الرأس وهي قراءة سبعية صحيحة ، والمعطوف يأخذ حكم ما عطف عليه فللرجل حكم الرأس..

الجواب
نقول وبالله تعالى التوفيق :

1- القراءة المشهورة التي جاءت بها المصاحف هي النصب عطفاً على اليدين قال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )


وهذه قراءة واضحة لا تدخلها شبهة في أن المراد منها الغسل إذ العطف فيها راجع إلى المغسول المنصوب وهو الوجه واليدين ..
وإنما أُدخِل الممسوح بين المغسول للترتيب بين الأعضاء .. كما ذكر المفسرون .


2- وعلى القراءة الأخرى قراءة الجر (وَأَرْجُلِكُمْ) لا يخرج المعنى عن الأول من كونه تابعاً للمنصوب حكماً ، وإنما خالفه في الحركة من باب الإتباع للمجاورة وتناسب الكلام ،

وهذا أسلوب عربي معروف كقولهم : (هذا جحرُ ضبٍ خربٍ)
فخربٍ حقها الرفع للخبرية إذ أنها خبر الجحر ، إلا أنهم جروها لمجاورتها لمجرور وتناسب الكلام . ذكره ابن كثير في تفسيره ، وابن قدامة في المغني بأمثلة أخرى وكذا أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار .
واعترض بعض أهل اللغة على هذا المحمل بأن المجاورة تخص الضرورة الشعرية ، نقله ابن منظور في كتابه لسان العرب عن أبي إسحاق النحوي.



3- تحديد الممسوح بالكعبين يدل على إرادة الغسل إذ المسح لا يحد كحال الرأس ، كما قال ابن عبد البر في الاستذكار وابن قدامة في المغني وغيرهما .

وفي لسان ابن منظور : (ومما يدل على أنه غسل : أن المسح على الرجل لو كان مسحاً كمسح الرأس لم يجز تحديده إلى الكعبين كما جاز التحديد في اليدين إلى المرافق قال الله عز وجل (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) بغير تحديد في القرآن وكذلك في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) من غير تحديد فهذا كله يوجب غسل الرجلين ) أ.هـ


4- كما أن تحديد الكعبين مما يدل على عدم صحة المسح إذ الماسح لا يصل بمسحه إليهما ، ولا يستوعبهما .

5- إذاً فتحديد الكعبين علامة وقرينة على تبعية الرجلين لليدين ولذلك تم حذف العامل لوضوحه فلم يكرره ليقل : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، فحذف الأمر الأخير بالغسل لوضوحه .

ومثاله في كلام العرب قول الشاعر :
يا ليت زوجك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً
المقصود : متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً ، إذ أن الرمح لا يتقلد ولكنه حذف عامله مستعيضاً عنه بما يدل عليه من الفهم .



والفائدة منه الإشارة إلى ترتيب الأعضاء ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج (أبدأ بما بدأ الله به ) إشارة إلى النظر فيما رتبه الله عز وجل في القرآن من العبادات والله تعالى أعلم

6- لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء إلا الغسل ، وسنته مبينة للقرآن كما هو معلوم .
7- جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
قال : تخلف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته (ويل للأعقاب من النار) . مرتين أو ثلاثاً ،

وروي من حديث عائشة وأبي هريرة وغيرهما وفي بعضها من غير ذكر القصة .

فهذا وعيد واضح وشديد لأجل تركهم الغسل تكاسلاً ، فهو يعد كبيرة من الكبائر إذ أنه مما رتب عليه الوعيد بالنار والويل ، فلا يمكن أن يصح بعد هذا المسح ..

8- وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه وبالسباحتين باطن أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : (هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو أنقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء)

حسنه الألباني بدون لفظ (أنقص)

قلت : والمسح للرجلين نقص وظلم وإساءة عن الغسل بلا شك ولا ريب ..

9- وعن عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبى - صلى الله عليه وسلم- فقال (ارجع فأحسن وضوءك ) فرجع ثم صلى. رواه مسلم
وبنحوه في أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، صححه الألباني ..

وهذا واضح الدلالة على وجوب الغسل إذ لو كان المسح يجزئ لترك شيء من الرجل ولا شك في ذلك ، خاصة وأن القائلين بالمسح يخصون المسح بظاهر القدم فقط ويستثنون باطنها .

10- كما أننا نقول : أنه لا تعارض بين القراءتين من جهة الدلالة على المعنى الشرعي الموافق للأدلة الصحيحة حيث أن القراءتين تشيران إلى حالات القدم،

فهي إما عارية فتغسل وجوباً ،
وإما مغطاة بخف أو نعل فهنا يُكتفى بالمسح كما في باب المسح على الخفين من أبواب الطهارة وهذا توجيه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ،

والروافض لا يرون المسح على الخف مطلقاً بل يرونه على الرجل العارية ، مع أن الأدلة في سنية المسح على الخفين متواترة والله المستعان.

ولذلك فإن أهل السنة يوردون هذه المسألة في كتب العقائد لأن المخالف هم أهل البدعة الروافض ..

11- ومن جهة أخرى أن المسح في اللغة قد يطلق ويراد به الغسل قال ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الأثر ( ومنه الحديث [ أنه تمَسَّح وصلَّى ] أي تَوضَّأ . يقال للرجُل إذا توضَّأ : قد تَمسَّح . والمَسْحُ يكُونُ مَسْحاً باليَدِ وغَسْلاً ) أ.هـ

وكذا قال ابن الجوزي في غريب الحديث .

وفي تاج العروس للزبيدي يقول : ( ونقل شيخنا هذه العبارة [ يعني عبارة ابن الأثير] بالاختصار ثم أتبعها بكلام أبي زيد وابن قتيبة ما نصه :
قال أبو زيد : المسح في كلام العرب يكون إصابة البلل ، ويكون غسلاً يقال مسحت يدي بالماء إذا غسلتها وتمسحت بالماء إذا اغتسلت .
وقال ابن قتيبة أيضاً : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمد فكان يمسح بالماء يديه ورجليه وهو لها غاسل قال : ومنه قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) المراد بمسح الأرجل غسلها ..) أ.هـ

12- ومما يدل على صحة استعمال لفظ المسح مكان الغسل ما رواه النسائي في سننه والترمذي في الشمائل والبيهقي في السنن وصححه الألباني عن النزال بن سبرة قال :

أتي علي رضي الله عنه بكوز من ماء وهو في الرحبة فأخذ منه كفا فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح وجهه وذراعيه ورأسه
ثم شرب منه وهو قائم ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل .

ومعلوم أنه لم يقل أحد من أهل القبلة بالمسح على بقية الأعضاء كالوجه واليدين مما يدل أن استعمال لفظ المسح قد يقصد به عندهم الغسل الخفيف بدليل قوله في آخر الحديث (هذا وضوء من لم يحدث) ..

وهذا ما استدل به الحافظ ابن كثير في قوله عن المسح أنه غسل خفيف . وفي مغني ابن قدامة (قال أبو علي الفارسي : العرب تسمي خفيف الغسل مسحاً ، فيقولون : تمسحت للصلاة أي توضأت .
وقال أبو زيد الأنصاري نحو ذلك )أ.هـ

13- وقال الشيخ العثيمين في شرحه على زاد المستقنع (( وأما قراءة الجر؛ فمعناها : اجعلوا غسلكم إياها كالمسح ، لا يكون غسلاً تتعبون به أنفسكم ،
لأن الإنسان فيما جرت به العادة قد يكثر من غسل الرجلين ودلكها ؛ لأنها هي التي تباشر الأذى فمقتضى العادة أن يزيد في غسلها ،

فقصد بالجر فيما يظهر كسر ما يعتاده الناس من المبالغة في غسل الرجلين ؛ لأنهما اللتان تلاقيان الأذى.) أ.هـ

14- وعلى عكس هذا المعنى يتجه ترجيح ابن جرير الطبري حيث وجه الآية بأن المعنى منها وجوب الدلك

فكأنه قال خُصت الرجل عن الوجه واليدين بإضافة المسح وهو ما يعني إمرار الماسح وهي اليد ،
فيكون المطلوب دلك الرجل عند الغسل ، ولا يكتفي بمجرد إمرار الماء عليها الذي هو الغسل المجرد .
فيكون الأمر بالمسح عنده تأكيداً للغسل لأن الغسل هو إمرار الماء ولا يشترط فيه إمرار اليد فأضافها إليه ليكون المتوضئ ماسح غاسل ..



إلا أن كلامه هذا قد اشتبه على من بعده من الفقهاء والمفسرين فعدوه مخالفاً لفقهاء المسلمين في هذه المسألة ، حيث نسبوا إليه التخيير بين المسح والغسل.



ولكن المتدبر في كلامه يعرف أنه لم يُرد ما فهم عنه ، ولذلك دافع عنه ابن كثير ونبه لهذا الأمر ..

كما أنه قد روي عن بعض السلف ما يوهم موافقة في ذلك قال ابن كثير عنها : (فهذه آثار غريبة جدًا، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف) أ.هـ


والله تعالى أعلم وأحكم


وكتبه
أبو محمد
6/9/1430هـ
الموافق : 27/8/2009م