بسم الله الرحمن الرحيم


مبادئ علم الفرائض :

مبادئ العلم :
المبادئ لغة : جمع مبدأ ، والمبدأ من حيث الصناعة الصرفية اسم مكان البداية ، والبداية لغة :الشروع في الشيء ، ويقال في حد مبادئ العلم في الاصطلاح:هي جملة المعارف المراد تحصيلها عند الشروع في الفن .
ومبادئ العلوم عشرة ، جمعها محمد بن علي الصبان المكي - رحمه الله - بقوله :

إن مبادئ كل علمٍ عشره ** الحدُ والموضوعُ ثم الثمره


ونسبةٌ وفضلُهُ والواضعُ ** والاسمُ الاستمدادُ حكمُ الشارعْ


مسائلٌ والبعضُ بالبعضِ اكتفى ** ومَنْ درى الجميعَ حازَ الشَّرفَا .

المبدأ الأول: حده :
والحد لغة :المنع ، ولهذا سمي البواب حدادا ؛لأنه يمنع من الدخول ، وفي الاصطلاح :الجامع المانع ، أي الجامع لجميع أفراد المحدود المانع من دخول غيرها فيه .

قال الجلال السيوطي-رحمه الله-في الكوكب الساطع :


الجامع المانع حد الحدِ ** وذو انعكاسٍ إن تشا والطردِ.

والبحث في الحدود يرجع إلى مبحث التصورات عند المنطقيين ، والتصور لغة :ارتسام الصورة في الذهن، وفي الاصطلاح : إدراك حقيقة المفرد ، وجرت العادة عند أرباب الفنون بتقديم الحد على غيره من المبادئ ، وذلك لأنه من باب التصور ، وبقية المبادئ من باب الأحكام (( والأحكام جمع حكم ،وهو لغة المنع ،وفي الاصطلاح عند المناطقة : إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ))، والقاعدة : [أن الحكم على الشيء فرع تصوره]، والشأن في الفرع من حيث الترتيب العلمي أن يؤخر في الذكر.
وسأتكلم - إن شاء الله - عن هذا المبدأ في ثلاثة مبحاث :
المبحث الأول:
حد علم الفرائض في اللغة :
جرت عادة العلماء بتقديم الحد اللغوي على الحد الاصطلاحي ،وذلك لأن اللغة سابقة على الاصطلاح ، والاصطلاح حادث بعدها ، والشأن في الترتيب العلمي تقديم السابق .
والفرائض لغة : جمع فريضة ، وفريضة من حيث الصناعة الصرفية فعيلة بمعنى مفعولة ،أي مفروضة ، وهذه اللفظة مشتقة من الفرض ، والفرض لغة يطلق على معانٍ منها : (( الواجب ، والمقدر ))، وشاهد إطلاق الفرض بمعنى الواجب في لغة العرب : ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يأيها الناس قد فرض الله عيكم الحج فحجوا )، فقوله قد فرض: أي أوجب .
( والصحيح من أقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى - أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة في اللغة مطلقا ، سواء كانت من جوامع الكلم ، أو من الطوال خلافا لابن الضائع ، وفي جوهر الأدب للبغدادي : ابن الضائع قوله ضائع ، أي في هذه المسألة ).
وشاهد إطلاق الفرض بمعنى المقدر : قوله تعالى : ( فنصف ما فرضتم )، فقوله : ما فرضتم : أي قدرتم من المهر ، وذلك فيما إذا طلقتم قبل الدخول وقد سميتم المهر.
المبحث الثاني:
حد علم الفرائض في الاصطلاح: حُد علم الفرائض في الاصطلاح بعدة حدود منها:
1-(( علم يعرف به كيفية توزيع التركات على مستحقيها )).
وقد تضمن هذا الحد لفظة غريبة لا يمكن تصوره على وجهه إلا بعد العلم بمعناها ، وهي لفظة التركات ، وإليك بيان معناها : التركات في اللغة :جمع تركة ، والتركة من حيث الصناعة الصرفية مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي المتروك ، والترك : الإبقاء ، وفي الاصطلاح :اختلف العلماء رحمهم الله تعالى - في حدها على قولين اثنين :
القول الأول : أن التركة هي : كل ما خلفه الميت من الأموال والحقوق والمنافع ولاختصاصات ، وهذا مذهب الجمهور.
( الأموال : جمع مال : وحده عند الفقهاء :عين مباحة النفع من غير حاجة ، وقولهم : من غير حاجة : قيد يريدون به إخراج نحو الكلب المأذون في اقتنائه ، فإنه لا يسمى مالا بل اختصاصا ) .
القول الثاني : أن التركة هي : كل مالٍ خلفه الميت ، وهذا مذهب الحنفية .
وسيأتي الكلام عن هذه المسألة - إن شاء الله تعالى - عند البحث في أركان الإرث .
* العلاقة بين الحد اللغوي والاصطلاحي بالنسبة للتركة :
-العلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالحد اللغوي أعم من الحد الاصطلاحي فهو صادق على كل باقٍ ، والحد الإصلاحي خاص بما يبقى من مال الآدمي بعد موته .
مسألة /لماذا يبحث العلماء العلاقة بين الحد اللغوي الوضعي والحد الإصلاحي الشرعي؟ .
( العَلاقة والعِلاقة بالفتح والكسر، قيل : معناهما واحد ، وقيل العَلاقة في المعنويات ، والعِلاقة في المحسوسات أو المحسات ، ومثلها الدَلالة والدِلالة ) .
الجواب /أن الحد الاصطلاحي الشرعي ضرب من المجاز بالنسبة للغوي ، والتجوز من شرط صحته وجود علاقةٍ بين المعنى الحقيقي والمجازي .
2-وحُد علم الفرائض أيضا بأنه : (( فقه المواريث وحسابها )) .
وقد تضمن هذا الحد أيضا لفظة غريبة ، لا يمكن تصوره على وجهه إلا بعد العلم بمعناها ، وهي لفظة المواريث ، وإليك بيان معناها :
المواريث في اللغة : جمع ميراث ، وهي من حيث الصناعة الصرفية مصدر للفعل وَرِث على زنة مفعال ،أصلها مِوْراث ، فقلبت الواو ياءً ؛ لأنها جاءت ساكنة بعد كسر ، فهي بمعنى الإرث .
وفي الاصطلاح :حق قابل للتجزيء يثبت لمستحق بعد موت من كان له لقرابة أو زوجية أو ولاء .
وقد تضمن هذا الحد أركان الأرث ، وهذا تضمنٌ لازم لصحته ، لأن الركنَ داخلٌ في الماهية ،وأركان الإرث ثلاثة ، قال البرهاني -رحمه الله- :

(( ووارث مورث موروث ** أركانه ما دونها توريث )) .

فقوله في الحد : حق قابل للتجزيء ، هذا الركن الأول : ( الموروث ) ، وقوله لمستحق هذا الركن الثاني : ( الوارث ) ، وقوله : من كان له هذا الركن الثالث : ( المورث ) ، وقوله : لقرابة أو زوجية أو ولاء ، هذه أسباب الأرث ، وسيأتي الكلام عليها - إن شاء الله تعالى - في محلها .
* العلاقة بين الحد اللغوي والاصطلاحي بالنسبة للمواريث :
-العلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالحد اللغوي أعم من الحد الاصطلاحي فهو صادق على كل بقاءٍ وانتقال ،
والحد الاصطلاحي خاص ببقاء الشيء الموروث ، وانتقاله إلى الورثة .
المبحث الثالث:
*العلاقة بين الحد اللغوي والاصطلاحي بالنسبة لعلم الفرائض :
-العلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالحد اللغوي أعم من الحد الاصطلاحي فهو صادق على كل واجب ومقدر ، والحد الاصطلاحي خاص بالواجب والمقدر في الميراث .
المبدأ الثاني : اسمه :
والاسم : ما يعرف به الشيء ، واختلف في اشتقاقه ، فقال الكوفيون : مشتق من الوسم وهو العلامة، وقال البصريون : مشتق من السمو وهو العلو ، وعلى كلٍ فالاسم سمة توضع على الشيء يعرف بها ، والاسم يعلو على المسمى ، ويدل على ما تحته من المعنى .
ويظهر مما سبق في المبدأ الأول أن هذا العلم يمكن أن يسمى بعلم الفرائض ، وعلم المواريث ، وعلم التركات ، وعلى هذا جرى اصطلاح أهل الفن ، فهذه الألفاظ الثلاثة : ( علم الفرائض ، وعلم المواريث ، وعلم التركات ) أسماء لمسمى واحد ، ويسمى هذا بالترادف الاصطلاحي ، وهو نظير الترادف اللغوي الوضعي .
( الترادف اللغوي : أن يضع العرب لفظين فأكثر بإزاء معنا واحد ) .
والغرض من هذا المبدأ أن يميز المتعلم بين هذا الفن وغيره من الفنون ، وتعدد الأسماء للفن الواحد كما هو الحال في علم الفرائض قد يقتضي حصول اللبس في الفهم بظن المغايرة بين أسمائه في المعنى ، وشواهد الواقع قاضية بذلك.
المبدأ الثالث : موضوعه :
والموضوع لغة : اسم مفعول من الوضع ضد الرفع ، ويقال في حد الموضوع في الاصطلاح : هو محل بحث العلم ، وعرفه قطب الدين الرازي بأنه :( ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية ،كبدن الإنسان لعلم الطب فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض ) .
وعلم الفرائض يبحث في التركات من جهة قسمتها ونصيب كل وارث منها ، وتقدم معنا بيان معنى التركة لغة واصطلاحا، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - عن نصيب الورثة ، وأن هذا النصيب منه ما هو مقدر تقديرا معلوما ، وهو الإرث بالفرض ، ومنه ما ليس كذلك وهو الإرث بالتعصيب .
المبدأ الرابع : ثمرته :
الثمرة لغة : واحدة الثمر ، وهو في الأصل ما ينتجه الشجر ، ثم تجوز به عن كل نافع ينتج عن الشيء ، ويقال في حد ثمرة العلم في الاصطلاح بأنها : الغاية المقصودة من العلم.
وثمرة علم الفرائض - أي الغاية المقصودة منه - إيصال الحق من التركة لمستحقه ، والمراد بالحق : ( المال الموروث ) ، وتقدم المراد بالتركة ، والمراد بالمستحق : ( الورثة ) سواء كان إرثهم بالفرض أو التعصيب .
والبحث في ثمرة العلم وغايته أمر مهم جدا ؛ لأن المرء بهذا ينزه فعله الذي هو الجد في تحصيل علم ما عن العبث ، ويكون حينئذ ( أي حين علمه بثمرة العلم الذي يطلبه ) سائرا على جادة العقلاء .
المبدأ الخامس : نسبته :
النسبة لغة : مصدر للفعل نَسَبَ ، وهي في الأصل : عزو المرء إلى أبيه وإضافته له ، ثم تجوز بها فاستعملت في كل إضافة وعزو .
ويقال في نسبة العلم في الاصطلاح :عزو العلم إلى أصله من العلوم .
والعلوم المدركة كثيرة منها ما هو قطعي ، ومنها ما هو ظني ، والقطعي منه ما هو ضروري لا يقع عن نظر واستدلال ، ومنه ما هو نظري يقع عن نظر واستدلال ، وهي أيضا تنقسم إلى علوم جامعة يندرج تحتها علوم كثيرة ، وعلوم جزئية ليست كذلك ، ومن الضروري إرجاع العلم الجزئي إلى العلم الجامع ، وذلك لأنه ثمة معنى كلي بين تلك العلوم الجزئية - أي المندرجة تحت العلم الجامع - يدرك عند النسبة .
ونسبة علم الفرائض أنه من العلوم الشرعية ، وبناءا على ذلك فله من الخصائص والأحكام ما لها.
المبدأ السادس : واضعه :
الواضع لغة :اسم فاعل من الوضع ، وهو في الأصل ضد الرفع ، وتجوز فيه فاستعمل فيمن ابتدأ الشيء لعلاقة ، وفي الاصطلاح : من ابتدأ العلم تقريرا .
والواضع لعلم الفرائض هو الله سبحانه وتعالى ، فقد تولى سبحانه تعالى قسم المواريث بنفسه في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويقبح بطالب العلم أن يكون جاهلا بواضع العلم الذي يطلبه ، والعلم بالواضع قد لا يكون ذا أهمية ، وقد يكون مهماً كما هو الحال هنا ، فالعلم بالواضع هنا - أظهر لنا فضل هذا العلم وشرفه .
المبدأ السابع : استمداده :
الاستمداد لغة : استفعالُ طلبٍ من المدد ، والمدد العطاء ، وفي الاصطلاح : محل أخذ العلم وموطن استفادته . والغرض من هذا المبدأ العلم بما يصلح أن يكون دليلاً لإثبات مسألة من مسائله ، وما ليس كذلك ، وعلم الفرائض يستمد من : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
وعلم الفرائض يستمد من الكتاب بالاتفاق ، وذلك من ثلاث آيات ، الآية الأولى : هي الآية الحادية عشر من سورة النساء ، وهي قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ... ) ، والآية الثانية : هي الآية لثانية عشر من سورة النساء ، وهي قوله تعالى : ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد ... ) ، والآية الثالثة : هي الآية الأخيرة من سورة النساء ، وهي قوله تعالى : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ... ) ، واختلف العلماء في استمداده من قوله تعالى : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ... ) ، الآية الخامسة والسبعون من سورة الأنفال ، والخلاف في استمداد علم الفرائض منها راجعٌ إلى الخلاف في توريث ذوي الأرحام ، وسيأتي بحث ذلك في محله - إن شاء الله تعالى - .
وعلم الفرائض مستمدٌ من السنة بالاتفاق ، وذلك من أحاديث كثيرة منها :
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين مرفوعا : (ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر ) ، وفي رواية عند مسلم ( اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله ، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) ، فهذا الحديث أصل في الإرث بالتعصيب ، وأن العصبة يقدم منهم الأولى إلى الميت أي الأقرب ، وسيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى - في مبحث العصبات ، وعند الكلام على القواعد المنظمة للترجيح بين العصبة ، وهي : الترجيح بالجهة ، والدرجة ، والقوة .
- ومنها حديث أسامة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعا : ( لا يرث المؤمن الكافر ، ولا يرث الكافر المؤمن ) ، فهذا الحديث أصل في أن الكفر مانع من الإرث ، وسيأتي بحثه بالتفصيل في مبحث موانع الإرث إن شاء الله .
- حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين مرفوعا : ( إنما الولاء لمن أعتق ) ، فهذا الحديث أصل في الإرث بالولاء ، وسنبحثه إن شاء الله في مبحث العصبات .
ولما كانت السنة يغلب عليها النقل الأحادي احتجنا إلى البحث في ثبوتها قبل البحث في دلالتها ، إذ الدلالة فرع الثبوت ، والأصل مقدم على الفرع ، وسيظهر لكم إن شاء الله بأن جماعة من الفقهاء قد استدلوا بأحاديث ضعيفة على بعض المسائل الفرضية ، وسنبين ضعف تلك الأقوال المبنية على تلك الأحاديث الضعيفة .
ومرادي بالإجماع - هنا الإجماع القطعي ، الذي دلت عليه قطعيات الشريعة من الكتاب والسنة ، فالإجماع دليل مؤكد لا مؤسس ، ومثل هذا ليس بمستغرب في الشريعة ، فإن قيل فما فائدته إذا كان الأمر كذلك ؟ ، الجواب : أن هذا من باب توارد الأدلة ، وشواهد التوارد في الشريعة كثيرة ، لا ينكرها أحد .
وسيأتي إن شاء الله بأنه قد ادعي الإجماع في بعض المسائل الفرضية ، وليس هو الإجماع المعتبر ، بل غاية الأمر أنه من باب عدم العلم بالمخالف ، أو قول البعض ، وسكوت البقية ، وهو المسمى بالإجماع السكوتي .
وقد اختلف في استمداد علم الفرائض من أقوال الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا الخلاف فرع عن الاحتجاج بقول الصحابي ، وهل هو حجة في إثبات الأحكام الشرعية أم لا ؟ ، الصحيح فيما أعتقد أنه ليس بحجة ، وبحث ذلك في الأصول .
ومن المسائل المبنية على قول الصحابي : العمريتان ، والمشركة ، وتوريث الجد مع الإخوة ، وتوريث ذوي الأرحام وتوريث الغرقى والهدمى ... إلخ .
المبدأ الثامن : حكمه :
أي حكم تعلمه ، والحكم في اللغة المنع ، وفي الاصطلاح : أثر خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين .
ولما كانت أفعال المكلفين لا تنفك عن حكم لله عز وجل فيها ، وكان التعلم فعلاً من أفعالهم احتجنا إلى معرفة حكم هذا التعلم ، وتعلم علم الفرائض فرض كفاية ، والفرض مرادف للواجب اصطلاحا قاله الجمهور ، وخالف في ذلك الحنفية ، والحنابلة في رواية ، وحد الفرض في الاصطلاح : ما أمر به الشارع على سبيل الإلزام ، وهو ينقسم باعتبار الفاعل إلى قسمين : أ / فرض عين : وهو الذي يطلب من كل مكلف بذاته . ب / فرض كفاية : وهو الذي يطلب تحصيله من مجموع الأمة ، بحيث إذا قام به من يكفي ( ولا يقال البعض لأن مطلق البعض قد لا تحصل به الكفاية ) سقط الإثم عن الباقين ، وإذا تركوه جميعا أثموا جميعا .
والدليل على أن تعلم علم الفرائض فرض كفاية : حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين مرفوعا : (ألحقوا الفرائض بأهلها ... ) ، وفي رواية : ( اقسموا المال بين أهل الفرائض ... ) .
وجه الاستدلال به على الوجوب من قوله : ألحقوا ، اقسموا ، فهذا أمر ، والأمر المطلق للوجوب ، فيجب القسمة والإلحاق على هذه الصفة ، وهي لا تتم إلا بتعلم علم الفرائض ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ومأخذ كونه للكفاية : هو عدم تصور الشركة فيه ، وما كان كذلك فهو فرض كفاية .
المبدأ التاسع : فضله :
أي فضل تعلمه ، والفضل في اللغة : المزية الحسنة ، وفي الاصطلاح : المزايا الحسنة الحاصلة للمتعلم .
والبحث في فضل العلم قبل الشروع فيه من أعظم البواعث على تحصيله ، فالنفس في الواقع تتطلع لما تحقق فضله ، وحسنت عاقبته ، وفضل علم الفرائض يظهر لنا من جهة نصوص الكتاب والسنة الدالة على فضل العلم الشرعي عموما ، وقد تقدم معنا أن علم الفرائض من العلوم الشرعية ، ومن ذلك قوله تعالى : ( يرفع الله الذين امنوا منكم والذين ءاتوا العلم درجات ) ، ففي هذه الآية : أن الله عز وجل يرفع الذين ءاتوا العلم ، ومن رفعه الله فلا خافض له ، وفي تخصيص الذين ءاتوا العلم بالذكر مع دخولهم في عموم المؤمنين مزيد تأكيد لحصول الرفعة لهم ، ثم إن الرفعة درجات ، وليست درجة واحدة ، ومن ذلك أيضا حديث معاوية رضي الله عنه في البخاري مرفوعا : ( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ) ، ففي هذا الحديث : أن الفقه في الدين ومن ذلك العلم بالفرائض علامة على إرادة الله الخير بالعبد ، والنصوص الواردة في هذا الباب كثيرة ، ولا سبيل لحصرها هنا .
وقد ورد في فضل تعلم علم الفرائض على جهة الخصوص عدة أحاديث لكن كلها ضعيف لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنها :
- حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الترمذي والحاكم مرفوعا : (تعلموا الفرائض وعلموه الناس ، فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها ) ، وهو ضعيف ، في إسناده : سليمان بن جابر الهجري مجهول ، قال الذهبي : لا يعرف .
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجة وغيره مرفوعا : ( تعلموا الفرائض وعلموها ، فإنه نصف العلم وهو ينسى ، وهو أول شيء ينزع من أمتي ) ، وهو ضعيف جدا ، في إسناده : حفص بن عمر بن أبي العطاف رماه يحيى النيسابوري بالكذب ، وقال البخاري : منكر الحديث .
المبدأ العاشر : مسائله :
المسائل في اللغة : جمع مسألة ، وهذه اللفظة من حيث الصناعة الصرفية اسم مكان السؤال ، والسؤال معلوم ، والمسألة في الاصطلاح : ما يبرهن له في مبحاث العلم .
وقولنا : يبرهن له : أي ينصب عليه البرهان ، وهو الدليل .
ومسائل علم الفرائض ما يذكر في كل باب من أبوابه .

قاله / جلال بن علي السلمي .