بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد :
يكثر في كل سنة في شهر رمضان ، ولاسيما في آخره الكلام عن دعاء ختم القرآن في الصلاة ، هل هو من المشروع فعله ، أم أنه من المحدث الذي لا أصل له ؟ ، وقد وقفت على كتاب بعنوان : دعاء الختم في التراويح اختلاف وأدلة وترجيح . تأليف الشيخ / الشريف حاتم بن عارف العوني - حفظه الله - ، وكان لي عليه بعض الملحوظات ، فأحببت إبرازها نصحا لله ورسوله وعموم المسلمين ، وسأقتصـر إن شاء الله تعالى في هذا المقال على مناقشة كلامه في الجانب الاستدلالي فقط . هذا وأسأله سبحانه أن يغفر لي ذنوبي ، ويستر لي عيوبي .. آمين .
.............................. .............................. ....................
1- حصر الكاتب أدلة الاستحباب في جنسين اثنين ، الأول عنون له بقوله : ما ثبت في فضل الدعاء عقب ختم القرآن مطلقا ( دون تقييد له بكونه في الصلاة ) . وهذا العنوان فيه نظر من جهة أن ما ذكره من الأدلة المدعاة لا يصدق عليه وصف الإطلاق عند الأصوليين ، ومن ثم فلا يصح طردها واستعمالها في كل ما صدق عليه حقيقة اللفظ المطلق . ومأخذ ذلك : أنها من باب الأفعال ؛ وهي مما لا يوصف بالإطلاق على ما تقرر في الأصول . وعليه فيحتمل أنها وردت داخل الصلاة ( وهو ما يراد إثباته ) ، ويحتمل أنها وردت خارجها ، والقاعدة في الأصول : إذا ورد الاحتمال سقط الاستدلال . بل إن الكاتب حفظه الله استظهر أن أثر أنس رضي الله عنه ( وهو أقوى ما استدل به ) كان دعاءً خارج الصلاة لا فيها . ص 33 . بل إن منها ما ليس للدعاء فيه ذكر أصلا ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
2- قال الكاتب - حفظه الله - بعد ذكره لأثر أنس بن مالك رضي الله عنه : " ومثل هذا الأثر كاف لإثبات أن من أوقات إجابة الدعاء : الوقت الذي يكون بعد ختم القرآن ... " .
قلت : ليس في الأثر أن أنس رضي الله عنه أخبر بأن الدعاء عقب ختم القرآن من أوقات الإجابة ، بل غاية ما فيه أنه كان يدعو ، وقد يكون في دعائه هذا معتمداً على الأصل في الدعاء ، وهو المشروعية ...
فإن قيل : بأن أنساً رضي الله عنه لو لم يعتقد أنه محل للإجابة لما قصده بالدعاء ، وعليه فيستفاد كونه من أوقات الإجابة من فعله بواسطة دلالة الالتزام .
فالجواب : أن كل وقت من الأوقات هو مظنة لإجابة الدعاء ، قال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ... ) ، فلعل أنساً رضي الله عنه عول على نحو هذا ، والله أعلم .
لماذا عدل الكاتب عن إثبات مشروعية الدعاء بواسطة هذا الأثر إلى إثبات كون ذلك الوقت من أوقات الإجابة ؟! .
الجواب : أن القول بالمشروعية من الأمور التي يدخلها الاجتهاد ، وعليه فاحتمال اعتماد الصحابي فيها على التوقيف ليس من الظن الراجح الذي يصح اعتباره في الديانة عند الجمهور ، بينما دعوى كون وقت الختم من أوقات الإجابة أمر غيبي يتعلق بالله سبحانه وتعالى ، لا يمكن الوقوف عليه إلا بوحي ، ولا مجال لاحتمال أخذه عن بني إسرائيل الذين ورد النص بجواز التحديث عنهم ، لأن هذا أمر مختص بالقرآن ، ولا علاقة لهم به ...
وبناءا على ما سبق فتوصيف استدلال الكاتب ما يلي :
أن أنساً رضي الله عنه يرى أن وقت الختم من أوقات الإجابة ، وهذه مقدمة أولى .
وتوقيت الإجابة أمر غيبي لا يعرف بالعقل ، بل بالتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه مقدمة ثانية .
النتيجة : ثبوت كون وقت الختم من أوقات الإجابة ثابت بالتوقيف [ المرفوع الحكمي ] .
وعليه يشرع الدعاء في ذلك الوقت .
وقد قررت سابقا أن المقدمة الأولى التي ذكرها الشيخ - حفظه الله - ليست بصحيحة ، من جهة أن الأثر لا دلالة فيه على كون وقت الختم وقت إجابة ، ومن المتقرر أن بطلان المقدمة يلزم منه بطلان النتيجة ولا بد .
3- قال الشيخ بعد ذلك : ( وأنس بن مالك رضي الله عنه هو من لزم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات ، فالأرجح أنه لم يفعل هذا الفعل إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ) .
قلت : هذا التقرير لا يخلو من احتمالين اثنين :
الأول : أنه ذكره على أنه معاضد للتقرير السابق .
والثاني : أنه ذكره على أنه دليل مستقل في إثبات التوقيف .
وعلى كلا الاحتمالين فالاعتماد على طول الصحبة في إثبات التوقيف ضرب من الخرص الذي لا يصح اعتباره لا استقلالا ولاتبعا ، قال تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) . ولو جاز اعتبار مثل هذا لطرحت السنن ، وعورضت بأقوال الصحابة المخالفة لها ؛ لاحتمال كونها صادرة عن توقيف ، والظن بالمؤلف أنه يمنع هذا .
4- قال الشيخ : ( وإن ورد على مثل هذا الفعل احتمال حصوله اجتهاداً ( ونعني به اجتهادا خاطئا لا يستند إلى دليل صحيح ) ، فاحتمال كونه اجتهادا صحيحا هو الأرجح ، ومثله لا يكون اجتهادا صحيحا إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم يخرجه عن الابتداع ) .
قلت : ادعى المؤلف أن احتمال كونه اجتهادا صحيحاً هو الأرجح ، ولم يبين للقارئ وجه الترجيح ومأخذه ، مع أنه في مقام الإبطال للاحتمال الآخر ، ومثل هذا يسمى عند الجدليين بالتحكم ، وهو ممنوع ، وللمخالف أن يدعي العكس فيقول : احتمال كونه اجتهادا خاطئا هو الأرجح ، ولا يذكر دليلا ؛ معاملة له بمثل طريقته ، والجادة أن يرجح أحد الاحتمالين مع تسبيب ذلك .
5- قال الشيخ حفظه الله : ( ومثله لا يكون اجتهادا صحيحا إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم يخرجه عن الابتداع ) .
قلت : لا يخلو من أمرين :
الأول : أنه يقصد بالمثلية في قوله : ومثله لا يكون ... أي مثله في كونه أمرا غيبيا . وقد تقدم معنا الجواب عنه ، من جهة أن دعاء أنس رضي الله عنه مما يدخله الاجتهاد ، وأنه ليس من الأمور الغيبية ، إذ يُحتمل اعتماده على الأصل في الدعاء ، وهو المشـروعية . والله أعلم .
الثاني : أنه يقصد بالمثلية في قوله : ومثله لا يكون ... أي مثله في كونه أمر تعبديا . ولعل هذا هو الأقرب في مراده ، لئلا يكون تكرارا مع ما سبق . وتتميم استدلاله أن يقال : والصحابة لا يحصل منهم الابتداع . النتيجة : أنها توقيف . والجواب عن هذا : أنه لا يلزم من الوقوع في البدعة حصول وصف الابتداع . فلو فرضنا جدلا أن أنسا رضي الله عنه وقع في بدعة ، فلا يلزم منه أنه مبتدع ، وهذا معلوم . وهنا بحث : وهو هل يجوز وصف فعل الصحابي التعبدي ( بهذا القيد ) المخالف للنصوص الشرعية بالبدعة ؟ . الذي يظهر لي : أنه لا مانع من ذلك ، لأن وصف البدعة [ الفعل التعبدي الذي لم يرد به دليل ] صادقٌ على مثل هذا الفعل ، ولا محظور ، وكما سبق لا تلازم بين وصف الفعل والفاعل . وقد يجاب بجواب آخر وهو : أن البدع تجري مجرى المعاصي ، [ وفيها خلاف هل هي من الكبائر لحديث ( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) ، أو أنها من الصغائر ؟ ] ، والمعاصي بنوعيها جائز حصولها من الصحابة ، إذ قد وقعت ، والوقوع دليل الجواز . نعم من باب عدم إساءة الظن ينبغي حمل الفعل الذي قد يفهم منه البدعة على خلاف ذلك ما دام للتأويل فيه مدخل ، وليس هذا خاصا بالصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولكن يتأكد في حقهم لتزكية الله لهم ، ولعظيم فضلهم ، وإمامتهم في الدين . وقد تقدم معنا تأويل فعل أنس رضي الله عنه بأنه اعتمد على الأصل في الدعاء ، وهو المشروعية ، وقد يكون رضي الله عنه راعى الختم لكونه عمل صالح أراد أن يتوسل به في دعائه ، لا أن الختم محل لتأكد الدعاء .
6- قال الشيخ - حفظه الله - : ( أو بعبارة أخرى : ما دام الأصل في الصحابة البعد عن الابتداع ...) .
قلت : أراد المؤلف أن يبين في هذا مأخذ جزمه بالتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولماذا عمد إلى الخروج عن الابتداع ؟ ، فأخذ يقرر أن الصحابة رضي الله عنهم لا يقعون في البدعة ، فيتعين أنه توقيف . وعليه فليس هذا عين التقرير السابق من كل وجه . وفي تقرير المؤلف نظر ظاهر ، وهو أن أحتاط جدا في تقرير هذه المقدمة ، فلم يجزم بعدم وقوع الصحابة في البدعة ، مع العلم بأن الاستدلال لا يتم إلا بالجزم ، وإليك بيان ذلك :
* قال : (الأصل في الصحابة البعد عن الابتداع ) . قلت : ولم يقل لا يبتدعون . ومن المعلوم أن استعمال لفظ الأصل معناه ورود الاستثناء .
* قال : ( أشد الناس بعدا عن الوقوع في الخلل المنهجي الداعي إلى الوقوع في البدعة ) . قلت : لم يقل هم مبتعدون عن ذلك ، ثم إنه هنا نفى الوقوع في البدعة ، وفيما سبق نفى الابتداع بتقريره الأصل ، وهذا تغاير في التقرير غير مقبول ! ، لأن بين الأمرين فرق كما سبق .
* قال : ( وقوع هذا إذا ثبت نادر جدا ... ) . قلت : علق الوقوع على الثبوت ، ووصفه بالندرة وأكدها ، وبهذا يظهر أن المؤلف لا يتجاسر على نفي وقوع الصحابة في البدعة ، مع العلم بأن تقرير استدلاله هذا لا يتم له إلا بالجزم بذلك كما سبق .
7- ذكر الشيخ أثر مجاهد وعبدة بن أبي لبابة ، وفيه : ( كان يقال : إذا ختم القرآن ، نزلت الرحمة ... ) .
قلت : هذا الأثر مرسل ، والمرسل ضعيف للجهل بحال الساقط ، وبهذا قال أكثر الأصوليين . وفي تقويته بأثر أنس رضي الله عنه نظر من وجهين ، الأول : أن الضعيف لا يتقوى بضعيف مثله ، ومن قال بذلك فقد عمد إلى خلاف الأصل ، وعليه إثبات الدليل ، ولا دليل . الثاني : ليس في أثر أنس رضي الله عنه أن الختم محل لتنزل الرحمة ، وعليه فالتقوية قاصرة ، ومن المعلوم أن المؤلف يعول عليه ( أي : تنزل الرحمة ) في الاستدلال ، حيث قال : ( ففضلا عن كون باب الفضائل الغيبية أمرا بعيدا أن يقال باجتهاد أصلا ... ) . والمؤلف قوى الأثر بفعل هؤلاء النفر من التابعين رحمهم الله ، وليست هذه جادة في تقوية المرسل ، وبحثه في أصول الفقه والحديث .
8- ذكر المؤلف وفقه الله من الأدلة أثر مالك بن دينار أنه قال : ( كان يقال : اشهدوا ختم القرآن ) . قلت : لا يدرى من القائل ، فقد يكون مقطوعا أي مرويا عن بعض التابعين ، وعليه فلا حجة فيه . ثم إنه ليس فيه ذكر الدعاء ، وعليه فلا يصلح الاستدلال به . وما ذكره المؤلف من التلازم غير متجه ، فلا يلزم من الحث على شهود الختم الدعاء لأجله ، فقد يكون المقصود لظن حصول مغفرة مرتبة على ذلك مثلا ، وفي مثل هذا لا يصح أن نقول لا مزية لأول القرآن عن آخره ...
9- ذكر المؤلف وفقه الله من الأدلة أثر عطاء بن أبي رباح رحمه الله ...
قلت : في إسناده : محمد بن يزيد بن خُنيس مجهول ، قال في التقريب : مقبول يعني إذا توبع ، ولم يتابع . وقول أبي حاتم عنه : شيخ صالح ، لا يعد توثيقا . وعليه فليس بثابت . ورواية الفاكهي ( والتي اعتمادها في الاستدلال ) في إسنادها أيضا أبو عمرو الزيات مجهول ، والمتابعة التي ذكرها قاصرة بالنسبة للتكبير ، مع أنه استفاد منه في تقرير المشروعية لدعاء الختم كما هو ظاهر .
* ليس في أثر عطاء أي ذكر للدعاء فلا يصح التعويل عليه كما لا يخفى ، على أن المؤلف حول إيهام دلالته على الدعاء ولم يذكر مأخذه ، حيث قال : ( أن عطاء ... فارق بين الاجتماع لختم القرآن والتكبير عقب سورة الضحى ) .
* من الملاحظ على المؤلف أنه قد بالغ في توصيف الأشخاص القائلين بدعاء الختم لتقرير الاستدلال ، ومثل هذا مرفوض في تناول المسائل الخلافية . قال هنا في عطاء رحمه الله : وهو من سادات التابعين علما وفقها وتقى ، وقال في البخاري رحمه الله : إمام السنة وشيخ صنعة الحديث ، وهكذا . على أن ذكر هذه الأوصاف من تعريف الواضحات ، وهو تحصيل حاصل بالنسبة للقارئ .
* من المتقرر في الأصول عدم الاحتجاج بقول التابعي ، وقد حكي الاتفاق على هذا . والمصنف اعتمد في الاستدلال بالأثر على مجرد الفعل عن عطاء . والله أعلم.
* أخذ المؤلف بعد ذلك يتكلم عن وجه سكوت عطاء رحمه الله عن إنكار التكبير ، وأورد للإنكار ثلاثة احتمالات ... منها أنه قصد البدعة اللغوية . قلت : في أثر عطاء لم يرد ذكر لفظ البدعة أبدا ، بل وصفها حيث قال : ( ما كان القوم يفعلون هذا ) ، فكيف يقال قصد البدعة اللغوية ؟ !!! . الاحتمال الثاني قال فيه : ( يحتمل أنه أطلق عليه وصف البدعة ويعني بها البدعة الشـرعية ) . وهذا غلط آخر إذ لم يذكر لفظ البدعة أبدا . الاحتمال الثالث قال فيه : ( سكت عن الإنكار ، لأنه رأى أن للإنكار مفسدة أعظم من مفسدة السكوت عنه ، وقد يشهد لذلك أنه قد بين صعوبة قبول إنكاره بقوله : ( أنهى رجلا يقول الله أكبر ؟ ! ) . ) . وفي هذا نظر آخر ، إذ إن صعوبة قبول الإنكار لا تعد مفسدة ، قال تعالى : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .
10- ذكر المؤلف - وفقه الله - مجموعة من الآثار في الختم ومشـروعيته ، وعمل على تسويدها ، وهي خمسة أثار ، وليس فيها ذكر للدعاء ، وقد أقر بذلك ، حيث قال : ( وليس فيه ذكر دعاء الختم ) . وهذا غير مستقيم في سنن البحث ؛ لأنه أوردها تحت عنوان : ما ثبت في فضل الدعاء عقب ختم القرآن مطلقا . وعاملها معاملة الآثار التي ورد فيها ذكر الدعاء بتسويدها !! .
11- أورد المؤلف - وفقه الله - أيضا تحت هذا العنوان في آخره نقولا عن بعض العلماء فيها القول بمشروعية الدعاء ، كالنقل عن الإمام البخاري ، والإمام ابن الجزري رحمهما الله تعالى . والجادة أن يوردها تحت الفصل السابق الذي خصصه لأقوال العلماء في دعاء ختم القرآن .
12- ذكر الشيخ - وفقه الله - في آخر المبحث النتائج التي توصل إليها ، وهي محل نقاش ، وقد أجبت عنها في ما سبق .
13- ذكر الشيخ - وفقه الله – بعد ذلك الجنس الثاني من الأدلة الدالة على مشروعية دعاء الختم ، وعنون له بقوله : ما يدل على استحباب دعاء الختم في صلاة التراويح قبل الركوع . وذكر بأنه أصرح أدلة هذا الباب ، قال المؤلف : ( وهذا الدليل : هو الدليل الذي احتج به الإمام أحمد نفسه ، عندما ذكر أن ختم القرآن يكون بعد الفراغ من قراءة : ( قل أعوذ بالله برب الناس ) ، قبل الركوع . فسأله السائل عن حجته قائلا : ( إلى أي شيء تذهب في هذا ؟ فقال : رأيت أهل مكة يفعلونه ، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم ) ) . قلت : جزم المؤلف بأن هذا الكلام من الإمام أحمد معناه الاحتجاج بعمل أهل مكة ، وفي هذا الجزم نظر ؛ فالأمر يحتمل أكثر من احتمال : الأول : أن الإمام أحمد قاله احتجاجا بعمل أهل مكة ، كما قال المؤلف . الثاني : أن الإمام أحمد قاله تقليدا منه لسفيان بن عيينة رحمه الله ، وأهل العلم من أهل مكة ، حيث لم يظهر له في المسألة شيء . فإن قيل : مذهب أحمد عدم جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر ولو ضاق الوقت نص على ذلك في رواية الفضل ابن زياد ، فكيف يقال بورود هذا الاحتمال ؟ ! الجواب : قد يكون للإمام أحمد رحمه الله في المسألة قولا آخر ، وليس بمستنكر ، ومن مثل هذا تؤخذ اختياراته الأصولية ، ثم إن المؤلف وفقه الله قد أخذ أصلا كليا من هذا النقل ، وهو حجية عمل أهل مكة ، ولم يسبقه إليه أحد من الحنابلة ، ولا ذكروه في كتبهم الأصولية ، المعتنية بأصول الاستدلال عند الإمام رحمه الله . وعليه فلا يصح إضافة هذا الأصل إلى الإمام رحمه الله .
14- قال المؤلف وفقه الله : ( حتى أصبح القول باستحباب الختم قولا مرذولا عند عموم طلبة العلم ، مع جلالة من أيده على من عارضه عندهم ) . قلت : جلالة العلم لا أثر لها في رجحان القول ، فمثل هذا الكلام لا ينبغي إقحامه في هذا الموطن .
15- قال المؤلف وفقه الله : ( وكم من فتنة حصلت جراء هذا الغياب لوجه استدلال الإمام أحمد ... ) . قلت : الفتنة إنما تحصل بسبب عد العلم بالطريقة الشـرعية في تناول مسائل الخلاف ، وكيفية الإنكار فيها ، لا كما ذكر الكاتب .
16- قرر المؤلف وفقه الله عدم الإنكار في مسائل الخلاف ، بل بالغ مبالغة واضحة ، حيث ذهب إلى عدم جواز الإنكار ، وفي هذا الكلام نظر ظاهر ، لأنه مخالف للنصوص الشرعية الدالة على مشـروعية الإنكار ، حيث لم تفرق بين المنكر الاتفاقي والخلافي ، فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- عند مسلم في الصحيح مرفوعا: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ...» الحديثَ . ومن المضحكات أن أحدهم خالفني في هذه المسألة ، مسألة الإنكار في مسائل الخلاف ، فذكرت له هذا الحديث ، فأجاب بأن الفعل ليس منكرا عند المخالف ، فقلت له : هل تعمل بالنص بناءا على فهمك ، أما بناءا على فهم المخالف ؟ ! ، قال على فهمي وفهمه . قلت : في كل مسألة خلافية اعمل فيها بفهمك وفهم المخالف ، وانظر ما النتيجة ، فبهت .
17- تكلم المؤلف وفقه الله بعد ذلك بكلام طويل عمد فيه إلى تبرئة الإمام أحمد رحمه الله من ذهابه إلى هذا القول اعتمادا على عمل الناس المجرد ، وأورد لذلك أدلة ثلاثة !!! . الأول : أن الإمام أحمد هو الإمام في السنة المجاهد في حمايتها المجتهد في علومها ... الثاني : أن مصادر التشريع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وما يرجع إليها ، وهي لا تخفى على صغار الطلبة فضلا عن الإمام رحمه الله . الثالث : أنه من الإمام أحمد رحمه الله تعلمنا أن فعل الناس ليس بحجة ، وأنه من الإمام أحمد عرفنا أن الاستحباب لا يثبت بمجرد اجتهاد مجتهد ولا باستحسان جاهل أو عالم ... قلت : الإمام أحمد رحمه الله علم في السنة ، وأنا أقل من أكتب حرفا في فضله ، لكن لا بد من تقرير أمر مهم ، وهو أنه لا تلازم بين فضل العالم وعدم الخطأ في الاجتهاد ، ولا تلازم بين الإمامة في الدين ، وخفاء آحاد المسائل عن العالم ، وقد حصل ذلك للأئمة الخلفاء عليهم رضوان الله تعالى ، وأعلق على الأمر الثالث أو الدليل الثالث : بأن العبرة في مذهب العالم بقوله لا بفعله ، فإذا كان الإمام أحمد يقرر عدم جواز الاعتماد على عمل الناس ، كما يقول الشيخ وفقه الله ، فينبغي إضافته مذهبا للإمام أحمد رحمه الله ، وتقديمه على فعله . هذا على فرض اعتماده رحمه الله على العمل المجرد ، وقد تقدم أن بينت احتمال كونه رحمه الله قاله تقليدا لسفيان ، وأهل العلم من أهل مكة .
18- زاد المؤلف وفقه الله أمر رابعا في تقرير تبرئة الإمام أحمد رحمه الله من اعتماده على عمل الناس المجرد ، وهو أن القول بهذا يعد إضافة أصل من أصول التلقي لا تعرفه مصادر أهل السنة والجماعة ، والذي وصل حد المخالفة في مصادر التلقي ، إن وقع ... فلا يقع إلا من رؤوس أهل البدع وعتاتهم ... قلت : هذا منه حفظه الله مبالغة في التقرير ، ففرق بين تقرير الأصل وتبنيه ، وبين القول به مرة واحدة مثلا ، فقد يكون ذلك من باب الخطأ ونحوه . وقصد المؤلف من وراء هذه المبالغة تقوية المقدمة الأولى في استدلاله ، ألا وهي أن الإمام أحمد رحمه الله لم يعتمد على العمل المجرد ، وإنما على شيء آخر ، ولا شيء آخر غير أنه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قلت : فرضنا جدلا أن الإمام أحمد رحمه الله ظن اعتماد أهل مكة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يلزم من ذلك أنها سنة ، وأنهم اعتمدوا في ذلك على سماع قاطع ؟ الجواب : لا ، لأن الرواية يتوقف إثباتها على النقل المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الأمر كذلك هنا ، ولو كان في المسألة نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لبينه الإمام أحمد رحمه الله واعتمد عليه ، ولا سيما وقد زار أحمد رحمه الله مكة ، وأخذ عن علمائها كسفيان بن عيينة رحمه الله وغيره . وأنا أسأل ما الفرق بين مكة والبقاع الأخرى عدا المدينة في هذا الاحتمال ، وهو الاعتماد على رواية ؟ ! ، لا أعلم فرقا غير سكن بعض الصحابة لها ، وقد سكن الصحابة غيرها ، وعليه فيلزم أن تكون تلك الأمصار كذلك ، ولأظن المؤلف يقول بمثل هذا !!! . ومثل هذا الظن غير مقبول في إثبات الشـرع ، ودعوى الرواية ، قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) ، وقال : (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشـركوا بالله ما لم ينزل به سلطنا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) وقال : (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) ، وقال : (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) . وقال : (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) . وقال : (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) . وقال : (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون) ، وقال : حكاية عن الذين كفروا، على وجه الذم لهم : (إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين) ، وأمثال هذه الآيات كثير .
19- اعتمد المؤلف في تقرير الاحتجاج لعمل أهل مكة بالقياس على عمل أهل المدينة ، حيث قال : ( فالاحتجاج به صحيح كالاحتجاج الصحيح بعمل أهل المدينة الذي كان عليه الإمام مالك ... ) . قلت : نقل الشيخ حفظه الله في مبحث أقوال العلماء في المسألة عن الإمام مالك رحمه الله ، أنه سئل عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ، ثم يدعو ؟ فقال ما سمعت أنه يدعا عند ختم القرآن ، وما هو من عمل الناس ... ) . قلت : وعليه فعمل أهل المدينة لا دعاء للختم ، وعمل أهل مكة الدعاء للختم فأيهما سيقدم الكاتب ؟ ! ، وكيف سيفعل في حل هذا التعارض ؟ ! ...
20- تأملت المبحث الذي ذكره الشيخ حفظه الله وعنون له بقوله : مدى حجية عمل أهل مكة ... فوجدته مجرد نقول عن بعض العلماء لا يصح التعويل عليها في استفادة حجية عمل أهل مكة ومن الأصول المقررة : لا حجة في قول أحد من العلماء . ورأيته استدل بدليل واحد وهو حديث : ( الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة ) . قلت : هذا الحديث لا دلالة فيه على حجية عمل أهل مكة ، بل غاية ما فيه أن الوزن معتبر بوزنهم يعني من كان منهم في زمانه صلى الله عليه وسلم ، لأن غير الموجودين في ذلك الزمان لا يشملهم هذا اللفظ العام على ما تقرر في الأصول .
21- ذكر المؤلف وفقه الله في ص : 59 أن الإمام أحمد احتج بعمل أهل مكة في مسألة أخرى غير مسألة دعاء الختم في الترويح ، وهي مسألة الأذان ، وقد فهم ذلك من رواية أحمد حيث جاء فيها : ( أذان أبي محذورة أعجب إلي ، وعليه أهل مكة إلى اليوم ) . قلت : الذي يظهر أن هذا الفهم غلطٌ ، فهذا ليس تأسيسا لحكم بعمل أهل مكة ، إذ أذان أبي محذورة ثابت براوية ، وأحمد رحمه الله من رواتها ، ولا يبعد أن يكون قوله : ( وعليه أهل مكة إلى اليوم ) من باب الإخبار ليس إلا .
وأكتفي بهذا القدر ، والله تعالى أعلم .
كتبه / جلال بن علي حمدان السلمي .
غفر الله له ولوالديه وأهله .
10 / 9 / 1432 هـ .