متى يكون السحور:ـ
يسن في السحور التأخير إلى أن يتَبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بحيث يكون الوقت متسعا لتناول وجبة السحور، وكلما كان التأخير كلما كان الخير.
ـ فعن أم حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "عجلوا الإفطار وأخروا السحور". رواه الطبراني.
ـ وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم بينهما؟. قال: قدر خمسين آية". رواه البخاري ومسلم.
ـ وعن عائشة رضي الله عنها أن بلالا كان يؤذن بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر". قال القاسم ـ أحد رواة الحديث ـ ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا. رواه البخاري ومسلم.
ـ وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :"إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ـ أو قال ـ حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقول له الناس أصبحت. رواه البخاري ومسلم.
فدل ما سبق أن السنة التأخير في السحور، وأن مخالفَ ذلك مخالفٌ للسنة الثابتة القولية والفعلية.
ألا فليتنبه لهذا أقوام يأكلون عشائهم قبل نومهم، ثم لا يستيقظون لا لسحور ولا لغيره، بل قد تفوتهم صلاة الفجر وهم نائمون، نسأل الله السلامة والعافية.
تنبيه:ـ
وأما ما رواه ابن عدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا:" تسحروا من آخر الليل، وكان يقول: هو الغداء المبارك". فهو حديث ضعيف بيانه في السلسلة الضعيفة (1961).
متى ينتهي السحور:ـ
ينتهي وقت السحور بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، كما قال تعالى:" فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
وعندما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نزلت في أول الأمر دون الكلمة الأخيرة منها ـ من الفجر ـ فاجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في فهمها كما جاء عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عمدت إلى عقال أبيض وعقال أسود فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت له ذلك فقال:"إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار". رواه البخاري ومسلم.
ـ وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد "من الفجر" فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار". رواه البخاري ومسلم.
فَدلّ ذلك على أن وقت السحور ينتهي بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
فائدة :
واعلم أن الفجر فجران:
الأول فجر كاذب: وهو لا يحل صلاة الصبح ولا يحرم الطعام على الصائم، وهو بياض مستطيل ساطع مصعّد كذنب السرحان.
والثاني: فجر صادق: وهو الذي يحرم الطعام على الصائم ويحل صلاة الصبح، وهو أحمر مستطير معترض على رؤوس الشعاب والجبال، منتشر في الطرق والسكك والبيوت، وبهذا تتعلق أحكام الصيام والصلاة.
ـ فعن سمرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"لا يغرنكم في سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ـ يعني معترضاـ". رواه مسلم.
ـ وعن طلق بن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"كلوا واشربوا، ولا يهيدنكم الساطع المُصعِد، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر". رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه لا يحرم على الصائم الأكل والشرب حتى يكون الفجر الأحمر المعترض وبه يقول عامة أهل العلم.
ـ وروى هذا الحديث الدارقطني في سننه من طريق عبد الله بن النعمان السحيمي قال: " أتاني قيس بن طلق في رمضان في آخر الليل بعدما رفعت يدي من السحور لخوف الصبح، فطلب مني بعض الإدام، فقلت له:" يا عماه! لو كان بقي عليك من الليل شيء لأدخلتك إلى طعام عندي و شراب، قال: عندك؟ فدخل، فقربت إليه ثريدا ولحما و نبيذا، فأكل وشرب، وأكرهني فأكلت وشربت، و إني لوجل من الصبح، ثم قال حدثني طلق بن علي أن نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ...."فذكر الحديث".
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع [2/107ـ 108]: والفجر الأوَّل يخرج قبل الثَّاني بنحو ساعة، أو ساعة إلا ربعاً، أو قريباً من ذلك.
وذكر العلماء أن بينه وبين الثاني ثلاثة فروق:ـ
الفرق الأول: أن الفجر الأول ممتد لا معترض ـ أي ممتد طولا من الشرق إلى الغرب ـ والثاني معترض من الشمال إلى الجنوب.
الفرق الثاني: أن الفجر الأول يظلم ـ أي يكون هذا النور لمدة قصيرة ثم يظلم ـ والفجر الثاني لا يظلم بل يزداد نورا وإضاءة.
الفرق الثالث: أن الفجر الثاني متصل بالأفق ليس بينه وبين الأفق ظلمة، والفجر الأول منقطع عن الأفق بينه وبين الأفق ظلمة.
ثم قال: وهل يترتب على الفجر الأول شيء؟.
وأجاب: لا يترتب عليه شيء من الأمور الشرعية أبدا لا إمساك في صوم، ولا حل صلاة الفجر فالأحكام مترتبة على الفجر الثاني"أهـ.
تنبيهات :ـ
التنبيه الأول:ـ
إذا أذن المؤذن الأذان الثاني لطلوع الفجر الصادق والمسلم يشرب أو يأكل فلا يترك حتى يقضي منه حاجته، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه". رواه أحمد وأبو داود والحاكم.
ـ وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال:" أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر، قال: أشربها يا رسول الله؟ قال: نعم، فشربها". رواه ابن جرير في تفسيره بإسناد حسن.
ـ وعن بلال رضي الله عنه قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذنه لصلاة الفجر، وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم خرجنا إلى الصلاة". رواه أحمد وله شواهد يتقوى بها.
قال العلامة الألباني معلقا على كلمة النداء ـ من الحديث السابق ـ: يعني الأذان الثاني للفجر الصادق، بدليل زيادة أحمد وغيره عَقِبَ الحديث:"وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر". وهذه رخصة عظيمة من الله على عباده الصائمين"أهـ.
وقال رحمه الله في تمام المنة ص(417): وفيه دليل على أن من طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده أنه يجوز له أن لا يضعه حتى يأخذ حاجته منه، فهذه الصورة مستثناة من الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". فلا تعارض بينها وما في معناها من الأحاديث، وبين هذا الحديث ولا إجماع يعارضه، بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إلى أكثر مما أفاده الحديث، وهو جواز السحور إلى أن يتضح الفجر وينتشر البياض في الطرق راجع الفتح (4/109ــ110)".أهـ.
فالحاصل أنه ينبغي للمسلم أن يؤخر سحوره ما استطاع إلى ذلك سبيلا حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فإن كان في مكان يؤذن فيه المؤذن على الوقت ـ أي عند التبين ـ فإنه يمسك حين يسمع الأذان، إلا إذا كان قد بدأ في الأكل أو الشرب قبل الأذان فليستمر فيه حتى يقضي حاجته ولا يزيد عن الحاجة، هذا خلاصة الباب وبه تجتمع الأحاديث، والله ولي الهداية والتوفيق.
التنبيه الثاني:ـ
إعلم ـ علّمك الله ـ أن الناس قد ابتدعوا ما يسمى بالإمساك، وذلك بأن يمسكوا عن الأكل والشرب قبل طلوع الفجر بمقدار ربع ساعة أو أكثر بزعم الاحتياط، وهو أمر محدث وبدعة في الدين ليست من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل كان هديه على خلافها ـ كما تقدم من الأحاديث ـ فاحذر البدعة ودع الإستحسانات بلا أدلة, وعليك بالسنة فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الحافظ في الفتح (4/249ـ250): من البدع المنكرة ما حدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على من يريد الصيام، زعما ممن أحدثه انه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذنون إلا بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت ـ زعموا ـ فأخروا الفطر وعجلوا السحور وخالفوا السنة، فلذلك قلّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان"أهـ.
وقال الألباني في تمام المنة ص(418): تعليقا على حديث أبي هريرة السابق في التنبيه الأول:.. وإن من فوائد هذا الحديث إبطال بدعة الإمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة لأنهم إنما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحرون، ولو علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة فتأمل"أهـ.
التنبيه الثالث:ـ
الأفضل أن يكون السحور تمرا أو فيه تمر، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :"نعم سحور المؤمن التمر". رواه أبو داود والبيهقي وابن حبان.
التنبيه الرابع:ـ
أ/ وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه وأبو داود في مراسيله عن جابر رضي الله عنه قوله:" أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتسحر، فجاءه بلال رضي الله عنه فقال: الصلاة يا رسول الله! فسكت فلم يرجع شيئا،(وفي رواية: فثبت كما هو يأكل، ثم أتاه فقال: الصلاة! وهو على حاله). فرجع بلال الثالثة فقال:" الصلاة يا رسول الله! فقد والله ! أصبحت. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" رحم الله بلالا، لولا بلال لرجوت أن يرخّص لنا إلى طلوع الشمس". فهو حديث ضعيف بيانه في الضعيفة رقم (6452).
ب / وكذلك ما جاء عند ابن عدي عن أبي الدرداء مرفوعا:"تسحروا من آخر الليل، وكان يقول: هو الغداء المبارك ". فهو حديث ضعيف بيانه في السلسلة الضعيفة رقم (1961).
(التمام في بيان أحكام الصيام)