نشأ في وحل الرذيلة ، تمرغ في مستنقع الخطيئة، أظلمت الدنيا في عينيه ، لم يعرف للفضيلة طريقا ، ولم يجد في الدنيا نورا ، تخبط حتى أعيا نفسه .
وفجأة وَجَدَ يداً حنونة تمسكه ، وقلباً رؤوفاً يحنو عليه ، وجد من يضيء له الطريق ، ويعيد إليه الأمل فإذا به محافظاً على الفضيلة مستمسكاً بها ، تغيّرت حياته ، توسعت مداركه ، تفتحت بصائره ، وفجأة وكعادة البشر يختلف مع الآخرين ، وتختلف وجهات النظر ، ولكنه نسي أو تناسى حاله قبل تلك اللحظات الفارقة ، فنسي الجميل ممن كان سبباً في حياته مرة أخرى أعني حياة الإيمان والاستقامة(أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) فهجر مربيه وعبس في وجهه ، ولوى عنق النصوص مبرراً هجرانه ومواقفه ، يستأْسِدون على القريب وللعدوّ أرانبُ
هذا هو حال بعض الناس ممن لا يجعلون للوفاء وجوداً ، ولا يردون للمحسن إحسانا ، ونسوا أو تناسوا أخلاق المربي الأعظم الذي تعامل بالوفاء وجعله خلق الأتقياء النجباء ، بل لم ينس عليه الصلاة والسلام الوفاء حتى مع المشركين .
فقد جاء في صحيح البخاري ، أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِىٍّ حَيًّا ثُمَّ كلمني في هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"، وذلك لأن المطعمَ بنَ عدي أجار النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة قبل الهجرة، فلم ينس ذلك الجميل ولم يجحد ذلك المعروف حتى مع المشرك ، فكيف بالمسلم ؟!
وفَى النبي صلى الله عليه وسلم لصهره أبي العاص زوْج ابنتِه زينب، وهو أبو أمامة التي كان يَحملها في صلاته؛ حيثُ أطلقه بلا فداءٍ بعد بدْر لما عرف له من كفِّ يدِه ولسانه، فما سُمِعَ له صوتٌ في بدر، وما شُوهد له جولة، وما علم له موقف قطّ في مقاومة الدَّعوة ، بعثتْ زينب في فدائه بقلادة قلَّدتها بها أمُّها خديجة يوم زفَافِها، فلمَّا رآها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رقَّ لها رِقَّةً شديدة، وفي مظهرٍ من مظاهر الرَّحْمة بابنتِه وتذكّر لصاحبة القلادة يَحمل في طيِّه مقصدًا دعويًّا، وهو تألّف أبي العاص على الإسلام، قال: ((إنْ رأيتُم أن تُطْلقوا لها أسيرَها وتردُّوا عليْها الَّذي لها)) فقالوا: نعم ونعمةُ عين.
وَرَاضُوا عَلَى حُبِّ الحَبِيبِ نُفُوسَهُمْ فَكَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ ذَاكَ التَّقَرُّبُ
وفى النبي صلى الله عليه وسلم لعمِّه أبي طالب الذي ربَّاه حتَّى بلغ أشدَّه وأعانه على إبلاغ رسالة ربِّه، ومنعه من سُفهاء قومه، فلم يخلصوا إليْه بسوء في حياتِه، لمَّا حضرتْه الوفاة اهتزَّت مشاعر الوفاء في قلْب النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم فحرصَ كلَّ الحرصِ على نفعِه في إنقاذه
إن الوفاء التزام نبيل من نفسٍ فاضلة، بسبب معروف أُسدِيَ إليها، أو تعهد قامت به، إن هذا الدين العظيم يعلمنا كيف ننشر هذه القيمةَ الرائعة، وكيف نتعامل مع أصحاب الفضل علينا.
أليس من العيب أن يمر طالبٌ على أستاذه الذي علّمه؛ فلا يعيره اهتمامًا، ولا يُظهرًا له احترامًا، ولا يقوم له بواجب الوفاء، بل يجحده وينصب له العداء ، لا يا معاشر الشباب، ليس هذا مِن أخلاقنا.
إلى أخلاق القرآن يا شباب الإيمان، في سيرة وشمائلِ مَن خُلقه القرآن.
ف َبِذِي الأَخْلاقِ قُدْنَا أُمَمًا وَتَحَدَّيْنَا بِهَا أَعْدَى الأَعَادِي
عُدْ إِلَيْهَا رَافِعَ الرَّأْسِ وَقُلْ: هَذِهِ قَافِلَتِي وَالزَّادُ زَادِي
إن داء المسلمين منهم؛ لا تلام العواصف حين تحطم شجرةً نخِرةً في أصولها، إنَّما اللَّوم على الشَّجرة النخرة نفسها.
ما أحوجَنا اليوم إلى تلقِّي هذه الدروس العظيمة في الحفاظ على الودِّ وحسن العهد والعيش في ظلال: {وَلا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
مَنْ حَادَ عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ الغُرِّ لَيْسَ بِسَالِمِ
وكتبه
مطيع عبد الله باكرمان