الأدب العربي

بقلم الطالب عبد الرحمن محمد الأنصاري

من بين الكتب التي أتيحت لي قراءتها هذه الأيام، وسعدت بلقائها كتيب صغير الحجم لا تربو صفحاته على (54) وهو مع ذلك قد وفق مؤلفه الفاضل في الوصول إلى الهدف الذي رمي إليه.

ذلك هو (( الأدب العربي في ظل القومية العربية )) لمؤلفه الدكتور محمد محمد حسين، وبما أن مقاييس الناس في ما ينتجون، وما يحسنون، لا في شخصياتهم المجردة فإنني لا أقول كلمة واحدة عن المؤلف الفاضل.. وإنما أكتفي بتسليط الضوء من كوة ضيقة جدا عل متعطشا إلى نمير المعرفة يهتدي ببصيصها إلى أدبنا الخالد، وما يقال عنه من أراجيف كان للأعداء اليد الطولى في ترويجها.

طبع الكتاب مرتين، أولاهما سنة 1379هـ وثانيهما في سنة 1389هـ، وقد شاء الله ألا ألقاه إلا بعد أن أكمل من سنيه عشرا رغم حرصي الشديد على الكتب التي تنحو منحاه..

تكلم المؤلف الفاضل في فاتحة بحثه عن القومية العربية بأسطر مقتضبة بلغت في مطابقتها لمقتضى الحال ما لا أجد معه إلا رسمها أمامك أيها القارئ الكريم.

إن أكثر الناعقين والمتشدقين بـ (( القومية العربية )) إنما هم: ما بين مأجور، وراءه أموال من خزائن العدو، وبين متعلق لسلطان يردد ما يذهب إليه ويرضاه..

وهذه لعمر الله حقيقة لا ينكرها إلا المبطلون المعاندون.

وأزيدك أن الويلات التي منيت بها أمتنا في أي حقبة، وبخاصة الحقبة الأخيرة، إنما مردها إلى مضغ هذه العلكة الجاهلية (( القومية العربية )) التي حرمتنا من مصافحة أيد هي لنا قوة ونحن لها تأييد.

وهذا ما شعر به رائد التضامن الإسلامي فيصل بن عبد العزيز فذهب إلى إخوانه في عقر ديارهم مشعرا إياهم أنكم منا ونحن منكم.. ولقد تبين للناعين عليه في ذلك أن الحق فيما ارتآه.. وهكذا يحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.

هذا ولا أريد أن ألخص لك الكتاب للحيلولة بينك وبين جماله الذي قد ينعدم أمامك بالتلخيص، إذ هو خير من يحدثك عن نفسه.. وإنما قصدي ذكر بعض النقاط الحساسة التي أشار إليها المؤلف وجعلها ركيزة للكتاب فكانت محوره.. بل كانت ضياءه.

ذكر المؤلف الفاضل: أن الإسلام هو الذي حدد الشخصية العربية على مر العصور.. وربط آخرها بأولها لغة وحضارة وخُلُقاً (( وليس للعروبة تاريخ يعتز به العرب ويجتمعون حوله قبل الإسلام ))

ثم ينعي على الذين اعتبروا أن ذلك الطابع الخاص المميز للأدب العربي عما سواه لا يعني الجمود كما يزعمه الزاعمون ولا يقود إليه في أي حال.

ودليله على ذلك عدة أسباب:

أولاها: أن الجمود صفة لا وجود لها في الحياة.. لأن الحياة حركة، ولأن الكائن الحي لو أراد الجمود وقصد إليه لما استطاعه فكل شيء في الحياة متغير، والناس مضطرون إلى التعبير عن أنفسهم وعن الحياة في مختلف نواحيها: في أدبهم، وفي صحفهم، وفي اذاعاتهم، وفي قصصهم، وفي كتبهم العلمية، والحرص على استعمال لغتنا العربية في كل هذه الميادين ينتهي حتما إلى تصفيتها وتنقيتها فيسقط السخيف الثقيل، والحوشي المستهجن لأن الأدباء والعلماء والدارسين سوف ينفرون من استعماله، ومن ورائهم الذوق العربي الممثل في جمهور القراء، والرواة.

فأنت ترى المؤلف الفاضل يقرر مبدأ: إن البقاء للأصلح، وهو معنى يحلو لقليلي البضاعة - الفكرية - عزوه إلى ابن القرود داروين..***** ********* ******!!

علما بأن الفضل فيه لمنزل الكتاب جل جلاله, قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}

ثم ذكر المؤلف الآية الكريمة: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

مستدلا بها على تباين الكائنات الحية:

فالحيوان لا يأكل إلا النبات، وبعضه لا يأكل إلا اللحوم، فالله سبحانه وتعالى قد أعطى كل نوع من ذلك خلقه، وهداه إلى سبيل معين، ونهج خاص في سلوكه.. وقد يقحم الجاهل على حياة بعض النبات أو الحيوان مالا يلائمه مما يظن أنه أعود عليه بالنفع فيضنيه ويسقمه، وقد يقتله، والناس في ذلك - ككل خلق الله - طوائف وأمم يتمايزون في الطبائع والأمزجة، وفي غذاء الأبدان والأرواح والعقول، وقد يقتل بعض جماعاتهم ما تصح به جماعة أخرى.

وأقوال: إن هذه معايير لم يعرها نفر من هؤلاء الأفاضل الذين يدعون بحرارة عاطفة هوجاء إلى أنواع من الأدب اعتبرها تجديدا وحرروها من عبودية مزعومة، بينما هي في الحقيقة لا تلامس وجداننا إلا بقدر ما يصلح العشب الأخضر أن يكون غذاء للأسد استعاضة عن اللحم..!

وكنت ذات يوم عند أحد الأصدقاء المجددين فأدار مفتاح الراديو فإذا هو فجأة يلتقي بإذاعة من إذاعات الروم - الأفرنج - وبعد أن انتهى (( العلج )) من قراءة أخباره على ما يظهر سمعت صوتا شككت في بادئ الأمر أنه صوت إحدى (( الدركترات )) وهي تهد الصخور هدا.. بينما صديقي ظاهرة عليه إمارات الطرب والسرور، فلما أحس بما تعانيه طبلة أذني من وقع قضبان الدركترات على الصخر، قال مستنكرا: ألا تطرب للسمفونيات العالمية!.

على أنني أشاطر الدكتور الفاضل الرأي إذ يقول: ".. والمهم في ذلك كله أن يكون الاقتباس والتطور على كل حال بالقدر الذي لا ينقلنا عن جبلتنا، ولا يغير حقيقتنا، ولا يقطع صلتنا بالماضي".

وأما إذا ظللنا لا نعيش إلا على فتات موائد الغرب، والإشادة بكل هراء من ناعق، ونبذ تراثنا الخالد، ووصمه بما لا يفق مع سموه، فإننا مع الأسف نكون كما قال المؤلف: "أذنابا ينقادون ولا يقودون، ويقلدون، ولا يبتكرون".

ثم يقف المؤلف محاميا عن الأدب العربي القديم أمام محكمة التجديد ويبدأ مرافعته بقوله: "أما الذين ينتقصون الأدب العربي القديم ويعيبونه فهم يذكرون عيوبا ليس من بينها عيب واحد يثبت على التحقيق", وأكثر هؤلاء من المفتونين بالأدب الأوروبي ويردون أن يحملوا الأدب العربي عليه، ويفنوه فيه، فيجعلوه باب من أبوابه، وأسلوبا من أساليبه، وشعبة من واديه، فهم لا يستحسنون من تراث العرب إلا ما وافق مذهبا من مذاهب الغرب، فعابوا على الشعر القديم نظام القافية، لأم الشعر الأوروبي خال منها، ووصفوا التأنق في التعبير، والاحتفال بجرس الألفاظ بالغثاثة، والتفاهة، لأن اللغات الأوروبية في فقرها وضيقها تعجز عن مجاراة اللغة العربية فيه.

هذا إلى آخر ما تعرض إليه المؤلف الفاضل من أمور بلغت من الأهمية في هذا الموضوع الغاية القصوى، ولو ذهبت إلى ذكرها فقرة فقرة لشذذت عما التزمت في فاتحة بحثي، فحسبي أن دللتك عليه بإشارة مقتضبة، والله من وراء القصد.