أحمد ولد محمد ذو النورين
بطاقة تعريفها:
- اسمها: سورة الأنعام، يقول ابن عاشور: "ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فقد)روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما (قال): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد"، وورد عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس ابن مالك، وجابر بن عبد الله، وأسماء بنت يزيد بن السكن-رضي الله عنهم- تسميتها في كلامهم سورة الأنعام.وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة.
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} إلى قوله: { إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:136- 144]" [1]
- عدد آياتها: عند الكوفيين مائة وخمس وستون، وعند البصريين والشاميين ست وستون [ومائة]، وعند الحجازيين سبع وستون [ومائة] [2].
- ما اختلف نزولا عن السورة: يقول محمود الألوسي: "أخرج أبو عبيد والبيهقي وابن مردويه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة، وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة {قل تعالوا أتل} إلى تمام الآيات الثلاث، وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين { قل تعالوا أتل } والتي بعدها، وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال: { ما أنزل الله على بشر من شيء } الآية، وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة [قال]: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة" [3].
"ونقل الكلبي-رحمه الله تعالى-: عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما [قال]: نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم} إلى قوله تعالى: {لعلكم تتقون} فهذه الست آيات مدنيات" [4].
- ترتيبها نزولا: يقول العلامة ابن عاشور: "القول الأصح أنها السورة الخامسة والخمسون في عد نزول السور، نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات" [5].
- فضلها: لم تنزل وفود الملائكة مشيعة لسورة إلا سورة الأنعام، وهذه خاصية عظيمة تدل على المكانة السامقة والمنزلة الرفيعة لهذه السورة، ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه، حيث قال: "لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال" :لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق" [6] ، وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نزلت [سورة الأنعام] بمكة جملة واحدة ليلاً ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان ربي العظيم" وخرّ ساجداً" [7] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلة، جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» [8].
قال البغوي: وروي مرفوعاً "من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره"، وقال بعض العلماء : واختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة ، والثاني : أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة [9].
ومن الأحاديث التي بينت اشتراك هذه السورة مع غيرها في الفضل ما روته عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع الأول فهو حبر" [10] ، والأنعام من هذه السبع، كما أنها من السبعِ الطِّوالِ التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم مكانَ التوراة، كما جاء عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت مكان التوراة السبع..." [11] ، وكذلكَ من المثاني الطوالِ التي أوتيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم (مقابلَ ألواحِ موسى) [12] ، ومن فضائلها ما ذكره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قال: "الأنعام من نجائب القرآن" وما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه" [13] ، ويقول كعب الأحبار: "فاتحة التوراة الأنعام، وخاتمتها هود" [14].
- ظروف نزولها: لقد نزلت سورة الأنعام جملة واحدة مشتملة على دلائل التوحيد وقواعد العدل وحجج النبوّة وأخبار المعاد، فأبطلت مذاهب المبطلين ودحضت شبه الملحدين، وثبتت النبي صلى الله عليه وسلم حين حاول المشركون صرفه عن الدعوة إلى الإسلام، وبذلوا في ذلك السبيل أقصى ما يملكون لترضيته بما أحب مقابل التنازل عن تلك الدعوة، ومن أمثلة الإغراءات التي لجؤوا إليها لتحقيق أهدافهم تلك ما ذكره ابن إسحاق من أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدًا مطاعا في قريش- قال لهم يومًا- ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده-: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ [15] في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال : فقال رسول صلى الله عليه وسلم : ( قل يا أبا الوليد أسمع ). قال : يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: ( فاسمع مني)، قال: أفعل، فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }[فصلت: 1-5]. ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك). فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم [16].
في ذروة هذا العناد وفي خضم هذه المحاولات المتكررة من قبل المشركين وبعد ما تواطؤوا على إشاعته من الشبه حول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما اتسموا به من التعنت تجاه هذا القرآن جاءت سورة الأنعام- في تلك الظروف الحبلى باللجاج والخصومة والتعصب- بالحجج الدامغة والردود المقنعة التي لا مناص لكل ذي عقل من الرضوخ لها، والانقياد لسلطانها، يقول الإمام القرطبي: "قال العلماء : هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين" [17]
مقدمة عامة عن السورة:
لقد جاءت آيات سورة الأنعام كلها تخاطب العقل بالبرهان والجنان بالبيان، وتتحدى في طرحها جحود الإنسان، فسددت قوارع للمشركين، ونوهت بالمؤمنين، وامتنت بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله، وذكرت مفاتيح الغيب. قال فخر الدين الرازي:"قال الأصوليون أي علماء أصول الدين":السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة" [18].
يقول ابن عاشور: "وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً}، وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله"[19]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}" [20].
لقد قدمت هذه السورة الكريمة العقيدة الصافية بشكل تربوي فريد؛ إذ عرضت باقة من الأسئلة إثارة لمكامن العقول، ثم لم تلبث أن قدمت لها من الردود ما يشفي الغليل ويبين قصور العقل البشري, فنبهت الفطر النائمة التي استودعها الله خلائقه، لاستيعاب قواعد التوحيد الخالص لله تعالى في ذاته العلية وصفاته الكاملة، وأكدت أن أعظم ما أمر الله به التوحيد المجسد لإفراد الله تعالى بالعبادة تزكية للنفوس، وهداية لها إلى السبيل الأقوم وتطهيراً لها من أدران الشرك، وتوجيها لها إلى استخدام أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانها لإدراك الحقيقة التي تقودها إلى الاطمئنان بالإيمان، ذلك أن الإنسان بفطرتـه لا يملك أن يطمئن في هـذا الكون الهـائل إلا بربـاط إيماني يضمن له الاستقـرار، وعلاقة ربانية تبدل شقاءه إلى سعادة، وأثارة من الوحي تحول حيرته إلى طمأنينة، وأساس من التوحيد يحيل ضلالـه إلى هداية. إن حاجـة الإنسان إلى ديـن الله تعالى حاجة فطـريـة مركـوزة في جبلته ومغروسـة في شعوره ومخلوطـة بدمـه وممزوجة بعصبه، فإن ضل عن إدراك تلك الحاجة كان شـقاؤه حتميا وكانت حـيرته لزاماً، وكان فقـدانه للاستقرار قدرا، ولم يك بإمكانه أن يتملك فـرقاناً يتبين به خطأه من صوابه.
لقد وضحت السورة الكريمة مدى خسران المشركين الذين جعلوا لله أندادا يزعمون افتراء أنهم ينازعونه في خلقه، ويشاركونه في حكمه؟ ألا ساء ما يحكمون! إنه انتكاس الفطر وسقم العقول، إذ كيف يكون للخالق ندا محدثا فانيا محدودا عاجزا، و هو جل شأنه الرب الأعلى، الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء. ذو المشيئة المطلقة، والقدرة القاهرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟.
هكذا قدمت السورة عقيدة التوحيد بطريقة منطقية تحج الخصوم ومنهج عقلي يفحم الأعداء، فشملت في إبطالها مختلف شبه المشركين، واختصت كل نوع من عقائدهم بالردود التي تناسبه، فاستهلت بأن الحمد كله لا يستحقه إلا الله، للرد على حامدي الأصنام فيما تخيلوه من إسدائها إليهم نعما ونصرا وتفريج كربات، كما قال أبو سفيان يوم أحد:"اعل هبل لنا العزى ولا عزى لكم" [21]. والواقع أن الأصنام لا تستحق أي نوع من الحمد، ولذلك عقبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . في بيان واضح لدحض ما هم عليه من اعتقاد، وإزهاق ماهم عليه من باطل، وإعلان صريح لقيام هذه الشريعة المباركة على التوحيد، الذي تتأسس عليه حقيقة الإسلام وتنبني عليه رسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد أصّلت السورة ما لتلك العقيدة من أثر على جميع الاعتبارات الدينية والدنيوية، وتدرجت بالفكر من كيفية نشأة الكون، ومراحل خلقه تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة إعراض قومه عنه وتفنيدهم لرسالته، وترسيخا لثبات النبي صلى الله عليه وسلم ذاك وتسلية له أوردت السورة طرفا من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه؛ لتجلي حكمة إرسال الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، ،وأنها الإنذار والتبشير وليست إخبار الناس بما يتطلعون إلى علمه من المغيبات.
كما بينت السورة حقيقة التقوى وأنها لا تكون بحرمان النفس من الطيبات، وإنما بإلجامها وصدها عن المحرم من الشهوات التي تحول بينها وبين الكمال الخلقي والتزكية الوجدانية، وفي هذا أكدت السورة أن منهج القرآن في عرض ميزان التفاوت ومعيار التفاضل بين الناس قائم على التقوى ومستوى التطبيق والانتساب إلى دين الله تعالى، وأبطلت في إطار ذلك ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال؛ لتبين أن المنة على هذه الأمة عظيمة بما أنزل الله عليها من هدي القرآن ودين الإسلام وما منحها الله من مضاعفة الحسنات، وما فضلها به جل ذكره من جعله لها خاتمة الأمم الصالحة.
يتبع ...