التشريع والحياة
الحياة المعاصرة أصبحت تعرف كثرة وكثافة قانونية لا مثيل لها من قبل، وأصبحت القاعدة التشريعية التي عبر عنها الخليفة عمر بن عبد العزيز بقوله: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور"، أصبحت تشتغل ليل نهار، وأصبح لدى معظم دول العالم مؤسسات تشريعية متخصصة ومتفرغة، تنتج القوانين مثلما تنتج المصانعُ سائر المصنوعات. فالمؤسسات والهيئات التشريعية هي مصانع قوانين، أو مصانع تشريعية، حتى أصبحوا يصفون هذه الغزارة القانونية بالترسانة القانونية، وقد يطلق هذا الوصف على المجال التشريعي الواحد، كالترسانة الجنائية، أو ا
الترسانة الإدارية. وقد أصبحت بعض الموسوعات القانونية تتألف من مئات المجلدات.
ومع هذا كله، نستطيع القول: إن التشريع بمعناه القانوني الرسمي، لا يحكم ولا يؤطر إلا نسبة ضئيلة من الحياة البشرية ومن العلاقات البشرية، فالنشاط البشري ـ الفردي والجماعي ـ إنما يتوقف على القانون ويحتكم إلى القانون ويخضع للقانون في حالات محدودة وفي حيز محدود، ويبقى ما سوى ذلك من النشاط الإنساني محكوما ومسيرا بمقتضيات وسلطات أخرى: من الدين، ومن الثقافة، ومن العرف، ومن العقل، ومن الذوق، ومن المزاج، ومن الهوى، ومن العفوية والعشوائية...
ولكن الإسلام، والتشريع الإسلامي بمعناه الشامل الذي ذكرته، يملأ الحياة كلها، ويستوعب هذه السلطات كلها، ليس بأحكامه المحددة والمحدودة، بل بقواعده وكلياته، ومبادئه ومقاصده.
وإذا كانت القوانين وحدها لا تسد الفراغ ولا تلبي الاحتياج في الحياة البشرية، إلا بنسبة ضئيلة، فكذلك الأحكام الشرعية التفصيلية المنصوص عليها بأعيانها وأسمائها، ولذلك شاع قول بعض العلماء: النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وهم يقصدون النصوص المتضمنة للأحكام التفصيلية الصريحة والمباشرة.
وعبر بعضهم عن هذا المعنى بقولهم: النصوص متناهية والحوادث لا متناهية، والمتناهي لا يحيط باللامتناهي([1]).
وقد سئل ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة فقال في جوابه: "إن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعًا كثيرة. الى لقاء اخر بحول الله