بسم الله الرحمن الرحيم

العلماء .. وقصور الرسالة (٢) بطانة العالم !

أثر البطانة على كل صاحب رسالة يُقِر به العقل، ويبين خطره الوحي، فالتحذير من أثر البطانة على الرأي والتوجه خوطب به أعلا الخلق منزلةً وهم الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة، إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، و بطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة السوء فقد وقي).

وفي هذا الحديث جملة من المعاني التي يجب الوقوف عند الواحدة منها:

أولاً:

إذا كان هذا التنبيه والتحذير من البطانتين للأنبياء، فهو للعلماء من باب أولى، وإذا كانت بطانة السوء يبتلى بها الأنبياء، فابتلاء العالم بها وأثرها عليه أخطر، لعصمة الأنبياء وتوجيه الوحي المستديم لهم، الذي به يأمنون من آثار بطانة الشر، وأما أمْن العالم من أثر بطانته عليه وركونه إلى علمه ودرايته وبصيرته ودينه فهو أمن من مكر الله، وكثيراً ما يقع العالم في الانقياد لبطانة شر ويظن أنه موفق بها، والحال عكس ذلك.

ثانياً:

التحذير الوارد في الحديث إشارة إلى ورود اللبس في التمييز بين البطانتين، ووقوع الاشتباه بينهما، ولكن النبي يُعصم بالله، وأما العالم فيُعان ويُعصم ويسدد في التمييز بين البطانتين بحسب قربه واتباعه لمقام النبوة في سريرته وعلانيته، وليس بحسب سعة علمه، فإبليس من أوسع الثقلين علماً، ومع هذا فهو أظهر المخلوقات شراً، لأنه اعتمد على علمه فوكله الله إلى نفسه.

ثالثاً:

إن البطانة لا يلزم أن يتخذها الإنسان باختياره، فربما يُبتلى العالم بها كبلاء الأنبياء بالجلساء المنافقين، أو كمن تُفرض عليه بطانة سوء كالمستشارين والمرافقين، للعلماء أصحاب الولايات، ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن النبي يختارها، بل قال : (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) إشارةً إلى وجودها قَدَراً باختيار أو بابتلاء، وحينما تجرأت البطانة السيئة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم مع هيبة الوحي المنزل في نفوسهم، الذي يكشف الستر، ويُخبر عما في السرائر، فكانوا يترقبون الفضيحة، قال تعالى عنهم: (يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم)، فكيف عند الأمن من ذلك بعد انقطاع الوحي الفاضح مع العالم والسلطان، وخوف المنافقين وحذَرهم مع النبي دليلٌ على أن ظاهرهم الموافقة والخير، وباطنهم الشر.

رابعاً:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر)، هذا في حق نبي، يؤمر وينهى، وهذا جاء في سياق المدح لها، ويتضمن المدح للأنبياء لأنهم يُنصتون لهم من غير أنفة أو تكبر بادعاء التفاوت بين مقام النبوة ومقام غيرهم، فإذا مُدح النبي لسماعه وإنصاته لرأي من حوله من بطانته الصالحة، فالواجب على العالم وصاحب السياسة السماع والإنصات من باب أولى، والنفرة من البطانة الآمرة الناهية هي سبب حرمان العالم من التوفيق، وعلامة على اختلال النية، وما أكثر ما يمتزج في قلب العالم حفظ هيبته الخاصة بحفظ هيبة علمه ودينه، فيأنف ويترفع من أن يؤمر أو يُنهى بحجة صيانة العلم أن يُبتذل وهو لا يُريد إلا صيانة ذاته، والعلامة الفارقة بين العالم الذي يرفع رأسة صيانة للعلم، وبين العالم الذي يرفع رأسه صيانة لنفسه، أنك ترى الرأس الكاذب كثيراً ما ينزل لتناول الدينار والدرهم والجاه، ولو من أيدي البعيدين عن الهداية، وهذا تناقض لا يُقبل، والعالم الصادق ليس له عينان يُبصر بهما المال والجاه، لأن بصره لا يقع على الأرض، وإنما الإخلاد إلى الأرض دأب العالم الذي لم يتداركه الله برحمته وتوفيقه (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض) والقلوب هي التي تخفض وترفع، وإن كذب اللسان.

والعالم الذي يأنف من الأمر والنهي الصادق، ليس بوريث صادق للنبوة، بل هو وصف المضادين لرسل الله ورسالاته {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} ، روى الخطيب في تاريخه عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن وهو على القضاء فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله قال فسألته عن مسألة فغلط فيها فقلت أصلحك الله القول في هذه المسألة كذا وكذا إلا أني لم أرد هذه إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال : إذاً أرجع وأنا صاغر إذاً أرجع وأنا صاغر لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.

واستعمال لفظ الأمر والنهي، بدلاً من لفظ الإعانة والتسديد، إشارة إلى عدم الترفع عن قبول التوجيه والنصح والتصحيح، ولا يلزم من أمر النبي بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يكون قد ترك المعروف ووقع في المنكر، بل المقصود تثبيته وتأييده وتصبيره لأنه بشر.

وما اتخذ عمر بطانته من القراء الفقهاء إلا لتقويمه، قال ابن عباس كما في البخاري في وصف عمر : وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا.

خامساً:

لا يوجد بطانة للعالم لا تنفع ولا تضر، بل هي إما تضره أو تنفعه، وأخطر البطانات التي تكسو الدنيا كساء الدين، والبطانة التي تنفع وتعطي الجميل في الدنيا وهي متجردة من الدين أخطر البطانات، فما من إحسان على الإنسان إلا وله ثمن لا بد أن تؤديه اليد أو اللسان أو القلب أو جميعها، ولو آجلاً فينبغي للعلماء الحذر من عطاء من لا يرجو الله، ولن يستطيع أحد كبح نفسه عن دفع ثمن الباطل، إلا أولي العزم وأشباههم من العلماء ففرعون طالب موسى بثمن إحسانه القديم فأمره أن يترك الحق، قال تعالى على لسان فرعون لموسى: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) ربّوه أربعين سنة، ولكن أبى أن يدفع ثمنها السكوت عن الحق، فضلاً عن دخول في الباطل.

وقد قال بعض المفسرين إن الذي ربى موسى هو والد فرعون الغريق، وليس هو الغريق نفسه، ومع هذا طالب الابن بالفضل القديم الموروث من أبيه.

وأخفى أثمان عطاء المفسدين للمصلح السكوت عن أخطائهم، فتتبايع القلوب ولا يشهدها إلا الله.

ولا بد للعالم من معين له في دنياه، لا يرجو ثمناً لفضله عليه إن أعطاه مالاً أو حماه ومكن له كما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بطانة له فكان أبو بكر يعطي النبي صلى الله عليه وسلم وتطيب نفس النبي بالأخذ، ويقول في آخر مطاف الرسالة كما في الصحيح: ( إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا من الناس لاتخذت أبا بكر خليلاً).

سادساً:

البطانة التي لا تُصنع تَصنع، وإذا لم يتخذها العاقل اتخذته، ولا يتم انتظام الحياة والمجتمعات إلا بعلماء ساسة، ولا تتم رسالتهم إلا بالبطانة الصالحة.

واختيار البطانة لا يكون إلا بمخالطة الناس، ومعرفة مشاربهم واختبار عقولهم ودينهم وأخلاقهم وطبائعهم، فلا تتمحص البطانة وتتميز وتصطفى عن غيرها إلا بمخالطة الناس، فالسماع المجرد عنهم بلا رؤية للحال قصور في العلم يتبعه قصور في الاختيار وهذا أمر معلوم بالحس، ولهذا قال تعالى مبيناً منزلة المعاينة على الإخبار: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)، وفي الحديث: (ليس الخبر كالمعاينة).

والمعاينة تُكسب العالم معرفةً يميز بها الصفات المكتسبة والجبلية، فبطانة العالم هي التي تُعينه في إيصال رسالته كما يُريد الله منه، وأما اتخاذ البطانة التي تُسلّي وتُدخل السرور فهي بطانة العامة والسلاطين والملوك، والبطانة التي تُعين على الطاعة الذاتية بطانة العباد والزهاد، يُختار لها أهل الديانة فقط

سابعاً:

كثيراً ما تؤثر البطانة على المصلح الذي يرجى منه إصلاح للأمة، إما أن تثبطه أو تطغيه أو تغره، والتفوق في الصلاح والديانة والعبادة فقط ليس معياراً وحيداً يقاس به صلاح الخلطاء للعالم، فهذا يصلح للعوام الذين يريدون سلامة ما يصل إليهم والحفاظ على ما هم فيه من مكتسب، حذراً من الشبهات والشهوات، وأما العالم فيريد سلامة ما يصل إليه وسلامة ما يصدر منه للناس، وهذا لا يصلح له كل صالح في نفسه.

ومن المشكلات أن لا يكون ثمة تفريق بين حاجة العالم إلى بطانات متعددة، تُعينه في صلاح نفسه وصلاح غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حذيفة أميناً لسره مع وجود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم وهم أفضل منه بالاتفاق، ولكن لخصيصة جِبليّة عرفها النبي صلى الله عليه وسلم في حذيفة مع صدق الجميع في الصحبة، وهذا لا يكون إلا مع طول مخالطة ومعاشرة للناس حتى يختبر أحوالهم، فيُقدم الأصلح ولو أحب غيره أكثر منه، لأنه صاحب رسالة يُريد أن تصل، فمصلحته مع رسالته المحمولة أكثر من حاملها.

والبطانة لها أثر على الناس، لهذا حذر الله نبيه والمؤمنين من أن تتخذ بطانة غير صالحة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم).

ثامناً:

إذا كانت الصلة بين العالم وبطانته علاقة مادية دنيوية، فهذه البطانة لن تعطي نصحاً خالصاً ولو كانت في ذاتها صالحة، لأنها ترى دنياها مرهونة، ببقاء دنيا العالم، فربما كان وجيهاً وزيراً أو قاضياً، ونصحه بالحق ربما يُزيل حظها من دنياه، فهو يُريد دوام دنيا العالم لتدوم دنياه هو، وبعض العلماء الصالحين يُخطىء في تربية بطانته، فربما تأتيه لا تُريد إلا الدين فيفسدها بعطاء المال الكثير، فتنقلب في صدقها بالنصيحة لانقلاب باطنها، وربما تأتي العالم هبة من سلطان أو أمير فيحب الخلاص منها فيُعطيها بطانته ورعاً من أن يأكلها أو تُفسد عليه دينه، فيهرب من أن يأتيه فساد دينه ممن فوقه، فيأتيه فساده من أسفل منه بإفساده بطانته بالمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعطي الأبعدين عنه أكثر من الأقربين منه.

وكثيراً ما يظهر قصور العالم في رسالته بسبب بطانته، وهذا في صور منها:

أولاً:

الانشغال بقضايا بعيدة عن الحاجة التي يتلبس بها الناس، والحديث عن قضايا مفضولة بعيدة عن الساعة، من أظهر ما يُقلل من مرتبة العالم عند الناس، ويُصدر غيره عليه، والانشغال بالحق لا يعني صحة الانشغال به، فقد يتزاحم الحق مع حق أعظم منه فيكون الانشغال به خطأ، بل قد يكون إثماً، لأنه يفوت حقاً يجب أن يتضح في وقته، وأكثر الأخطاء التي يقع فيها الصالحون هو جهل القدر بين الفاضل والمفضول، فيرون المفضول منفرداً بعين تجعله منفصلاً عن الفاضل فيعظم في نفوسهم ذلك المفضول بكثرة النظر بفضله وآثاره وجميل عاقبته، فيكون هذا حاجباً عن الوصول إلى الحق الأصلح، وهو أعظم طرق إبليس في الدخول على العلماء والصالحين، وحينما يُنكر عليهم أحدٌ الغفلة وترك الفاضل يُرجعونه إلى فضل المفضول في ذاته، وهذا أمر ليس من مواضع الخلاف.

وجهل العالم بالمقدار الفارق بين الأعمال والأقوال المتفاضلة مشابه لوقوع العامي بالمعاصي، بل ربما وقوع العالم بالمفضول الصالح وترك الفاضل الأصلح أشد إثماً من معاصي العوام، لأن كلاً من العالم والعامي يؤاخذ على مقدار ما يعلم من تبعات فعله، والعالم لو دقق فيما بين المفضول والفاضل من خير يفوت وشر يتحقق، لكان أبصر من العامي في معرفة شر إثمه.

وقد يُدرك بعض العلماء الفارق بين الفاضل والمفضول ولكنهم لا يدركون مقدار الحاجة إليهما، بسبب ضعف المشاهدة لأحوال الناس، وضعف البطانة عن إيصال مراتب حاجة الناس للأمرين.

ولذا ترى بعض المنتسبين إلى العلم مع صدق نياتهم، يغفلون عن حاجة الناس ونوازلهم، فتضعف حاجة الناس إليهم وتعلقهم بهم تبعاً، ومباشرة الناس وتتبع أحوالهم منهم أمر لا بد منه لبقاء منزلة العالم، فثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه يستغل اجتماع الناس لصلاة الجمعة فيسألهم عن أحوالهم، وهو على المنبر، فروى ابن المنذر وابن حزم عن موسى بن طلحة بن عبيد الله يقول: رأيت عثمان بن عفان جالساً يوم الجمعة على المنبر والمؤذن يؤذن وعثمان يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم.

ومن لم يعرف أحوال الناس ونوازلهم، ومقدار ما يعانونه من هموم، تحدّث بالحق القاصر الذي يوجد أولى منه، وتسبب ذلك برفض الحق الذي يأتي به، وربما سقطت هيبته، ولايعني هذا أن يكون العالم كما يريد الناس ويهوون ولكن يجب عليه أن يعتني بدنياهم ليعتنوا بالدين.

ثانياً:

التعظيم لأعمال العالم القاصرة عن قدرته التي يستطيع أكثر منها، فيرضى ويركن إلى قليل ما عمل، مع الغفلة عن عظيم ما ضيع، لأنه في حقيقته لم ير ما ضيع كما هو، وإذا رضي الإنسان بقليل فعله، أجحف في حق المخالف له، ولم يحسن الظن به، وربما ظن به التحامل والحسد والتربص.

وكثيراً ما تقع الخصومة بين العلماء والدعاة بسبب اختلال قيمة عمل بعضهم عند بعض عند نازلةٍ معينةٍ، فربما يرى أحدهم أن غيره بالغ في قول حق ما وغلا فيه، بينما الحق أنه معتدل وغيره مقصر، وربما العكس لأن أحدهم جهل قيمة الحق الذي قاله الآخر آو قوة أثر الباطل الذي أزاله.

وكثيرٌ من العلماء ُيدركون حقائق الأشياء والتفاضل بينها، ولكن يعجزون عن الانشغال بالفاضل، وإدراكهم ذلك يحملهم على السكوت عن المخالف المنشغل بالحق الفاضل، ويرون أنه يُسقط التكليف عنهم، فيحمدون الله على أن وقاهم من عقوبة السكوت عن بيان الحق، كما كان كثيرٌ من الفقهاء والمحدثين زمن محنة أحمد، أدركوا فضل عمل أحمد فقصروا عنه، ولم يحملهم انفراد أحمد بعمل أن يقعوا في ذمه والطعن في عرضه، لأن من أخطر كوامن النفوس البشرية أنها ترى انفراد غيرها بما تعجز عن قوله وفعله يتضمن إزراء بالعاجز، وتفرُّد القائم بالحق بحمد الناس وثنائهم يتضمن تفويتاً لسمعة الساكت، وكلما استمر قيام الجريء بالحق زاد من وقع الأذى على نفس الساكت، حتى يحمل النفوس الضعيفة الساكتة على الوقيعة بالقائم بالحق، لأنها ترى أن الوقيعة فيه يتضمن تبرأةً لها، فالصورة الظاهرة خلافٌ في إظهار الحق، وفي الباطن انتصارٌ للنفس.

ثالثاً:

المداومة على الخطأ وسبب ذلك أن البطانة لا تنقل إليه نقد الناس له، والبطانة السيئة هي التي تزن بقاءها بإرضاء العالم إو السلطان ولو بدوام الخطأ فيه، وهذه البطانة مع كونها تكتم الحق أن يصل إلا أنها تربي سيدها على العصمة، والنفوس التي لا تسمع نقدها ولو بالباطل، هي النفوس المتكبرة، وحينما يقابلها مصلح ليناصحها تتضجر وتأنف، وتسيء الظن به، ولا تحب إلا تلك البطانة التي لا تسمعها إلا ما تحب وتهوى.

وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم بطانة تخبره بما يقال فيه ولو سوءاً، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه وقال: رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

وقد بوب البخاري على هذا الخبر بقوله: (باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه)، وكثيراً ما تتكرر أخطاء العالم بسبب أنه لا يسمع ممن حوله إلا ذكره الحسن، ومن لا يحب إلا سماع ما يحب ولا يصبر على سماع التخطئة له ولو بالحق، فضلاً عن سماع الباطل فيه، ينفّر منه البطانة الصادقة، وتجتمع عليه البطانة الأخرى فتعرف هواه فتعطيه ما يُحب.





وأصلح الأحوال للعالم أن يُبصر الحقائق بنفسه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولو صلحت بطانته، لأن أخذ الحقائق بواسطة يختلف عن الأخذ بالنفس، لأنه لا يُمكن أن تستوي النفوس في تقدير الحقائق تقديراً متطابقاً من جميع وجوهه وصوره، ولذا كثيراً ما تكون أحكام العالم قاصرة بسبب البعد عن المشاهدة لما يحكم عليه، وكذلك مشاهدة غيره له، وبروزه بنفسه للناس مؤثر، فالصادق لصدق قوله أثر على وجهه، يدركه أدنى الناس فعن الحارث بن عمرو السهمي قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى -أو بعرفات - وقد أطاف به الناس، فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك» أخرجه أبو داود.

وربما يتغير حكم الإنسان في الشيء الذي سمع به إذا شاهده، والمخالطة لا تعني دوام مجالسة الشر، فالمخالطة هي التي يصدر بها العالم عن معرفة تامة ولو كانت عارضة، وأما التي تدوم فهي التي تؤثر على الطبيعة البشرية بمؤالفة المخالَط وتقبُّله مهما كان منحرفاً، ولذا منع الله من تلك المخالطة بقوله تعالى: (فلا تقعدوا معهم) وعلل ذلك بقوله: (إنكم اذاً مثلهم).

يجب على الإنسان أن يصنع لنفسه ساحة عريضة من الناس مختلفة الطبقات، يرى منها أحوالهم التي ينزّل عليها خطابه، فإنه إن جهل ذلك اختلت قيمة خطابه غالباً، وأثره في الناس، فالتدرج في نزول أحكام الإسلام كان بسبب مناسبة الخطاب لأحوال المخاطبين، وذلك محل تسليم أن سببه حاجة الناس وإدراكهم، فما كل حق يصلح لكل مخاطب به.

والعالم الذي يرمي بقوله في وسط الناس ولا يعرف أحوالهم وفهمهم وفكرهم ونفوسهم، كمن يرمي بنفسه من مكانٍ مرتفع ولا يدري أين تقع رجلاه، ويجب عليه أن يعرف أحوال الناس كما يعرف الأرض التي ينزل عليها برجليه، فسلامة قواعد الدين والدنيا أولى من سلامة قواعد الأبدان.