السببُ الرابعُ: اختلافهم لتفاوتهم في سعة الاطلاع على السنة.
قال الإمام الشافعي في [الرسالة]: لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ثم ما كان ذهب عليه منها موجودا عند غيره, وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره, وإن ذهب عليه بعضه ومنهم الجامع الأقل مما جمع غيره اه.
قال الإمام ابن تيمية في [رفع الملام]: من اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا اه.
* فلا يمكن لأحدٍ أن يدعي لنفسه أو أن يدعي له غيره: جمع السنة النبوية كاملةً فيه, وليسَ معنى تفاوت الأئمة في حفظِ السنة والاطلاع عليها أن يكونَ الأكثر اطلاعًا هو المقدم على الجميعِ. قال الإمام ابن تيمية في [رفع الملام]: ولا يقولن قائل : من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا . لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فيما يتعلق بالأحكام : فليس في الأمة مجتهد, وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه .
* إن علم الحديث الشريف (تحمُّل) وهو تلقي الحديث من الشيوخ و(أداء) وهو رواية الناسِ بالمسموع, وقد تفاوتُ الأئمةُ في الروايةِ والدراية, فمنهم المقلُّ من الروايةِ المكثر من الدرايةِ, كأبي بكرٍ الصديق فإنه أعلمُ الصحابة كما شهد له الصحابةُ ذلك إلا أنه إمام في العلمِ والفهمِ, ومثله عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.
* وقل في ذلك الإمام مالك والإمام الشافعي رحمهما الله فإنهما تفرَّغا للفقهِ والتفقيه والاجتهاد والاستنباطِ والتأصيل, ومعَ ذلك فكانوا أئمة في الرواية, فقد قال الشافعي عن مالك: إذا جاءَ الأثر فمالك النجم! وسئل ابن خزيمة: هل تعرف سنة لرسول الله في الحلال والحرام لم يودعها الشافعيُّ في كتابه؟ قال لا.
* وكذا الإمام أبو حنيفةَ –رحمه الله- فإنه كان كثير التحمل قليل الأداء, وهو إمامٌ في العلم إلاَّ أنه كان مقلٌ في علم الحديثِ لأن كان لا يحدِّث إلا بما حفظه منذ سمعه.
* مسألةٌ: في ذكرُ مكانةِ الإمام أبي حنيفةَ في علم الحديث.
وعلى كل حالٍ فإن تركَ الخوض فيهم أولى لأنه ممن جاوزوا القنطرة في الاتِّباع والأتباع, وفي هذا الصددِ نوردُ أخبارًا جليلةٌ عن هذا العَلَمِ تشهدُ له في علمِ الحديثِ مكانةً كبيرةً –وذلكَ لكثرةِ ما قيلَ فيه-:
(1) قال الزبيدي رحمه الله: قال يحيى بن نصر: دخلت على أبي حنيفة في بيت مملوء كتبًا, فقلتُ: ما هذه؟ قال: هذه أحاديث كلُّها, وما حدثتُ به إلاَّ اليسير الذي ينتفعُ به اه.
(2) قال القاضي عياض في [ترتيب المدارك]: وذكر في ترجمةِ عبد الله بن فروخ أنه قيل: سقطت آجُرُّةٌ من أعلى دار أبي حنيفة وأنا عنده على رأسي فدمي. فقال: اختر الأرش أو ثلاثمائة ألف حديث. فقلت: الحديث خير لي. قال: فحدثني بثلاث مئة حديث.
(3) وقال ابن خلدون رحمه الله: ويدلُّ على أنه –أي أبا حنيفة- من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتمادُ مذهبه بينهم –بين معاصريه من الأئمة- والتعويلُ عليه واعتبارهُ ردًا وقبولاً اه.
(4) وقد جمع أبو حنيفة علمَ أهل الكوفةِ بشهادةِ نفسهِ وبشهادةِ غيره, روى الصيمريُّ سينده إلى الحسن بن صالح أنه قال: كان ابو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وكان عارفا بحديث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة شديد الاتباع لما كان عليه الناس ببلده وقال كان يقول إن لكتاب الله ناسخا ومنسوخا وإن للحديث ناسخا ومنسوخا وكان حافظا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير الذي قبض عليه مما وصل إلى أهل بلده.
* مسألةٌ: في ذكرِ أمثلةٍ على فوتِ بعض يسير من السنةِ لبعضِ الأئمة.
(1) قال عيسى بن أبان: لما قدم أبو يوسف بغداد كان علة قول أبي حنيفة في جواز بيع الأوقافِ, حتى حدَّثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر في صدقة عمر لسهامه من خيبرَ. فقال أبو يوسف: هذا ممَّا لا يسع خلافهُ, ولو تناهى هذا إلى أبي حنيفةَ لقالَ به ولما خالفه.
(2) روى ابن أبي حاتم في [مقدمة الجرح والتعديل] عن ابن وهبٍ قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال ليس ذلك على الناس قال فتركته حتى خف الناس فقلت له عندنا في ذلك سنة فقال وما هي؟ قلت :حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة! ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
(3) روى ابن الجوزي في [العلل المتناهية] عن ستة من الصحابةِ حديث (صلو خلف كل بر وفاجر) بطرقٍ بلغتْ ثلاثةَ عشر طريقًا, ضعَّفها كلها وختمها بقول الإمام أحمد بن حنبل: ما سمعنا بهـذا ! .
* مسألةٌ: في وجوبِ التأدبِ مع أهل العلم وتقدير علمهم وعدم تهمتهم.
وقد يتعرَّض كثير من الناسِ على قولٍ صائبٍ لم يقل به إمامٌ, وما علموا أنَّ مردَّ ذلك هي الأسباب التي قد تجلبُ عدم الأخذِ بالحديث إما صحةً وإما استدلالاً.
قال العلامة محمد المطيعي وهو يتحدث عن حديث (الولد للفراش): قال الغزالي: إن هذا الحديث لم يبلغ أبا حنيفةَ, ولو بلغه لما أخرج الأمة الموطوءةَ, وبذلك صرح إمام الحرمين) ثم أتبعَ بأسطر قوله (قال الكمال بن الهمام: كل ذلك لعدم اطلاعهم على مذهب أبي حنيفة رحمه الله, والقول بأن الحديث لم يبلغهُ: غير صحيحٍ, فإنه مذكور في مسنده) اه. وهو كذلك في آخر كتاب النكاحِ من ترتيب المحدث محمد عابد السندي.
* فإنَّ نفيَ العلمِ عن إمام أو لمجردِ عدمِ الذكرِ غلطٌ شنيعٌ, فهل لك أن تقول عن حديث لم يخرجه الشيخان: هذا حديثٌ لم يعرفه البخاري ولا مسلم! فإنما هذا رجمٌ بالغيبٍ وتقولٌ على إمام بغير حجة ولا برهان, والأولى بالمسلمِ أن يتهم نفسه بالقصورِ والتقصير, وألا يتطاول على الأئمة فيتهمهم بعدم الاطلاع على ما اطلع عليه مثله!
* وانظر إلى موقفِ الإمام أحمد بن حنبل وأدبه مع الأئمة, ذكر الحافظ الذهبي في [تهذيب التهذيب] عن أحمدَ قال: بلغني أنه يذكر عبد الرحمن بن مهدي وفلانا وما أعجب هذا! ثم قال وهو مغتاظ: مالك أنت ويلك ولذكر الأئمة!! اه.
(الشبهاتُ الثلاث التي يُعترضُ بها على هذا السبب)
الشبهة الأولى: قد يقولُ قائلٌ: إذا قامَ الدليلُ على فوتِ إمامٍ بعضَ الشيءِ, فهذا يُجعل عرضةً لأن نقول: قد فاتهم في غير هذا المسألة وهذه وهذه..إذًا للنظر الدليل نحن لأنفسنا لنطمئن من أمرنا.
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- إن كانَ فاتَ الإمام اليسير: فقد استدركه عليه اصحابهُ, واستقرَّ مذهبه من قِبل مجموعةٍ كبيرة كأبي يوسف ومحمد من أصحابِ أبي حنيفة.
2- إنْ فاتَ هذا الشيء الذي لا يُذكر على إمام متقدِّمٍ جدًا, فلأن يفوت المقتدي المتأخر في آخر الصفوف أشياء وأشياء من الأمهات من بابِ أولى.
3- إن كانَ فاتَ الإمام جزء يسير تتعذَّر عليه الأمثلة لندرته: فليسَ من منطقِ العلمِ والعقل أن ينسحبَ النادرُ على الكلِّ, والنادرُ لا حكمَ له.
وإذا عرفتَ أن نسبةَ عدد المسائل في فقه الإمام أبي حنيفة –كما ذكر الكوثري- تبلغُ ثلاثٌ وثمانون ألف مسألة, فما نسبةُ التي خفي دليلها عليه!
الشبهة الثانية: قد يقولُ قائل: كتبُ السنة كثيرةٌ, وقد تيسرت للباحثين المعاصرين, فهرسةً وطباعةً بأكثر من استفادةِ المتقدمين, فمن السهلِ أخذُ الثابتِ منه وتركُ غيره, وتثبيتُ الأحكام الفقهية التي دلَّ عليها الدليل وترك غير ذلك!
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- قال ابن تيمية رحمه الله في [رفع الملام]: لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد؛ بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير....فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية اه. وقديمًا قالوا:
ليسَ العلم ما حوى القِمطْرُ *** ما العلمُ إلاَّ ما حواه الصدرُ
2- إن أئمتنا على كثرة ما دوَّنوه ووفرة ما وصل إلينا من تراثهم: لم يكونوا يدوِّنون إلاَّ القليل من محوظاتهم كما سبقَ تقرير ابن تيميةَ لهذا قبل قليل.
3- إن أوسع كتب السنة هو [كنز العمال] للمتقي الهندي, إذ فيه أكثر من 46 ألف حديث, إلاَّ أن كثيرًا من مصادرهِ غير متيسر الرجوع إليه ولا تحقيق أسانيده! ناهيكَ عن الأحاديث التي تحملها الأئمة وسمعوها تضاعفُ هذا عشرات الأضعاف, فإنَّ الأحاديث التي ذكرها أبو حنيفةَ في تصانيفه نيفٌ وسبعونَ ألف حديث! وروى الإمام مالك مئة ألف حديث فضلاً عما تحمَّله ولم يروه! وانتقى أحمد [مسنده] من نحو خمسين ألفًا وسبع مئة ألف حديث! ولا ينكرُ أن في هذه الأعداد الكبيرةِ من الموقوفةِ والمقطوعةِ والمكرَّرةِ والضعيفةِ, على أنها لا تخلو من أثرٍ كبير في فهمِ الحديثِ والاستفادة منه.
4- ولو فرضنا أن هذا الأعداد الكبيرة كانت متوفرة, فإن الاختلاف قائمٌ ولن يزول! ما دامتْ أسبابُ الاختلاف موجودة قائمة, روى الرامهرمزي في [المحدث الفاصل] قصةً فيها عبرة للمعتبر:
قال –رحمه الله-: وقفت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث فسمعتْهم يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم, وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورواه فلان, وما حدث به غير فلان, فسألتهم المرأة عن الحائض تغسل الموتى؟ وكانت غاسلة! فلم يجبها أحد منهم! وجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فأقبل أبو ثور فقيل لها: عليك بالمقبل فالتفتت إليه وقد دنا منها فسألته فقال: نعم تغسل الميت: لحديث عثمان بن الأحنف عن القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها أما ان حيضتك ليست في يدك, ولقولها: كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالماء وأنا حائض. قال أبو ثور: فإذا فرقت رأس الحي بالماء فالميت أولى به. فقالوا: نعم رواه فلان ونعرفه من طريق كذا وخاضوا في الطرق والروايات. فقالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن؟
5- ولو فرضنا أن الأحاديث الموجودة كافية للاجتهادِ, فإن توافر الأحاديث ليست كافيةً للاجتهاد بوحدها, فأين شروط الاجتهادِ الأخرى؟ وانظر إلى قولِ الإمام الشافعي رحمه الله:
لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه , وبمحكمه ومتشابهه , وتأويله وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , وفيما أنزل , ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبالناسخ والمنسوخ , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر , وما يحتاج إليه للعلم والقرآن , ويستعمل مع هذا الإنصاف , وقلة الكلام , ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار, ويكون له قريحة بعد هذا , فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام , وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي " اه.
- كلُّ هذا مع ضرورةِ تحلي الباحث بالعملِ الصالحِ والعبادة والتقوى والزهدِ, فيكون إماما في هذا الجانبِ, فقد روى الطبراني في [الأوسط] عن علي قال: قلت : يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا قال تشاورون الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة لم يرو هذا الحديث عن الوليد بن صالح إلا نوح.
ورى ابن أبي حاتم في [تقدمة الجرح والتعديل] عن سفيان الثوري قال: كان الرجل إذا أراد أن يطلب العلم تعبَّد قبل ذلك عشرين سنة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل عن السيد الجليل عبد الوهاب الوراق: (رجلٌ صالحٌ مثلُهُ يوفَّقُ لإصابةِ الحقِّ).
الشبهة الثالثة: قد يقول قائل: لو أن كل واحدٍ من الأئمة المجتهدين اطلع على السنة اطلاعا وافيًا لما استدلَّ الواحد منهم بحديثٍ ضعيف واحدٍ في مسألة ما, ويوجد مقابله حديث صحيح وفيه غنيةٌ عن الضعيف! فاحتجاجُ الإمام الضعيف دليلٌ أنه ما عرفَ الصحيح!
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- إنَّ الأحاديث التي يوردها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ليستْ هيَ هيَ أدلة إمام المذهبِ التي رآها, وإن وافقَ في النتيجةِ: الحكمُ, عند الإمام وأتباعهِ, وهذه الملاحظة أكثر ما تنطبق على (المهذب الحنفي) ومثله تقريبًا مالك وأحمد, وهي واقع كتب المذاهب: [الهداية] للمَرغيناني الحنفي و[الرسالة] لابن أبي زيدٍ القيرواني المالكي و[المهذَّب] للشيرازي الشافعي و[المغني] لابن قدامةَ الحنبلي.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في [بدائع الفوائد]: وأما حديث "لا شفعة لنصراني" منكر فاحتج به بعض أصحابه وهو أعلم من أن يحتج به فإنه من كلام بعض التابعين اهـ.
2- قد يوردُ الفقيه دليلاً يكون هو دليلُ الإمام نفسه, فيورده الإمام على اعتبار رأيه فيه صحيحًا مرفوعًا إلى النبي, ولكن يخرج الحديث فيما بعدُ أحد المحدِّثينَ فيرى أن الحديثَ ضعيفٌ أو أن الحديثَ موقوف, وغير ذلك. ومثالُ ذلك: ذكر المرغياني في [الهداية] حديث "ادرؤوا الحدود بالشبهات" على أنه حديث مرفوع, وخرَّجه الزيلعي موقوفًا من كلام سيدنا عمر بن الخطاب, ولكونه لم يره ابن حزمٍ مرفوعًا قسا عليه في [المحلى] وعلى الفقهاء أجمعهم.
* فندرك من هاهنا أن للأئمة أسانيدهم الخاصة بهم, وندرك ضرورةَ تخريج أحاديث فقههم من كتبهم أنفسِهم إن تيسر ذلك, وإن لم يتيسر خرجناها من كتب المحدثين الآخرين من غيرِ أن يجعل قولهم حكَمًا على رقابهم.
3- قد يكونُ دليلُ الأئمة الفقهاء حديثا ضعيف السند حقًا, سواء من طريقهم أو من طريق المحدثين, ولكن قد تكون له من المؤيدات ما لا يحصى كثرةً من الكتابِ والسنةِ .
· ومثالُ ذلك: حديث ابن عباسٍ مرفوعا (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجه, وهو حديثٌ ضعيف, لكن قال الشوكاني: طرقه يقوِّي بعضه بعضا اه. وقال ابن القيم: وإن كانَ في إسنادهِ ما فيه, فالقرآن يعضده وعليهِ عمل الناس اه.
· وهاهنا نصٌ طريفٌ للإمام الشافعي رحمه الله تعالى ذكره الإمام مسلم في [الانتفاع بأهب السباع]: (والشافعي لم يكن اعتماده في الحجة للمسائل التي ذكر في كتبه تلك الأحاديث في أثر جواباته لها ، ولكنه كان ينتزع الحجج في أكثر تلك المسائل من القرآن والسنة والأدلة التي يستدل بها ومن القياس إذ كان يراه حجة ثم يذكر الأحاديث قوية كانت أو غير قوية ، فما كان منها قويا اعتمد عليه في الاحتجاج به ، وما لم يبلغ منها أن يكون قويا ذكره عند الاحتجاج بذكر خامل فاتر وكان اعتماده حينئذ على ما استدل به من القرآن والسنة والقياس ، والدليل على أن ما قلنا من مذهب الشافعي لذكر الأحاديث الضعاف أنه - كما قلنا - أن مذهبه ترك الاحتجاج بالتابعين تقليدا ، وأنه يعتمد في كتبه لمسائل من الفروع ويتكلم فيها بما يصح من الجواب عنها من دلائل القرآن والسنة والقياس...). ثم قال بعدَ ذلك الإمام البيهقي في كتابه [بيان من أخطأ على الشافعي]: وتصدير بعض أبواب المختصر بأحاديث لا يحتج بها واقع من جهة المزني رحمه الله ، فأما الشافعي رحمه الله فإنه إنما أوردها على الجملة التي ذكرها إمام أهل النقل مسلم بن الحجاج رحمه الله اه.
* فالخلاصةُ: أن الأحاديث الضعيفة ونحوها التي نراها في كتب الفقه المتداولة: منها ما هو أدلة الإمام نفسه, ومنها –وهو كثير- من استدلالات المؤلف المستدلِّ بها؛ ولا يلزمُ من ضعفها: ضعف الحكم المبنيِّ عليها, فقد يكونُ له شواهد قرانية, وقد يكونُ له شواهد من السنةِ الصحيحة المجزومِ بها.
4- أن الحديث الضعيفَ قد يكون ضعيفًا عندَ الفقهاء والمحدثين وليسَ له شواهد تحعله صحيحًا ثابتًا, لكن يكونُ استدلالُ الإمام لأنه يرى –على مذهب من يحتج- بالحديثِ الضعيفِ إذا لم يوجد غيره في البابِ ولم يشتدَّ ضعفه, وضعيفُ الحديثِ خير من الرأي والقياس.
انتهى الكتاب بحمد الله .
والله تعالى أعلم .