.-التخبّط طريقٌ للتثبّط -.
التخبُّط داءٌ عضالٌ، علاجُه ضرْبٌ من المحال،فإذا أتى الإنسانَ ركبَ متن عمياء، ماشيةً عرجاء، خابطةً خبط العشواء، فتراهُ يتقلبُ مع الأهواء حيثُ تقلبت، فإذا ضحك القوم ضحك، وإن بكوا بكى، لا يعرفُ له قبيلٌ من دبير، عندُه من الهمَّة ما تُحرقُ به الأوقات في الانتفاع، وما تستغلُّ به في المتعة والإمتاع، لكنها تضيئ للأعشى، وتحرق الفتيلة لا لنفسها، ولا لغيرها.
ومما يُرثى له في حالنا مع التخبُّط في كتبِ أهلِ العلم، التنقلُ بين المذاهب، وكثرة التبدل في الأفكار، وعدم الثبوت على أساس رصينٍ متين، فإن كان حنبليًّا ورأى الشافعيّة وتأصليهم وتقعيدهم نهج إليهم، وإن كان شافعيًّا ورأى الحنابلةَ واهتمامَهم بالسنة تمسّك بهم، -قد يكون الخير فيما أبدله-، لكن كلامنا عن المختبط المضطرب في مسلكِه.
ثم تراه بعد فترةٍ وجيزةٍ = فإذا به قد اقتصر على كتبِ أصولِ الفقه، وترك ما سواه، وبعدُ قد نذر قراءة كتب الأدب، وإذا سمع من أحدهم ذما في كتاب، رماه لأتفهِ الأسباب، ولم يحفظ ما به من صواب، والمغفّل من جهل أذنَه وعاءً لكل صائح، وجعل الناس يستعيذون منه كما الجائح.
وإذا ما سمع من قرينه في الطلب فائدةً جليلةً، قال له : من أين أتيت بها؟ فيقول القرين: من كتابِ كذا وكذا، فيشتريه، ويعزم على قراءته، وها هو يتذبذبُ بين الكتب، وما أرانا نقولُ إلا معارا!
جلستُ في الحرم مع أحد إخواني من منطقة " ق ... " فسألتُه عن حافظتهم،ومتفوِّ قهم في طلب العلم، فقال لي : آسفُ لو قلتُ لك إنه متذبذبٌ بين الكتب، ولم يتخذْ طريقة ينيرُ بها دربَه، ويفتح به قلبه، فليس له شيخ، وكلَّما رأى أنَّه لا يتقدَّم في العلم تقدَّما كبيرًا، ظنَّه تأخرًا.
عوِقٌ لوِقٌ، ضيّقٌ ليّق، بئس ما به انزلق، وعن طريقةٍ بها قد علِق!
- أسبابُ التخبُّط -
(1) عدمُ التوفيق، فوالله الذي لا إلهَ غيرُه رأيتُ ممن رزق الهمَّة، وممن رُزِق الحفاظ على الأوقات، وممن ألهِمَ حبَّ العلم وطريقه، لكنَّه يتقلَّبُ بين الكتب، بما شاء كيفما شاء، حيران لا يدري طريقه، وأسباب انعدامِ التوفيقِ معروفةٌ معلومة، فلا من الحرام امنتع، ولا بالكفاف اقتنع، ولا بالترغيب انتفع، ولا بالترهيب ارتدع، أو رياءٌ أودَعه الانحطاط، فأبعدَه عن تحقيقِ المناط، أو كِسبةٌ اشتراها سلعة باخسة، فأرتْه الحرمان، فاللهم نعوذُ بك من الخذلان.
(2) كثرةُ الكتب الغثائية، وذلك بالانهماك في شراء الكتب، والانغماس في حبِّ المطالعة، دون أن يضع هدفا له من القراءة، فهذا سيخرج لنا بما يسمى بـ " المثقَّف " وهذا المثقف مع تثقّفه، إلا أنه لا يستطيع التدريس، ولا يخرُّج جيلا تتمنى نبوغهم، وبلوغهم للدرجات العالية في العلم، وتراهُ قد جمع الشتات والفتات، فانتظر ما بذاك من الافتآت!
(3) عدم التلقي عن الأشياخ، فمن دخل في العلم وحده خرج وحده، ومن كان شيخُه كتابَه، غلبَ خطؤوهُ صوابَه، وكان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله،
= ومن لم يشافهْ عالمًا بأصوله ** فيقيـنُه في المشكلاتِ ظنونُ = .
لذا لو امتحنتُم كلّ من لا شيخَ له، لرأيتَه محبًّا للتصدر، كارهًا لمن يردُّه أو يخالفُه، جِلستُه جِلسة الشيوخ، احترامه لأشياخ بلدِهِ رسميٌّ، يأنفُ أن يجهّل نفسه أمام العامة، مذعِنا للمادح، مرعنا للقادح، يأتي بمسائل شاذة، وأقوال غرائب، ويرى أن لا فضلَ لأحدٍ عليه، فبه يبعدُ عنهُ التواضع لمن هو أعلم منه، إلا من رحم ربي.
(4) سوء المنهجية، وذلك بالبُداءة بكبارِ العلمِ قبلَ صغاره، فقد قطفَ الثمرَ قبلَ إثماره، وبحبّ الانفراد فيما يعمل، وإن عملَ فبنصيحةِ الأقران(1).
(5) تردادُ السؤال عن المنهجية، حدّثونا عنْ كل من رأى شيخا متصدرًا للناس، فقال له : أتمنى أن أنفعَ الأمّة، فما سبيلُ المنهجية في الطلب؟ فيرشدُه، ولا يغويه، فربّما عمل – وله آفة -، وربّما جهِل ما قيل، فمن عمِلَ إما أن يكون قد وضعَ كلام الشيخ نصب عيـنيه، لا يحيدُ عنهُ قيْد أنملة، فذاك قد نجح وفلح، أو يفعلُ ذلك فإن رأى شيخا أعلم منه، أو أشهر = سألهُ عن السبيلِ إلى المنهجيّة، فهدم ما بنى، وحققّ ما ادعى، وطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النّفس عن الهوى.
(6) سوءُ التلقي، فحين ترى شيخَك قد ذاع أمرُه وشاع، ولم يتدرَّج في كتب أهل العلم، فإنْ أتيتَه مستنصحا أرشدَكَ إلى اختصار " المغني " لابن قدامة، رأيتُ ذلك بأمّ عينيَّ!
أخي في الله= اعلم أنَّ المنهجية بـ التلمذة، التدرَّج، السماع، كثرةُ القراءة، التمذهب، وسائل لتحصيل المقاصد، فقد يرزق الله رجلا العلمَ، ولما يتتلمذ! وهذا من أندر النادر، وذمُّ أهل العلم؛ بترك التلمذة = إنما هي أمورٌ خاطئة نتجت من التلميذ، فتبدلت أفكاره، وتصدرٌ قبل أوانه، وقدحٌ وذمٌّ في المخالفين، بلا سمت ولا دلّ، ولا هدى إلى صراطٍ مستقيم..
هذا الداء، فما الدواء؟! نكمل -إن شاء رزاقُ الآلاء، وكاشف اللأواء-!