بسم الله الرحمن الرحيم
شَيْخُ الإسْلَامِ والمُتَنَبْيِّ وَجَهْاً لِوَجْهٍ
ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية(11/259) أن الإمام ابن الجوزي استملحَ أبياتاً للمتنبي وكان ممَّا ذكره:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسَرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
فعلَّق الحافظ بقوله:
(وَقَدْ بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى.
وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ الشيخ تقي الدين المذكور يَقُولُ: رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي السُّجُودِ أدعوا الله بما تضمناه من الذُّلِ والخضوع)انتهى .
هذا مثالٌ على النقدِ الشعريِ من منطلقٍ ديني عند شيخ الإسلام...
وقد كان كثير ٌمن الشعراءِ يطلقونَ مثلَ هذه المبالغاتِ الشعريةِ في حقِّ بعضِِ المخلوقينَ رجاءَ حطامٍ من الدُّنيا أو لأمرٍ آخر...
وقد وقفتُ على مبالغةٍ في المديحِ قالها أحدُ الشعراءِ المعاصرينَ يمدحُ الإمامَ أحمدَ وهو آخرَ أئمةِ اليمنِِ،حيثُ قال فيه :
ولو كنتَ في زمنِ النبوة ظاهراً**لأثنى عليك الله في كلِّ سورة
وهذا البيتُ فيه مبالغة لا يستحقُّ مخلوقٌ أن تقالَ له،فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثنِ الله عليه في كل سورة، فكيف بغيره من الخلق؟؟؟
وإنه واللهِ لا ينقضي العجبُ من أولئك الشعراءِ الذين قالوا عشراتِ الأبيات والقصايدِ مدحاً في المخلوقين، لكننا لم نرَ لهم قصيدةً في الثناء على الله تعالى أو في مدح رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حتى قصيدةً في قضيةٍ ساميةٍ في ديننا الحنيف كالتزهيد في شأن الدنيا أو التذكير بالموت وما إلى ذلك... وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على غفلة أولئك الشعراء وانكبابهم في شأن الدنيا وأمورها، وإلا فلو كانت تلكم المعاني حاضرة في عقولهم لما ترددوا في صوغها في قوالب شعرية...
مع العلمِ أنَّ بعض أولئك الشعراء حين يتناولون بعض تلكم القضايا السامية عرضاً يبدعون أيَّما إبداع، فكيف لو أنهم تصدوا لها وأعملوا بعض طاقاتهم الشعرية فيها؟؟؟
ومن أولئك أبو الطيِّب في قصيدته القافية التي مطلعها:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرقُ ... وجوىً يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
فقد استهلَّ هذه القصيدة بأبيات تُعدُّ من عيون شعر النسيب، ثمَّ وإذْ بِهِ بعدَ هذه الأبياتِ الغزليةِ يحرفُ المسار متَّجهاً نحو أحد اليقينيات الكبرى حيث قال :
أبنى أبينا نحنُ أهلُ منازلٍ ... أبداً غرابُ البينِ فينا ينعقُ
نبكي على الدنيا وما من معشرٍ ... جمعتهمُ الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرةُ الجبابرةُ الأولى ... كنزوا الكنوزَ فما بقينَ ولا بقوا
من كلِّ من ضاقَ الفضاءُ بجيشهِ ... حتى ثوى فحواهُ لحدٌ ضيقُ
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا ... أن الكلام لهم حلالٌ مطلقُ
فالموت آتٍ والنفوسُ نفائسٌ ... والمستغرُّ بما لديهِ الأحمقُ
والمرءُ يأملُ والحياةُ شهيةٌ ... والشيبُ أوقرُ والشبيبةُ أنزقُ
إنَّ هذه الأبيات التحمت فيها أسمى الشاعريةِ بأحدِ أسمى القضايا الكبرى في ديننا،ويا ليت أبا الطيبِ أتحفنا بقصايد على هذا المنوال...
وأخيراً: لله درُّ الشاعرِ الذي امتطى شعره ليصل به إلى مرضاةِ ربِّه، ويا خسارة من جعل شعره أحبولةً لنيل حطامٍ من الدنيا قليل...والله الموفق.