الخلاصة :
-و خلاصة القول : أن حديث عائشة رضي الله عنها لا يقدح في صحته تعليل لكبار من أئمة الشافعية ، أمثال الدارقطني و البيهقي ، له بأنواع العلل المختلفة ؛ لأنه قد جاء عن عائشة رضي الله عنها من عدة طرق متعاضدة يبلغ بها رتبة الصحيح عند من أنصف في استعمال القواعد الحديثية و لم يتعصب لمذهب دون مذهب و حسبك أن جماعة من أهل العلم الذين يوثق بقولهم و يعتمد على تصحيحهم قد حكموا له بالصحة ، إما تصريحا ، و إما تلميحا ، كل حسب اجتهاده و مبلغ علمه ، فممن حكم له بالصحة صراحة الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره ، فقد قال بعد أن حكى القولين في المسألة : (( و أولى القولين بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : ( أو لامستم النساء ) : الجماع ، دون غيره من معاني اللمس ؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى و لم يتوضأ )) و قال أيضا : (( ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع : لمس الجماع ؛ لا جميع معاني اللمس )) .
-و قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في أحكامه الوسطى بعد أن ذكر الحديث من طريق عبد الكريم الجزري عن عطاء عن عائشة : (( لا أعلم له علة توجب تركه )) و قال الحافظ ابن حجر في الدراية لما ذكره من هذا الوجه : (( و رجاله ثقات )) و قال أيضا لما ذكره من طريق وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة : (( ورجاله أثبات )) و قال الأمير الصنعاني : (( إذا عرفت هذا ،فالحديث دليل على أن لمس المرأة و تقبيلها لا ينقض الوضوء ، و هذا هو الأصل ، و الحديث مقرر للأصل ...وهو و إن قدح فيه بما سمعت فطرقه يقوي بعضها بعضا )) ( ) .
-وممن صحح الحديث و دافع عنه جمال الدين الزيلعي و العلامة علاء الدين ابن التركماني و الشيخ أحمد محمد شاكر و الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ؛ و قد تراجع عن تضعيفه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي ؛ فقد قلت له : حديث عائشة في القبلة بعد الوضوء ، هل هو صحيح ؟ فقال : (( سئلت عنه من قبل ، فأفتيت بضعفه ، وليتني ما أفتيت )) .
-(قلت ) : و ممن صرح بتصحيح الحديث واحتج به على المخالفين له الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ووقاه من كل مكروه فقد قال :
(( و الحق أن لمس المرأة ، و كذا تقبيلها لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة ؛ و ذلك لعدم قيام دليل صحيح على ذلك ؛ بل ثبت انه صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي و لا يتوضأ . أخرجه أبو داود و غيره ؛ وله عشرة طرق بعضها صحيح ؛ كما بينته في صحيح أبي داود ( رقم 170-173) .
-( قلت ) : و فيما يلي تلخيص مجمل لتلك الطرق المشار إليها ، بعد تفصيل لها فيما سبق .
- الأول : من رواية سفيان الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة و هذا الإسناد مرسل رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي روق عطية بن الحارث ، وهو ثقة كما قال يعقوب بن سفيان و غيره ؛ و قال الحافظ في التقريب : صدوق . فهو حسن الحديث ؛ لولا أن روايته هذه مرسلة ، فإن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة بالاتفاق .
-و قد وصله بعض الرواة فقال : عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة ؛ كما قاله الدارقطني ؛ و لا مناص من القول : بأن المحفوظ عن سفيان المرسل .
-الثاني : من رواية الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عائشة ؛ و رجاله ثقات رجال الشيخين ، و لكنه أعل بالانقطاع أيضا ؛ فقد قيل : إن حبيبا لم يسمع من عروة ؛ قال ذلك البخاري ويحي القطان ؛ و أجاب عن ذلك ابن عبد البر فقال : (( و حبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقائه عروة ، لروايته عمن هو أكبر من عروة و أجل و أقدم موتا ، و هو إمام ثقة من أئمة العلماء الجلة )) وقال أبو داود : (( وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حديثا صحيحا )) . و قال ابن التركماني : (( و هذا يدل ظاهرا على أن حبيب سمع من عروة ، و هو مثبت فيقدم على النافي )) ( ) .
-( قلت ) : و قد أعله بعضهم بعلة أخرى ، فزعم أن عروة هذا الذي روى عنه حبيب ابن أبي ثابت ليس هو ابن الزبير ، و إنما هو عروة المزني ، و هو مجهول ؛ و هذا التعليل ليس بشيء ؛ و لم يلتفت إليه الدارقطني ، و إنما تمسك بالقول الأول ، و هو دعوى الانقطاع و هذا من كمال علمه رحمه الله .
-و الحق : أن الإسناد على شرط مسلم، إن لم يكن على شرط الشيخين جميعا ، فإن إمكان اللقاء بين حبيب و عروة بن الزبير محتمل جدا مع ثبوت المعاصرة بينهما لروايته على من هو أكبر من عروة ، كابن عمر و بن عباس و غيرهما من الصحابة ؛ و قد جزم ابن عبد البر بذلك فقال : (( لا شك أنه أدرك عروة )). و أما قول بعضهم : إن عروة هذا هو المزني فهذا قول ضعيف جدا ، و هو مبني على رواية واهية أوهى من بيت العنكبوت ؛ فلا تغتر به .
-الثالثة : من رواية حاجب بن سليمان عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . و هذا الإسناد صحيح ، رجاله ثقات رجال الصحيح ، غير حاجب و هو ثقة كما قال الذهبي في الكاشف؛ و لا يقدح في صحته تعليل الدارقطني له بأن حاجبا وهم في لفظه على وكيع ؛ و حجة الدارقطني في نسبة الوهم إليه قوله : (( و حاجب لم يكن له كتاب ، إنما كان يحدث من حفظه )) . واعلم أن تحديث الثقة من حفظه لا يؤثر في حديثه ، و إن لم يكن له كتاب ، و إلا فلا يسمى ثقة ؛ أما إذا كان له كتابا و كان كتابه أوثق من حفظه ، فهذا الذي يكون محل نظر عند الحفاظ ؛ إذا علمت هذا فاعلم أن توهيم الثقة لا يكون مقبولا إلا إذا قام عليه دليل قاطع ، و هو مخالفة ذلك الثقة الواهم لمن هو اوثق منه و أضبط ؛ أو لجمع من الثقات ؛ و حاجب لم يخالف غيره فيما رواه عن وكيع –فيما اعلم – و لو كان عند الدارقطني ما يدل على ذلك لذكره كما فعل في حدبث سعيد بن بشير عن منصور بن زاذان عن الزهري ؛ بل الدليل قائم على نفي الوهم عما حدث به الحاجب عن وكيع كما واضح من متابعة أبي أويس له عن هشام .
-الرابع : من رواية أبي أويس المدني عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة و هذا إسناد حسن في الشواهد و المتابعات ، رجاله ثقات ، غير أبي أويس عبد الله ابن عبد الله بن أويس ، فهو مدني ليس بالقوي و هو صالح الحديث ، و قد احتج به الحافظ في التقريب : صدوق يهم .
-الخامس : من رواية الحسن بن دينار عن هشام عن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة . و هذا إسناد ضعيف ، رجاله موثقون غير الحسن بن دينار فهو مجمع على ضعفه .
-السادس : من رواية محمد بن جابر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة و هذا الإسناد أصلح من الذي قبله ، وهو ضعيف أيضا لسوء حفظ محمد بن جابر الحنفي اليمامي ؛ فقد قال الذهبي في الكاشف : (( سيء الحفظ ؛ قال أبو حاتم : هو أحب إلي من أبي لهيعة . )) .
- السابع : من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة و هذا إسناد صحيح ، و هو و هو محفوظ عن عبد الكريم من وجهين ثابتين عنه ؛ و رواه الثوري من وجه ثابت عن عبد الكريم عن عطاء موقوفا من قوله : (( ليس في القبلة وضوء )) و الذي رواه عن عبد الكريم مرفوعا هو عبيد الله بن عمرو ، وهو ثقة ، و تابعه على رفعه موسى بن أعين ، وهو ثقة أيضا ، و الزيادة من الثقة مقبولة ؛ و الراوي قد يفتي من حفظه دون الاحتجاج إلى إثبات الحجة .
-الثامن : من رواية سعيد بن بشير بن منصور بن زاذان عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة . و منصور بن زاذان ثقة ، و سعيد بن بشير ليس بالقوي كما قال الدارقطني؛ و قد وثقه دحيم ، و قال البخاري : يتكلمون في حفظه ، و هو محتمل .
-(قلت ) و الإسناد إله صحيح ؛ و قد صح عن الزهري أنه أفتى بخلافه . و قال الزيلعي و ابن التركماني : (( و أقل أحوال مثل هذا أن يستشهد به )) ( ) .
-التاسع : من رواية عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن عروة عن عائشة قالت : (( كان النبي صلى اله عليه وسلم يقبل وهو صائم ؛ ثم يصلي ولا يتوضأ )) . كذا قال فيه : عن أبي سلمة عن عروة عن عائشة ؛ ورجاله ثقات غير الروي عنه عن عيسى بن يونس ، و هو إسماعيل بن موسى الفزازي ؛ فهو صدوق شيعي كما قال الذهبي في الكاشف ؛ و لولاه لصح الإسناد ؛ و لكن لعله يعتضد بالذي قبله فيعتبر بما روى الزهري ، لا بما أفتى به ؛ و قد ذكرنا في المقدمة كلام ابن القيم فيما يختص بعدول الراوي عن روايته إلى رأيه أو إىل رأي غيره ؛ فقد بين ابن القيم رحمه الله هذه المسألة بيانا شافيا .
-العاشر : من رواية عمرو بن شعيب عن عمته زينب السهمية عن عائشة و هذا إسناد جيد ، كما قال الزيلعي ؛ و أعله الدارقطني بأن زينب هذه مجهولة و لا تقوم بها حجة ؛ و أعله غيره بأن في سنده الحجاج بن أرطاة ، وهو مدلس و خفي عليه أن الأوزاعي تابع الحجاج عن عمرو ؛ و لذلك لم يلتفت أبو الحسن الدارقطني لمثل هذا التعليل ، و إنما اكتفى بالأول ؛ و الجواب عنه : أن زينب هذه معروفة ، فهي بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عمة عمرو بن شعيب ؛ فتكون جهالتها حال ، لا جهالة العين ؛ و على كل حال : فهي من بيت علم وفضل ؛ وحديثها يعتضد بالمتابعة كما تقرر في النخبة ؛ و قد قال الذهبي : ما علمت من النساء من اتهمت و لا من تركوها .
-يستخلص مما سبق : أن الحديث صحيح في غاية الصحة ، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها من عشرة طرق ، منها ما هو صحيح لذاته ، و منها ما هو حسن لذاته ، و منها المرسل الذي يعتضد بغيره ، و منها الموقوف الذي لا نزاع في صحته ،و رفعه زيادة من ثقة يجب قبولها ، و منها الحديث المستور الذي يتقوى بالمتابعة ، و منها حديث السيء الحفظ الذي ينجبر بمجيئه من وجه آخر و منها الحديث الضعيف الذي يعتبر بمثله إذا انضم إلى غيره ؛ فالحديث صحيح غاية الصحة ؛ و قد صححه جمع من أهل العلم ، و الله أعلم .