بسم الله الرحمن الرحيم
’’تعقيب على كتاب للشيخ سليم الهلالي ـ وفقه الله ـ‘‘
وقفت أخيرا على كتاب للشيخ سليم الهلالي ـ وفقه الله ـ بعنوان ’’مجموع فتاوى العلماء الربانيين في تحكيم القوانين‘‘ في طبعته الأولى 1427هـ ( دار الكتاب للصواب / الأردن).
و لما تصفحته وجدت فيه ما لا يحسن السكوت عليه من التعليقات المنكرة، و الكلمات غير المحررة، فكتبت هذه الوقفات نصحا للكاتب و القارئ، و الله من وراء القصد:
1/ يظهر من عنوان الكتاب و مضمونه خلط بين صور الحكم بغير ما أنزل الله، و منها تحكيم القوانين الوضعية، مع تنزيل كلام أهل العلم على صورة واحدة، و هذا غير دقيق؛ لأن مسألة الحكم و التحاكم متعددة الصور.
فتحكيم القوانين من نوازل هذا العصر، وكلام العلماء فيها مختلف، و أما التفسير المنقول عن السلف في الحكم بغير ما أنزل الله فهو في بعض الصور لا في كلها، و الله أعلم.
قال معالي الشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ـ حفظه الله ـ في كتابه ’’التمهيد لشرح كتاب التوحيد‘‘(ص428-429):
(( و هذه المسألة ـ أعني مسألة التحاكم إلى غير شرع الله ـ من المسائل التي يقع فيها خلط كثير، خاصة عند الشباب في هذه البلاد و في غيرها، و هي من أسباب تفرق المسلمين؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا، و الواجب أن يتحرى طالب العلم ما دلت عليه الأدلة و ما بين العلماء من معاني تلك الأدلة و ما فقهوه من أصول الشرع و التوحيد و ما بينوه في تلك المسائل.
و من أوجه الخلط في ذلك: أنهم جعلوا المسألة ـ مسألة الحكم و التحاكم ـ واحدة، يعني جعلوها صورة واحدة، و هي متعددة الصور، فمن صورها: أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقل، يضاهى به حكم الله ـ جل و علا ـ؛ هذا التقنين من حيث وضعه كفر، و الواضع له و المشرِّع و السَّان كذلك، و جاعل هذا التشريع منسوبا إليه و هو الذي حكم بهذه الأحكام، هذا المشرِّع كافر، و كفره ظاهر؛ لأنه جعل نفسه طاغوتا، فدعا الناس إلى عبادته، عبادة الطاعة و هو راضٍ، و هناك من يحكم بهذه التقنين ـ و هذه الحالة الثانية ـ، فالمشرِّع حالة، و من يحكم بذلك التشريع حالة، و من يتحاكم إليه حالة، و من يجعله في بلده من جهة الدول هذه حالة رابعة )).
إلى أن قال ـ حفظه الله ـ (ص429-430):
(( أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتا و يحكم دائما و يلزم الناس بغير شرع الله، فهذا من أهل العلم من قال: يكفر مطلقا ككفر من سنَّ القوانين؛ لأن الله ـ جل و علا ـ قال:{ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقا طاغوتا، و قال:{ و قد أمروا أن يكفروا به}.
و من أهل العلم من قال: حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل؛ لأنه قد يعمل ذلك و يحكم و هو يعتقد في نفسه أنه عاص، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها.
و القول الأول ـ و هو أن الذي يحكم دائما بغير شرع الله و يلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر ـ هو الصحيح ـ عندي ـ و هو قول الجد الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ في رسالته ’’تحكيم القوانين‘‘؛ لأنه لا يصدر في الواقع من قلب قد كفر بالطاغوت، بل لا يصدر إلا ممن عظم القانون، و عظم الحكم بالقانون)).
و هذا كلام قوي دقيق، مبني على الفهم و التحقيق، و ما في كتاب ’’ترغيم المجادل العنيد‘‘ (ص88-90) للشيخ علي الحلبي ـ سدده الله ـ من نقد له فهو هزيل، لا يقوم على ساق الدليل، و على الله قصد السبيل.
2/ قال الشيخ سليم الهلالي ـ سدده الله ـ في الكتاب المذكور (ص3): (( و قد قام العلماء السلفيون على مر العصور، و كر الدهور، بتأصيل هذه المسألة و تفصيلها، و كان أوضح تقرير لها في هذا القرن على يد شيخنا الإمام الرباني محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ حيث نشر أول إسناد فقهي معاصر متصل بفقه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفصل مسألة تحيكم القوانين ))اهـ.
فأقول: محدِّث العصر العلامة الشيخ الألباني رحمه الله هو من هو مكانة في العلم، و منزلة في الفضل، لكن في نظري أول و أحسن من فصل في المسألة هو سماحة الشيخ العلامة الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في رسالته النفيسة ’’تحكيم القوانين‘‘.
3/ ذهب الشيخ سليم إلى اعتبار المسألة مسألة إجماع في جميع صورها، و الأمر ليس كذلك كما يظهر للناظر في كلام العلماء في تحكيم القوانين.
قالت الجنة الدائمة ـ وفقها الله ـ ردا على بعض طلبة العلم: (( دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام، إلا بالاستحلال القلبي، كسائر المعاصي التي دون الكفر، و هذا محض افتراء على أهل السنة منشؤه الجهل أو سوء القصد، نسأل الله السلامة و العافية )).
4/ جمع المؤلف في كتابه نقولا كثيرة لأهل العلم من المتقدمين و المتأخرين و المعاصرين، و خلط في هذا من جهتين:
الأولى: جمعه بين علماء أهل السنة و علماء الأشاعرة، و معلوم الخلاف بينهم في مسائل الإيمان و الكفر.
و الثانية: سياقه لبعض الأقوال المتناقضة و المختلفة، بدون تنبيه عليها أو توفيق بينها.
5/ نفى في حاشية (ص20) عن الشيخ علي الحلبي حصره الكفر في الجحود و التكذيب في بعض كتبه، ثم قال: (( و لكن الأمر الذي تقهقه منه الثكالى ـ فشر البلية ما يضحك ـ: أن تتبنى بعض المرجعيات العلمية اتهامات التكفيريين و الحركيين الحزبيين... و هم في الوقت نفسه يعدون أنفسهم امتدادا للدعوة السلفية في جزيرة العرب... )).
إلى أن قال (ص21): (( إذن فلماذا الكيل بمكيالين، و اللعب على الحبلين، و تفريق السلفية إلى طائفتين: شامية و حجازية ؟ )).
و أقول: يكفيك من الشر سماع هذا الطعن الشديد في علماء اللجنة الدائمة؛ فهم عند الهلالي ـ عفا الله عنه ـ قد وافقوا التكفيريين مع أنهم يعدون أنفسهم امتدادا لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، بل هم ممن يكيل بمكيالين و يلعب على الحبلين حتى فرقوا السلفية، و العياذ بالله.
فهل هذا هو موقف أهل السنة مع اللجنة الدائمة بعلمائها الأفاضل؛ نظرة قاتمة، وأحكام ظالمة ؟
الجواب الأكيد هو بالنفي قطعا، إلا عند الشيخ سليم الهلالي و من يوافق مشربه.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: (( ليس منا من لم يجل كبيرنا، و يرحم صغيرنا، و يعرف لعالمنا حقه ))، رواه الإمام أحمد و حسنه العلامة الألباني.
و قال طاووس ـ رحمه الله ـ: ( من السنة أن يوقر العالم ).
و صدق الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ حين قال في ’’سير أعلام النبلاء‘‘ (8/448): (( إنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل و الورع )).
اللجنة الدائمة أفتت و بينت الحق في مسائل خاض فيها بعض طلبة العلم بغير علم و لا حق، فالواجب شكرهم و الرجوع إلى ما قرروه من حق، أو على الأقل حفظ مكانتهم و منزلتهم.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ( لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، و عن أمنائهم و علمائهم، فإذا أخذوا عن صغارهم و شرارهم هلكوا ).
6/ ذكر في (ص47 و ما بعدها) أقوال بعض المعاصرين في المسألة، غير أنه أهمل جملة منها لثلَّة من أجلة العلماء؛ كالعلامة المحدث أحمد شاكر و الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي و الأستاذ العلامة محمود شاكر ـ رحمهم الله ـ، و معالي الشيخ العلامة صالح الفوزان ـ حفظه الله ـ، و غيرهم ممن بيَّن و كتب في القضية بما يكفي و يشفي.
7/ لم يستوعب كلام بعض من نقل أقوالهم مثل الحافظ ابن كثير و العلامة الشنقيطي و الشيخ العلامة محمد بن عثيمين ـ رحمهم الله ـ، مع أن تحرير مذهبهم في المسألة يفتقر إلى ذكر جميع أقوالهم و التوفيق بينها.
فمما فاته قول الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي في ’’أضواء البيان‘‘ (4/66): (( و بهذه النصوص السماوية التي ذكرناها يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على السنة أوليائه مخالف لما شرعه الله ـ جل و علا ـ على ألسنة رسله ـ صلى الله عليهم و سلم ـ؛ أنه لا يشك في كفرهم إلا من طمس الله بصيرته، و أعماه عن نور الوحي مثلهم ))اهـ.
5/ ذكر (ص 47-52) بعض أقوال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ و لكنها ـ كالعادة ـ غير مستوفاة و لا مستوعبة، بل هناك من الأقوال ما هو أصرح في المسألة، فلم يذكرها حتى يظهر الشيخ في مظهر الموافق لما بنى عليه كتابه، و الأمر في حقيقته ليس كذلك.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه اله ـ: (( القوانين كفر ناقل عن الملة، اعتقاد أنها حاكمة و سائغة، و بعضهم يراها أعظم، فهؤلاء نقضوا شهادة أن محمدا رسول الله، و لا إله إلا الله أيضا نقضوها، فإن من شهادة أن لا اله إلا الله؛ لا مطاع غير الله، كما أنهم نقضوها بعبادة غير الله.
و أما الذي قيل فيه: كفر دون كفر؛ إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص و أن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة و نحوها. أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهو كفر و إن قالوا أخطأنا و حكم الشرع أعدل، ففرق بين المقرر و المثبت و المرجع ـ جعلوه هو المرجع ـ فهذا كفر ناقل عن الملة )) اهـ، ’’مجموع الفتاوى و الرسائل‘‘ له (12/280).
و مع هذا الكلام الصريح، و البيان و التوضيح يقول الشيخ الهلالي ـ سدده الله ـ في ( ص53): (( فلو كان في كلامه في ’’تحكيم القوانين‘‘ إجمال؛ ففي هذه الفتوى [انظر ’’مجموع الفتاوى‘‘ (1/80)] تفصيل و تأصيل ينبغي أن نسير إليه، لكن الحزبيين الحركيين يحاولون إخفاء هذه الفتوى التي نقضت دعواهم، و كشفت أهواءهم؛ فإنا لله و إنا إليه راجعون )).
فأقول: أحسن جواب و أبلغ رد على هذا الكلام هو ما قالته اللجنة الدائمة ـ ردا على بعض طلبة العلم ـ: (( تحريفه لمراد سماحة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ في رسالته ’’تحكيم القوانين الوضعية‘‘، إذ زعم جامع الكتاب المذكور أن الشيخ يشترط الاستحلال القلبي، مع أن كلام الشيخ واضح وضوح الشمس في رسالته المذكورة على جادة أهل السنة و الجماعة )).
و عن شبهة تراجع الشيخ محمد بن إبراهيم انظر ـ لزاما ـ ما كتبه الشيخ عبد الله السعد ـ حفظه الله ـ في تقريظه لكتاب ’’رفع اللائمة‘‘ (ص53-60)، فإنه نفيس.
و في الأخير هذا ما أردت بيانه، فإن أصبت فمن الله، و إن كان غير ذلك فمن نفسي و الشيطان، وفق الله الجميع لما يحب و يرضاه.
فريد المرادي.
الجزائر في 8 شوال 1428هـ.