بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا ملئ السماوات وملئ الأرض والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله كما أمرنا بذلك في النفل والفرض ... أما بعد :
فالعدل من الأمور المطلوبة عند جميع العقلاء, فهو أمر لم تختص به شريعة الإسلام فقط, ولكنها أكدته وأمرت به في القرآن والسنة فقال تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان } وفي السنة ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)). والعدل لغة : الحكم بالاستواء. ويقال للشَّيء يساوي الشيء: هو عِدْلُه. وعَدلْتُ بفلانٍ فلاناً، وهو يُعادِله. انتهى من مقاييس اللغة لابن فارس.
ولكن العدل الشرعي ليس هو المساواة المطلقة, ولم تأتي الشريعة بذلك البتة, فالعدل في الشريعة الإسلامية معنى مغاير لمعنى العدل في اللغة, وذلك أن الله جل وعز قد حكم في كتابه العظيم بعدم المساواة بين بعض الأشياء والأعيان التي يظن الجاهل فيها من التماثل ما يوجب أن يكون العدل فيها بالمساواة بينها.
قال تعالى { وليس الذكر كالأنثى } فليس من العدل المساواة بين هذين الصنفين من البشر وإن تماثلوا في أصل الخلق وغيره من الصفات, فهذه المساواة المطلقة من الجور وليست بعدل.
قال تعالى { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فليس من العدل المساواة بين هذين النوعين من العباد وإن تماثلوا في الصفات من جهة أخرى كالمواطنة أو النسب ونحوهما, فعندئذ تكون المساواة المطلقة المسلم والكافر من الجور وليست بعدل.
وقال تعالى { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } فليس من العدل المساواة بين هذين الصنفين من المسلمين وإن تماثلوا في اتصافهم بالإسلام, فالمساواة المطلقة بين المطيعين والمسيئين من الجور وليست بعدل.
فالعدل الشرعي الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ليس هو ما يفهمه الكثير من الناس اليوم, ويعتقدون أن العدل هو المساواة بين الناس بغض النظر عن الميزان الشرعي للعدل الذي قامت به السماوات والأرض.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي تفسير قَوْلِهِ تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } فقَالَ: شهادة إِنَّ لا إله إلا الله . انتهى
وصدق ترجمان القرآن فهذه الشهادة أعدل العدل, وضدها أظلم الظلم وهو الشرك بالله قال تعالى { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وبهذا يتبين غلط وقبح المساواة بين المسلم والكافر, بزعم أن في الكافر خصال لا توجد في المسلم, وهذا من الجور الذي لا يرضاه أعدل العادلين, فكل الخصال الفاضلة في الكافر لا تساوي شيئًا أمام حسنة التوحيد التي يتصف بها المسلم الموحد بالله, فهذا حكم الله قال الحكم العدل { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فكيف لك يا عاقل أن تعتبر عدل الكافر في أمور الدنيا الحقيرة, وهو يترك أوجب العدل وهو الإيمان بالله, ولا يعني ذلك ترك إنصافه, ولكن كذلك لا يعطى فوق حقه وما أعطاه الله .
فمن عدل فأدى ما عليه في دين تافه, ثم جحد ما عليه من ديون عظيمة وهو قادر, لا يقال أنه عادل بل هو ظالم جائر, وهكذا الكافر الذي يكفر برب العالمين.
وما يؤيد تقرير ذلك أن السنة جاءت بالصبر على ظلم الولاة المسلمين, وبالخروج عليهم بمجرد كونهم كافرين, فالصحابة الكرام يسألون النبي الأمين عن الحكام الفاسقين الذين يمنعون الحقوق, ويستأثرون بالخيرات فيقول لهم صلى الله عليه وسلم : ((اسمعوا وأطيعوا, فإنما عليهم ما حملوا, وعليكم ما حملتم )) ويقول بأبي هو وأمي : (( تؤدون الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم )) !!!
فهذا الظلم والجور ليس بمسوغ عند سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, للخروج على هؤلاء الحكام الفجرة الظلمة, لوجود حسنة التوحيد عندهم, ولمصالح ولمفاسد دينية ودنيوية لا يعلمها قصار النظر, ويعلمها سيد الأنبياء والمرسلين, ولذلك يقول: (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض )) يعني يجب الصبر حتى الموت ما دام الحاكم الظالم مسلمًا, فمتى ننابذهم يا رسول الله ؟
يقول سيد المرسلين : (( عند أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان )) حينئذ لا سمع ولا طاعة, بل أجمع أهل العلم بأنه لا يجوز البقاء تحت حكم الحاكم الكافر ولو كان من أعدل الناس, عند القدرة على الخروج عليه أو عند القدرة على الهجرة من تحت حكمه, إلى حكم إسلامي يستطيع أن يقيم فيه المسلم دينه, ولو مع شيء من الظلم والجور, وللتأكيد فهذا الحكم عند القدرة , فلا يدخل فيه المسلم العاجزعن الهجرة , ويقول ابن المنذِر: أجمع كلُّ مَن يُحفَظ عنه مِن أهل العلم أنَّ الكافر لا ولايةَ له على المسلم بِحال .انتهى
فهذا يدل على كم هي عظيمة حسنة التوحيد عند الله جل وعز, ويؤكد ذلك حديث صاحب البطاقة فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ قَالَ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ أَحْضِرُوهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ قَالَ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ . فهذا التوحيد المنجي هو التوحيد الخالي من محبة الكفار أعداء الله, وبالعكس من ذلك فقد سألت عائشة رضي الله عنها عن مصير رجل من الكفار كان في الجاهلية يقري الضيف ويطعم المسكين ويفك الأسير ويصل الرحم ويحسن الجوار وذكرت عنه خصال حميدة ثم قالت: هل ينفعه ذلك ؟ قال عليه الصلاة والسلام : لا . إنه لم يقل يوم من الدهر ربي أغفر لي خطيئتي يوم الدين, يعني لم يؤمن.
ولكن ما معنى قولهم : (إنَّ اللَّهَ ينصر الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً ؛ وَلَا ينصر الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً) ؟
أقول: ليس في هذا المعنى ما يفيد جواز تولي الكافر على المسلمين, وغاية ما في هذه العبارة التأكيد على أن المسلمين يكلهم الله تعالى إلى أنفسهم متى تركوا طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما حصل لهم وهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد وحُنين, وفي العبارة أيضًا أن الكفار يجازون على أفعالهم الحسنة في الدنيا كالعدل ونحوه بأن يُنصروا على خصومهم ويُنعّموا بقدر ما أحسنوا في أفعالهم, وأما في الأخرة فما لهم من خلاق كما أخبر تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } انتهى وصل اللهم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.

أبو طارق علي النهدي
20 جماد أول 1432 هجرية