الموضوع: في ربوع المغرب الأقصى

في ربوع المغرب الأقصى

أولاً: من الرباط إلى مراكش

قدَّر الله لي زيارة المغرب الأقصى خلال الشهر الماضي، وسعدتُ فيها بصحبة الأستاذ الفاضل والشيخ الأديب إبراهيم أحمد أزوغ _حفظه الله_الذي جُلْتُ معه في رياض المغرب الغَنَّاء، من الدار البيضاء إلى الرباط، ومن الرباط إلى مراكش، ومن مراكش إلى أكادير، وبات الشيخ يطارحني أحسن الحديث، فذكر لي _ونحن في الطريق إلى مراكش_ قول العَجَّاج: (قَوَاطنًا مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِي). وتمام هذه الأرجوزة: ورَبِّ هـَـذَا الْبَلَـدِ المُحَـرَّمِ

والقَاطِناتِ البَيْتَ غيرِ الرُّيَّمِ

قَواطِناً مكةَ من وُرْقِ الحَمِي

ورَبِّ هــذا الأثَـرِ المُقَسَّـمِ

من عَهْدِ إبراهيمَ لَمَّا يُطْسَمِ

شرح بعض المعاني: قواطناً مكة: حَمَام مكة، وقَطَنَ بالمكان أَقام به وتَوَطَّنَ، ويُرِيدُ بِالْوُرْقِ: الْحَمَامَ ذات اللون الرَّمَادِي. وغير الرُّيَّمِ: الحمام الذي يمكث في المكان ولا يغادره. والأَثَر المُقَسَّم: مَقامُ إبراهيم عليه السلام، والمقسَّم: المحسَّن.وطَسَمَ الشيءُ وطَمَسَ بمعنى: دَرَسَ.
*قال الشيخ _حفظه الله_: الضرورة الشعرية قد لا تكون من باب الإحْواجِ بل لغاية بيانية:
فبعضهم يذكر قول العجاج: (قَوَاطنًا مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِي) مثالاً على الضرورة الشعرية، في صرف ما لا ينصرف في (قواطن)، والحذف في (الحَمِي) إذ إن أصلها الحَمَام، والشيخ يرى أن لجوء الشاعر إلى هذا كان لغاية بلاغية، لا لضرورة شعرية، فقوله: (قواطناً مكة) أبلغ من (قَواطِن مكةَ) لأن الفاعلية أقوى من الإضافة، كما أن هذا التعبير يدل على دوام سكناها بمكة والتصاقها بالبلد الحرام، وعدم مغادرتها له، والحذف في (الحمي) كان لغرض بياني أيضاً، فالتقليل والتصغير مدعاة للتحبيب، كما هو الشأن في الترخيم مثل قول امرئ القيس: ( أفاطِمُ مَهْلاً بعضَ هذا التَّدَلُّلِ)
وقال لبيد رضي الله عنه: دَرَسَ المَنا بِمُتَالِع فإبانِ ... فَتَقَادَمَت بالحَبْسِ فالسُّوْبانِ
مُتَالِع وإبان والحَبْس والسُّوْبان أسماء مواضع، ويريد بالمَنا: المنازل، واستخدم صيغة الحذف –حسب رأي الشيخ- لأن هذه الديار عفت واندرست، فلم يبق منها إلا آثار يسيرة، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والعكس صحيح، فهذه المنازل لم تعد كاملة البنيان، فكان التعبير عنها بالحذف مناسباً.
*ورد في القرآن تنوين الممنوع من الصرف لأغراض بيانية مثل:
أ- قول الله تبارك تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا). [الإنسان: 4 ]، في قراءة، وفي قراءة أخرى: (سَلاسِلَ). والأولى جاءت (سَلاسِلاً) بالتنوين؛ للتناسب وتحقيق المحاذاة بين: سلاسلاً، وأغلالاً، وسعيرًا.
ب_ وقول الله تبارك وتعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيراْ (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ...). [الإنسان 15 ،16].جاء تنوين (قَوَارِيرا) الأولى عند الوقف عليها؛ لتتفق الفواصل في رؤوس الآي.
ج_ وقول الله عز وجل: (وَجِئْتُك مِن سَبَأٍ بنَبَأٍ يَقينٍ). [النمل22]. هكذا بتنوين كلمة: (سَبَأٍ) لتحاذي ما بعدها: (نَبَأٍ)، وسبأ اسم لقبيلة وهو ممنوع من الصرف كما ذكره سيبويه في الكتاب عن أبي عمرو بن العلاء.
*كما ورد في حديث النبي _صلى الله عليه وسلم_ استعمال بعض الضرورات لغاية بلاغية منها:
أ_قوله عليه الصلاة والسلام لبلال بن رباح: "أَنْفِقْ بِلَالاً، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا ". أخرجه أبو يعلى والطبراني بإسناد حسن.قال الإمام السيوطي في شرح جمع الجوامع: (نوَّن المنادى المعرفة ونصبه لمناسبة إقلالاً). يعني الأصل:" أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا ".
ب_وقوله _صلى الله عليه وسلم_ لنسوة اتبعن الجنازة: "ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ". أخرجه ابن ماجه وغيره. والأصل موزورات، وجاءت مأزورات للمناسبة والسجع مع مأجورات.
وبَيْنا نحن نَتَجَاذب أهداب الحديث إذ برزت علينا مراكش عاصمة المرابطين التي اختطها يوسف ابن تاشفين، فلم نشعر _معحُلْو الْمُحَاوَرَةِ ، وعَذْب الْمُفَاكَهَة_ بطول المسافة، ولا ببعد الشقة، وانقطع حديثنا عندما أطلت نُخيلات بأطراف مراكش تروي تاريخ وأمجاد الفاتحين، ولي مع ما رأيت وسمعت خلال هذه الرحلة كلمات أخر بإذن الله تعالى.

جميلة بلاد المغرب الأقصى ... أحسن الله إليك