بسم الله الرحمن الرحيم

فصلٌ : في بيان اتصال رواية ابن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .... أما بعد :
اعلم رحمك الله بأن في سماع ابن جابر وهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي من أبي الأشعث الصنعاني مقال , كما ذكر ذلك ابن القيم عن ابن المديني (جلاء الإفهام ص83) وسلّم به, وذهب إليه الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله[1] , ولذلك وجه من خلال ما ذُكر في بعض تراجمهما من جهة تاريخ وفاتهما , الذي يدل على نفي المعاصرة فضلاً عن السماع, وقد اختلف علماء الجرح والتعديل وأصحاب التواريخ في أسم أبي الأشعث , وفي عام وفاته , وفي نسبته بين اليمن والشام وهذا من أسباب ذهاب بعض أهل العلم إلى أن رواية ابن جابر عنه منقطعة ولا يصح له السماع لعدم المعاصرة فضلاً عن إمكانية اللقاء .

فعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي مات عام 154هـ في أرجح الأقوال , وهو ابن بضع وثمانون عاماً .

وأما أبو الأشعث الصنعاني فإليك بيان حاله :
قال ابن سعد [2]: أبو الأشعث الصنعاني شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن أدة , من الأبناء وكان قد نزل بآخره دمشق , وروى عنه الشاميون , وتوفي قديماً في ولاية معاوية بن أبي سفيان .اهـ
وقال يحيى بن معين [3]: أبو الأشعث الصنعاني , من الأبناء , ونزل دمشق , واسمه شَرَاحيل .
وقال في موضع [4]: اسم أبي الأشعث الصنعاني شرحبيل بن شرحبيل .
وقال كما في الموضع نفسه : اسم أبي الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن شُرَحبيل .اهـ
وقال البخاري [5]: شَرَاحيل بن آده أبو الأشعث الصنعاني الشامي , سمع عُبادة , وثوبان , وسمع منه أبو قلابة .اهـ
وقال ابن أبي حاتم [6]: شراحيل بن آدة ، ويقال شراحيل بن شراحيل ، وهو أبو الأشعث الصنعانى ، من صنعاء دمشق.... سمعت أبا زرعة يقول : اسم أبى الأشعث الصنعانى شراحيل بن آدة.اهـ
وقال ابن حبان [7]: أبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن آدة , ومن قال شراحيل بن آدة فقد نسبه إلى جده , وكان من الأبناء سكن صنعاء الشام , وكتب عنه الناس بدمشق , مات في ولاية معاوية.اهـ
وقال في مشاهير علماء الأمصار [8]: أبو الأشعث الصنعاني شراحيل بن كليب بن آدة كان متقناً.اهـ
قال منجويه [9]: شراحيل بن أده ويقال ابن كليب بن أدة أبو الأشعث الصنعاني ويقال شرحبيل بن شرحبيل الشامي.اهـ
وقال ابن عساكر [10]: لعله جاء من صنعاء اليمن فسكن صنعاء الشام.اهـ
وقال الحافظ المزي [11]: شراحيل بن آدة أبو الأشعث الصنعاني قاله يحيى بن معين وغيره , وقال محمد بن سعد : اسمه شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن ادة ويقال شراحيل بن كليب بن ادة ويقال شراحيل بن شراحيل ويقال شرحبيل بن شرحبيل , والأول اشهر , وهو من صنعاء الشام , وكانت قرية بالقرب من دمشق , وهي الآن أرض فيها بساتين غربي دمشق , بينها وبين الربوة , وقيل إنه من صنعاء اليمن , ويحتمل أنه كان من صنعاء اليمن ثم لما قدم الشام سكن صنعاء دمشق والله اعلم.اهـ
وقال الذهبي [12]: شراحيل بن آده , أبو الأشعث الصنعاني , وفي أبيه أقوال وقيل فيه شرحبيل .اهـ
وقال في التاريخ [13]: شراحيل بن آدة م على الصحيح، أبو الأشعث الصنعاني، صنعاء دمشق. في الكنى بعد المائة، فيحول إلى هنا. وأما ابن سعد فقال: توفي زمن معاوية، فوهم، لأن هذا الرجل روى عنه: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ويحيى بن الحارث الدماري، وطبقتهما.اهـ
وقال الصفدي في الوافي [14]: شراحيل بن آده ، أبو الأشعث الصنعاني ، من صنعاء دمشق ؛ توفي في حدود التسعين للهجرة، وروى له مسلم والأربعة.اهـ
وقال الجندي اليماني في تاريخه [15]: ومنهم أبو الأشعث شراحيل بن شرحبيل بن كليب بن أزدشير من الأبناء نزل أخيرا دمشق ومات بها وعده الحاكم في تابعي اليمن من نقله الآثار .اهـ

مما تقدم يظهر أنهم اتفقوا على اسمه وأنه شراحيل , واختلفوا في اسم أبيه فقيل : آده وقيل شرحبيل وقيل شراحيل وقيل كليب , والراجح عندي أنه كليب لما سيأتي .
واختلفوا في وفاته فقال ابن سعد وتبعه ابن حبان : مات في خلافة معاوية رضي الله عنه .
وخالفهما الذهبي فذكره في وفيات عام مائه وقال : وهم ابن سعد , لأن الرجل روى عنه ابن جابر والذماري وطبقتهما.
وكذا قال الصفدي في وفياته : توفى في حدود التسعين للهجرة .

تحرير الأقوال وبيان الصواب منها :
يلزم من الترجيح تحرير بعض الأوصاف التي قيلت في ترجمة أبي الأشعث , كتاريخ وفاته , وشهوده فتح دمشق , والصحيح في اسم أبيه .
فمن ينظر لطبقة شيوخ أبي الأشعث , يعلم أن في قول من قال أنه شهد فتح دمشق , وتوفى في زمن معاوية رضي الله عنه نظر .
فمدينة دمشق فتحت عام ( 14 هـ ) على أرجح الأقوال , فإن كان أبا الأشعث ممن شهد هذا الفتح , فيلزم منه إدراكه لكبار الصحابة , وهو ليس له إدراك إلا لمن تأخرت وفاته منهم , مثل عبد الله بن عمرو (بعد 60 هـ ) وأبي هريرة (59 هـ) وشداد بن أوس (60 هـ) ,
أو كان من صغارهم رضي الله عنهم أجمعين , مثل النعمان بن بشير (65 هـ) , وكذلك لو نظرنا إلى أشياخه من التابعين تجدهم من طبقة كبار التابعين مثل : أبي عثمان الصنعاني وأبي أسماء الرحبي من أهل الطبقة الأولى , فتأمل .
ثم أن أبا الأشعث الصنعاني ومن في طبقته تجدهم يروون أخبار فتح دمشق عن شيوخهم .
قال أبو زرعة الدمشقي : حدثنا محمد بن عثمان قال : حدثنا الهيثم بن حميد عن محمد بن يزيد الرحبي عن أبي الأشعث الصنعاني عن أبي عثمان الصنعاني قال : [ لما فتح الله عز وجل علينا دمشق ][16] كنا مع أبي الدرداء مسلحة ببرزة، ثم تقدمنا مع أبي عبيدة بن الجراح ففتح الله بنا ما دون النهر، وحاصرنا عانات، وقدم علينا سلمان الخير في مدد لنا.
وفي رواية[17] راشد بن داود الصنعاني عن أبي عثمان الصنعاني قال : حاصرنا دمشق فنزل يزيد بن أبي سفيان على باب الصغير ونزل أبو عبيدة بن الجراح على باب الجابية ونزل خالد بن الوليد على باب الشرقي وكان أبو الدرداء ببرزة.

وأبو عثمان الصنعاني هو شراحيل بن مرثد أدرك أبا بكر وشهد اليمامة وفتح دمشق , وروى عن سلمان الفارسي وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة رضي الله عنهم وروى عن كعب الأحبار كما في تهذيب الحافظ ابن حجر برقم (559) .
قلت : لعل اشتراك أبي الأشعث مع أبي عثمان في الاسم الأول واللقب أدى لغلط من قال أن أبا الأشعث شهد فتح دمشق , وقولهم (( شهد )) هنا بمعنى المشاركة في الفتح وليس مجرد الإدراك لزمن هذا الفتح فقط فتنبه .
فلو سلمنا بأن أبا الأشعث شهد هذا الفتح , يلزم من ذلك أنه ولد في زمن النبي أو في عام وفاته صلى الله عليه وسلم على أقل تقدير , ويلزم من ذلك أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أو أدرك طبقة كبار الصحابة , فمن المتعين أن تجد له ذكر في كتب تراجم الصحابة , ولكن لم يترجمه له أحد البتة , ومن المعلوم أن السنة في قبول الفتيان للجهاد لا يكون قبل سن الخمسة عشرة كما ورد ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما[18] , فلو قلنا أن أبا الأشعث شهد فتح دمشق وهو فتى , لاقتضى ذلك أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم , أو أبا بكر رضي الله عنه , وهذه الصفة تنطبق على أبي عثمان الصنعاني كما في ترجمته فإنه أدرك أبا بكر رضي الله وشهد اليمامة مع خالد بن الوليد وفتح دمشق مع أبي عبيدة وهما من أقران أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين . فقوي بذلك هذا الظن وأن المقصود بحضور فتح دمشق هو شراحيل بن مرثد أبو عثمان الصنعاني , لا شراحيل بن كليب بن آده أبو الأشعث الصنعاني .

ولكن يُشكل علينا أن عبد الرحمن بن إبراهيم ( دحيِّم ) عمدة أهل الشام في الرجال قد جمع بين أبي الأشعث وأبي عثمان الصنعانين مع أبي أسماء الرحبي وقال أنهم شهدوا فتح دمشق ؟!
قال ابن عساكر بإسناده[19] : قال أبو الحسن بن سُمَيع : في الطبقة الأولى : أبو الأشعث الصنعاني , قال عبد الرحمن : شهد أبو عثمان وأبو أسماء وأبو الأشعث فتح دمشق .اهـ
قلت : جعل ابن سُمَيع أبا الأشعث من الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام , ولكن هذا مردود بحقيقة واقع أبي الأشعث , فهذه الطبقة الأولى من أقران أبو عثمان الصنعاني , ومنها عامر بن أبى عامر الأشعري , وهو ممن أدرك كبار الصحابة رضي الله عنهم .
قال أبو الحسن بن سُمَيع[20] : في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام : ممن أدرك عمر ، و أبا عبيدة ، و معاذاً ، و بلالاً ، و أدرك الجاهلية عامر بن أبى عامر الأشعري .اهـ
ويؤكد ذلك أن الحافظ أبا حاتم الرازي ذكر ما يقتضي أن ما ذُكر في ترجمة أبي الأشعث , إنما المقصود به والده.
قال ابن أبي حاتم [21] : كليب بن آدة , من أهل اليمن , نزل دمشق , من الأبناء , توفى في زمن معاوية , روى عنه الشاميون سمعت أبي يقول ذلك.اهـ
وقد ترجم ابن أبي حاتم لأبي الأشعث برقم (1627) في الجرح والتعديل , ولم يذكر أنه توفي زمن معاوية رضي الله عنه , فثبت التغاير بين الترجمتين .
بل وقد تابعه ابن عساكر في تاريخ دمشق[22] فقال : كليب بن أده اليماني الأبناوي , نزل دمشق , له ذكر ولم يقع له إلي رواية , ولا أذكر إلا فيما أنبأنا ... ثم ذكر إسناده إلى ابن أبي حاتم وذكر كلام أبي حاتم الرازي عن كليب هذا.

قال السمعاني في الأنساب[23] : " الأبناوي : يقال في التعريف : فلان من الأبناء، والنسبة إليه أبناوي ، وكل من ولد باليمن من أبناء الفرس وليس بعربي يسمونهم الأبناء، هكذا ذكره أبو حاتم محمد بن حبان البستي .
وقال أبو علي الغساني : الأبناوي منسوب إلى الأبناء , وهم قوم يكونون باليمن , من ولد الفرس الذين وجههم كسرى مع سيف بن ذي يزن إلى ملك الحبشة باليمن , فغلبوا الحبشة وأقاموا باليمن فولدهم يقال لهم الأبناء ".اهـ
فقولهم في ترجمة أبي الأشعث ووالده كليب , أنهما من الأبناء , يدل على أنهما من صنعاء اليمن على الصحيح وإنما نزل أبو الأشعث دمشق بآخره كما ذُكر ذلك عنه , ولعله نزل بعد أبيه .

فكأن المقصود بأن الذي شهد فتح دمشق , هو شراحيل بن مرثد أبو عثمان الصنعاني , والمقصود بأنه توفي في زمن معاوية رضي الله عنه , هو والده كليب بن آدة وليس أبو الأشعث الصنعاني والله أعلم .

ويؤكد ذلك أن أبا الأشعث الصنعاني كان بصنعاء اليمن - على الصحيح - حين جاء خبر قتل عثمان رضي الله عنه كما أخرجه ابن شبة[24] فقال : حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني أن رجلاً من قريش كان على صنعاء كان يقال له ثمامة لما جاء قتل عثمان رضي الله عنه بكى وأطال بكاه ثم قال: اليوم نزعت خلافة النبوة من أمة محمد وصار ملكا وجبرية من غلب على شيء أكله .
وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا أبو قحذم[25] عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني قال : كنت شاهداً ثمامة حين جاء قتل عثمان- رضي الله عنه - .انتهى

وقد أُختلف في ولاية ثمامة بن عدي رضي الله عنه , أهي على صنعاء دمشق أم صنعاء اليمن , فذهب إلى الأول ابن حبان[26] وابن مندة وأبو نعيم[27] , وجزم بالثاني وأنها صنعاء اليمن خليفة بن خياط وصوبه ابن عساكر في تاريخ دمشق , ومال إليه البخاري في التاريخ الكبير[28] وأبو حاتم الرازي كما في الجرح والتعديل[29] وابن السكن كما في الإصابة عند الحافظ ابن حجر وابن عبد البر في الاستيعاب عند ترجمة ثمامة بن عدي رضي الله عنه وأنه كان والياً على صنعاء اليمن , ويدل على ذلك إطلاقهم الاسم دون تقييد فقالوا : وكان على صنعاء.
قال خليفة بن خياط في تاريخه [30]:
أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة : تسمية عمال عثمان بن عفان رضي الله عنه : اليمن : يعلى بن أميّة من بَلعدَوية , وأمه مُنْية , وكان على صنعاء حتى قتل عثمان , رجل يقال له ثمامة .اهـ
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناده ما تقدم عن خليفة بن خياط ثم قال : وهذا القول من خليفة يدل على أنها صنعاء اليمن وذلك هو الصواب.اهـ

وقد جاء وصف صنعاء دمشق بأنها قرية صغيره على باب دمشق , فيبعد أن يكون عليها والاً مستقل عن دمشق والله أعلم .
قال الحافظ المزي [31]: " صنعاء الشام وكانت قرية بالقرب من دمشق وهي الآن أرض فيها بساتين غربي دمشق بينها وبين الربوة ".اهـ
قال ياقوت الحموي [32]: " وصنعاء أيضا قرية على باب دمشق دون المزة مقابل مسجد خاتون , خربت وهي اليوم مزرعة وبساتين , قال أبو الفضل : صنعاء قرية على باب دمشق خربت الآن وقد نسب إليها جماعة من المحدثين ".اهـ
قال عبد القادر بدران [33]: " وقد كانت هذه المدرسة والمسجد بها على الشرف القبلي عند مكان يسمى صنعاء الشام المطل على وادي الشقراء وهو مشهور بدمشق ".اهـ

ومما يؤكد ما تقدم من قرائن تدل على تأخر وفاة أبي الأشعث وإدراك ابن جابر له , أن الإمام مسلم في صحيحه أخرج ما يدل على أن أبا الأشعث الصنعاني عاش فترة من الزمن بعد خلافة معاوية رضي الله عنه فقال الإمام مسلم في الصحيح (4145) : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِىّ ُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ كُنْتُ بِالشَّامِ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ قَالَ : قَالُوا أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ . فَجَلَسَ فَقُلْتُ لَهُ : حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه - قَالَ: نَعَمْ غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ - رضي الله عنه -...الحديث.

ففي هذا الحديث دليل صحيح وتنصيص صريح , يظهر خطأ من قال أن أبا الأشعث الصنعاني توفى في خلافة معاوية رضي الله عنه , فقوله (( وعلى الناس معاوية )) يدل على أن أبا الأشعث كان يخبر بهذا الخبر بعد خلافة معاوية رضي الله عنه , بل وفي لقاء أبي قلابة ومسلم بن يسار لأبي الأشعث في دمشق دليل على تأخر وفاته , وقد ذكر أبو زرعة الدمشقي أن دخول أبي قلابة ومسلم بن يسار دمشق كان في خلافة عبد الملك بن مروان ( 73 - 86 هـ ) .

يقول أبو زرعة الدمشقي [34]: والطبقة التي قدمت في الزمان الأول ، في إمرة عبد الملك بن مروان إلى ما دون ، منهم : القاسم بن مخيمرة ، ومسلم بن يسار ، وأبو قلابة ، وعقبة بن وساج ، وعبدة بن أبي لبابة وخالد بن دريك ، والحسن بن الحر؛ بآخره .اهـ

وأخرج ابن أبي شيبة [35]: حدثنا ابن علية عن أيوب قال : لما توُفِّي عبد الرحمن بن أُذينة ذُكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشام , فوافق ذلك عزل صاحبها , فهرب حتى أتى اليمامة فلقيته بعد ذلك . فقال : ما وجدت مثل القاضي إلا كمثل رجل سابح في بحر , وكم عسى أن يسبح حتى يغرق .

قال البخاري في ترجمة ابن أُذينة : قال علي - يعني ابن المديني - : عبد الرحمن قاضى البصرة زمن شريح ولما مات عبد الرحمن طُلب أبو قلابة للقضاء فهرب إلى الشام .

وقال يحيى بن معين [36]: أرادوا أبا قلابة على القضاء وهو ابن خمسين سنة فأبى وخرج إلى الشام .

قلت : وقد اختلفوا في وفاة عبد الرحمن بن أُذينة على قولين :
القول الأول : ذكر خليفة بن خياط[37] أنه توفي بعد الثمانين وقبل التسعين من الهجرة , وجزم ابن حبان[38] أن عبد الرحمن بن أُذينة توفي في خلافة عبد الملك في أول ولاية الحجاج على العراق .

القول الثاني [39]: ذكر ابن شبة أن موت ابن أذينة كان في سنة خمس وتسعين أو قبيلها قليلاً , وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : استقضى الحجاج بعد الفتنة فى سنة ثلاث و ثمانين عبد الرحمن بن أذينة بن سلمة ، من عبد القيس ، فلم يزل قاضياً حتى مات الحجاج (95هـ).
وأما القول الثاني فهو مخالف لما نقلته سابقاً عن أبي زرعة الدمشقي والذي فيه أن دخول أبي قلابة للشام كان في إمرة عبد الملك (73-86هـ) , ولكن قد يصح هذا القول في وفاة ابن أُذينة , إذا ثبت أن أبا قلابة طُلب للقضاء أكثر من مرة , كما ذكر ذلك أيوب السختياني قائلاً [40]: وجدت أعلم الناس بالقضاء أشد الناس منه فراراً وأشدهم منه فرقاً ، ثم قال: وما أدركت أحداً كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة لا أدري ما محمد بن سيرين. فكان يراد على القضاء فيفر إلى الشام مرة ويفر إلى اليمامة مرة ، وكان إذا قدم البصرة كان كالمستخفي حتى يخرج .

ولكن الأقرب والأصوب القول الأول لما أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق[41] وفيه أن دخول أبي قلابة دمشق كان في خلافة عبد الملك , وإمرة الحجاج على العراق (74-95هـ) .

قال ابن عساكر بإسناده : عن موسى بن عامر المري وهشام بن عمار قالا : نا الوليد , نا ابن جابر وغيره قال : قيل لعبد الملك بن مروان , هذا أبو قلابة قد قدم على أمير المؤمنين .
قال : وما أقدمه . قال : متعوذاً من الحجاج أراده على القضاء , فقال عبد الملك وكتب له إلى الحجاج بالوصاة .
وبالإسناد نفسه قال ابن عساكر: عن موسى بن عامر , نا الوليد , نا ابن جابر وسعيد بن عبد العزيز أنهم اخبروا أبا قلابة بقول عبد الملك فيه , فقال أبو قلابة : قد كنت أحب أن آتي الشام وقد دخلتها ولن أخرج منها .

قلت : وفي هذا الخبر إثبات إدراك ابن جابر لأبي قلابة لما دخل الشام , وقد ثبت من حديث مسلم لقاء أبي الأشعث بأبي قلابة قتنبه .
قال ابن حبان في الثقات (9098) : مات عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سنة ثلاث وخمسين ومائة وهو ابن بضع وثمانين سنة .اهـ
وذكر الفسوي[42] عن دُحّيم والوليد بن مسلم , وأبي زرعة الدمشقي عن أبي مسهر أن ابن جابر توفي عام أربعة وخمسين ومائه للهجرة , وكان مسناً .

وعلى هذا يكون ابن جابر من مواليد عام بضع وستين للهجرة , وبهذا يتأكد لنا أن أبا الأشعث الصنعاني بقي إلى ما بعد الثمانين للهجرة , فتكون المعاصرة ظاهرة واحتمال اللقاء قوي جداً .

بل وقد أخرج الطبراني روايات لابن جابر بأسانيد صحيحة , يصرح فيها بالسماع من أبي الأشعث الصنعاني :
الأولى : في مسند الشاميين (540) : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرق الحمصي ، ثنا عمرو بن عثمان ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، أنه سمع أبا الأشعث الصنعاني ، أنه سمع أوس بن أوس ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اغتسل يوم الجمعة وغسل وغدا وابتكر ومشى ، ثم لم يركب ثم دنا من الإمام وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة " .

الثانية : في المعجم الكبير (584) : حدثنا أبو خليفة ثنا علي بن المديني ثنا الوليد بن مسلم عن ابن جابر قال سمعت أبا الأشعث الصنعاني يقول سمعت أوس بن أوس الثقفي يخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من غسل واغتسل يوم الجمعة ثم غدا وابتكر ومشى ولم يركب ولم يلغ كتب له به عمل سنة " . قال ابن جابر : فحدثت بهذا الحديث يحيى بن الحارث الذماري فقال : أنا سمعت أبا الأشعث يحدث به عن أوس بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " له بكل قدم عمل سنة صيامها وقيامها " . قال ابن جابر : فحفظ يحيى ونسيت . قال الوليد : فذكرت ذلك لأبي عمرو الأوزاعي فقال : ثبت الحديث أن له بكل قدم عمل سنة .

الثالثة : في مسند الشاميين (542) : حدثنا أبو زرعة الدمشقي ، ثنا الوليد بن عتبة ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، قال : سمعت أبا الأشعث الصنعاني ، يقول : سمعت أبا هريرة ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم إماما مقسطا فيصلي الصلوات الخمس ويجمع الجمع ويزيد في الحلال " .[43]

بهذا يثبت الاتصال وينتفي الانقطاع عن رواية ابن جابر عن الأشعث الصنعاني والله أعلم وهو الموفق للصواب .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين

وكتبه / أبو طارق علي بن عمر النهدي
وفرغ منه ليلة التاسع من شهر الله المحرم لعام تسعة وعشرين واربعمائه وألف للهجرة .

-------------------------------------------------
[1] في تحقيقه لكتاب التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص194.
[2] طبقات ابن سعد (5/536) ط دار صادر .
[3] تاريخ دمشق (22/438) ط دار الفكر .
[4] تاريخ ابن معين رواية الدوري (5328) .
[5] التاريخ الكبير (2717) .
[6] الجرح والتعديل (1627) .
[7] الثقات (3373) .
[8] برقم (866) .
[9] رجال مسلم (673) .
[10] تاريخ دمشق (22/442) .
[11] تهذيب الكمال (2712) .
[12] الكاشف (2254) .
[13] تاريخ الإسلام (6/81) .
[14] الوافي بالوفيات (16/126) ط الألمانية .
[15] السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/127) بتحقيق الأكوع .
[16] ما بين الحاصرتين زيادة من رواية للبخاري بنفس طريق أبي زرعة الدمشقي وهي عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/115) .
[17] تاريخ دمشق لابن عساكر (2/115) .
[18] أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (9716) : حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فاستصغرني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني . قال نافع : فحدثت به عمر بن عبد العزيز . فقال : هذا حد بين الصغير والكبير فكتب إلى عماله أن يفرضوا لابن خمس عشرة في المقاتلة ولابن أربع عشرة في الذرية .
[19] تاريخ دمشق (22/441) .
[20] تاريخ دمشق (25/435) .
[21] الجرح والتعديل برقم (945) .
[22] تاريخ دمشق (50/226) .
[23] الأنساب (1/76) .
[24] أخبار المدينة النبوية (2/283) .
[25] أبو قحذم هو النضر بن معبد , قال الذهبي في المغني : قال أبو حاتم يكتب حديثه وقال النسائي: ليس بثقة. انتهى
وذكره ابن حبان في الثقات وذكره في المجروحين (1106) فقال : كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات , على قلة روايته ، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد ، فأما عند الوفاق فإن اعتبر به معتبر فلا ضير .انتهى
قلت : تابعه أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث كما تقدم عن ابن شبة من طريق عفان عن وهيب وكذلك البخاري في تاريخه الكبير عند ترجمة ثمامة بن عدي رضي الله عنه (2113) فقال : قال لنا موسى حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث أن ثمامة القرشي كان على صنعاء وله صحبة فلما جاءه قتل عثمان بكى فأطال فقال اليوم نزعت الخلافة من أمة محمد وصارت ملكا وجبرية من غلب على شئ أكله.
[26] الثقات (163) .
[27] انظر تاريخ دمشق (11/158) .
[28] برقم (2113) .
[29] برقم (1888) .
[30] تاريخ خليفة بن خياط ( ص 107 ) ط الكتب العلمية .
[31] تهذيب الكمال (2712) .
[32] معجم البلدان (3/429) ط دار الفكر .
[33] منادمة الأطلال ومسامرة الخيال (1/167) .
[34] تاريخ أبي زرعة الدمشقي برقم (1314) .
[35] المصنف برقم (23440) ط دار القبلة .
[36] تاريخ دمشق (28/311) .
[37] تاريخ خليفة بن خياط ( ص 192 ) ط الكتب العلمية .
[38] الثقات (3970) .
[39] كما في تهذيب الكمال (16/511) ط بشار عواد , وانظر تهذيب التهذيب (280) .
[40] المعرفة والتاريخ (2/39) ط الكتب العلمية .
[41] تاريخ دمشق (28/286) .
[42] المعرفة والتاريخ (1/20) .
[43] فإن قيل أن الوليد بن مسلم قد عنعن في هذه الروايات وهو مدلس ؟
قلت : قد توبع الوليد في كلتا الروايتين :
- ففي الأولى تابعه عبد الله بن المبارك عند الإمام أحمد في المسند (26/95) ط الرسالة حديث رقم (16175) بمتابعة تامة تنبيه : وقع تحريف من النساخ في هذا الإسناد في بعض النسخ فزادوا اسم عبد الرحمن الدمشقي والمقصود به ابن جابر , وحُرّف اسم عبد الله بن المبارك إلى علي بن المبارك .
- وأما الرواية الثانية فقد توبع الوليد بن مسلم فيها متابعة تامة من صدقة بن خالد عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/502) .