الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد :
مقدمة جلية لا بد منها ولا غنىً عنها ، فهي كمثابة القواعد للبناء والروح للجسد ...
فإن ثمة أمر ضروري يجب أن يَعيَه كل مسلم وهو أن الواقع ليس الحاكم على الشرع ولا على حياة المسلم العلمية منها والعملية ، بل على عكس ذلك تماماً فإن الشرع هو وحده لا غير الحاكم على واقع المسلم وعلى كامل جزئيات حياته .
فمن هذا المنطلق وهذا الفهم ينبغي أن تُبنى حياة المسلم بشتى مجالاتها ، إذ هذا هو سبيل تحقيق العبودية التي من أجلها خُلقنا ، كما قال ربنا عز وجل :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.55 الذاريات .

وبيْن الخلقِ والأمر تلازم .. وهذا كما هو مقرر في الشريعة لما دلت عليه النصوص الصريحة كما في قوله سبحانه :
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}54الأعراف
كذلك هو مركوز في الفطر السليمة ، و هو كذلك في القوانين العرفية وحتى الصناعية منها ..
فالصانع إذا ما أبدع شيئاً مبتكراً فإن له كامل الحق بالتصرف فيه كما يحلو له وعلى الوجه الذي يليق بمصنوعه ، فهو الذي يعلم حاجات مصنوعه .
والصانع هو وحده لا غير يستطيع تدوين وجهة الإستعمال وفيم تُستعمل وكيف تُستعمل ..
إذ من العبث أن يوجد مصنوع مهما عظم شأنه وكبر لا يُعلم شيءٌ عن وجهة استعماله .. فعندها إما أن تنعدم المنافع المرجوة وإما أن تتضائل إلى حدٍ يُغضب الصانع ولا يرضيه .
والصانع وحده الذي يعلم الطاقة الإنتاجية لمصنوعه فلا يحمّله ما لا يطيق ..
وكلما كان هذا الصانع مبدعاً ومتقناً كلما وسِع علمه لما فيه المصلحية العظمى لصنيعته .
لذلك فعلى قدر حُب الصانع لصنيعته على قدر ما تجد التدوين التام على مصنوعه بحيث يحيط بكل ما ينفعها والسبل الموصلة إلى تحقيق أكبر كمٍّ لذلك ، ويذكر بالتفصيل جميع ما يضرّ بصنيعته والسُبل الموصلة إلى دفع ما أمكن من ضرٍ مترتب على صنيعته ..
ولا يقتصر المتقن على ذلك بل يذكر الوقايات بأكملها وبكل طرائقها لحصول سلامة المصنوع ، ويذكر العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة بسلامة المصنوع .
والصانع المتقن هو الذي لا يغنيك عنه فأنت دائم الحاجة إليه فكلما وجدت عطباً في صنيعه رجعت إليه فالتاجر الربحان هو الذي قوى علائقه بالصانع فهو دائم الوصال معه ، أما التاجر الخسران فلا يلجأ للصانع إلا في حالات العطب وفي الرخاء يشتم الصانع ويعترض عليه فلا هو عن الصانع راضٍ ولا الصانع براضٍ عنه ، ولا عن المصنوع راضٍ ، ولا المصنوع راضٍ عنه ، فحياته ملؤها الغضب والتسخط والضنك ، يصبح ويمسي يتمنى أن لم يكن ، فهو أعمى لكن بعينين ..
محروم لكن بعطاء ..
ميت لكن بحياة وروح ..
كل هذا لأنه فَقَدَ ما وَجَدَ الرابح فحُرم وغرِم وأثِم ..
فيا أيها اللبيب هذه القوانين التي ذكرتها لك لا يماري فيها اثنان ولا يتناطح فيها عنزان وهي بالنسبة لمخلوق مع مخلوق دونه !
وقد ضربته لك مثلاَ لما جرت عليه سنّة الكتاب قال تعالى :{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}27 الزمر
وقال سبحانه : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}،42 العنكبوت
أفيليق بكَ أيها المَفتون أن تُقِرّ بهذه النواميس ببشرٍ صَنع آلةّ ، ولا تقر بها مع صانعك !!!
فالصانع هو الله ، والمصنوع هو أنت أيها الإنسان ..
صنعك الله بإتقانٍ يعجز العقل البشري مهما أوتي من فهوم وعلوم أن يحيط بجميع دقائقه وحكمه ، وله الحق الكامل في التصرف فيك فهل من شريك له في صنعك ؟
وهو وحده المنفرد بعلم حاجات مصنوعه ، فإن سألت عن السبب أجابك صانعك بقوله :
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } 14 الملك
- كيفية الإستعمال :
أقول أنه معلوم في قانون الصناعات الضخمة أن الشركات الصانعة عندما تُصَدّر مصنوعاتها من معدات كبيرة تُرسل من قِبَلها رسولاً ليعلّم المُستعمل وجهة الإستعمال الصحيحة بأقرب الطرق لأنه معلم من مصنعه الضخم
فهل من عاقل يستطيع إنكار هذه الحقائق سوى من فقد عقله !؟
فإذا أقررت أن صانعك هو الله..
صنعك ليس عن عبث ..
أوجدك ليس عن سدىً ..
بل أرسل إليك من لدنه رسولاً مُعَلَماً ،ليبين لك وجهة استعمالك على الوجه الذي يليق بك ، ويستقيم مع أصل خِلقتك وصنعك ..
فكما أطعت رسول الشركة في الطريقة الاستعمالية ،
فأطع رسول رب العالمين الذي صنعك وأرسل لك رسوله ليصونك من العطب والهلاك والتلف .
صانع المصنوع يعلم الطاقة الإنتاجية لمصنوعه كما يعلم الطاقة المقتدرة على التحمل وهذا مالا تستطيع أن تنكره عقلاً .
فإن الله لما صنعك لم يشدد عليك بل لم يكلفك ما لا تطيق فأعطاك من التكليف بما يتناسب مع قدرتك الهيكلية والقلبية ..
وهذا ماجاء في قول الملك في محكم كتابه العزيز:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}286 البقرة
وفي مثل قوله سبحانه :
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا } 7 الطلاق
وفي الدعاء القرآني :
{ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} 286 البقرة
أفيليق بصانع بلغ من لطفه وكلاءته بمصنوعه تلك المكانة التي لا يبلغ عظيم كنهها إلا هو أن لا يُطاع هو ورسوله ومبعوثه على الوجه الذي يليق بجليل صنعه !!!
ومما يجب أن تعلمه ما علمته وأقررت به أن الصانع يعلم ما يصلح صنيعته ، وذكر لك كل الطرق الوقائية الإستباقية لسلامة المصنوع ..
فكيف بك وقد فعل الله ما هو أعظم بكثير من هذا مما يعجز اللسان عن ضرب القياس ليقرب الوصف ..
أرسل لك محمداً عليه الصلاة والسلام وآتاه من أوصاف الكمال البشري ما جمع له محاسن البشر كلهم على الإطلاق ..
جعله مشفقاً عليك أكثر من إشفاقك على نفسك ..
تولاك بأعم وأخص من ولايتك لنفسك ..
{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } 7 الأحزاب
أنزل عليه كتاباً أودع فيه ما يصلحك وسدّ فيه كل الذرائع المودية لأذيتك صيانة لك وكلاءة وكرامة..
منة منه وفضلاً سبحانه ، وهو الغني عنك ،
ولكنه يحب منك ما يحبه الصانع من مصنوعه ،
يحب منك أن تعبده ، كما قال :
{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } الزمر7
{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ }2 الزمر
وبرسوله الذي أرسله تحقق العبودية التي بها أمر ،
كما قال ابن تيمية رحمه الله :
"أن تعبد الله بما شرع وليس بالأهواء والبدع "مقدمة الفتاوى
أي أن تحقيق الغاية التي من أجلها صنعك مولاك :
" العبودية " ولا سبيل إلى تحقيقها على الوجه الأكمل إلا بالتبعية المطلقة لرسول الصانع وهو محمد صلى الله عليه وسلم ،والعبودية والتبعية لا يتحققان إلا بالطاعة إذ أن بينهما اشتراك ، فأنت حين تطيع رسول الشركة الذي بُعث ليعلمك ، فكأنما أطعت الصانع صاحب الشركة ،
وكذلك رسول الله في حال طاعتك إياه فكأنما أطعت الله
قال الله :
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } 80 النساء
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول }59 النساء
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه } 64 النساء
وذكر مثل ذلك في نحو من أربعين موضعاً في القرآن ،
فعلى قدر طاعتك لله ورسوله على قدر زلفك من ربك ، وزلفه منك ..
وتلك هي حقيقة التقوى وتلك هي ثمرتها ، قال الله جل جلاله :{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 128 النحل
فبامتثال هذا تعلم سرّ وجودك وسرّ صنعك ،
علمٌ جرَّ عملاً ،آمنوا وعملوا ..
علمك بالعبودية : وهو حقيقة قولك : أشهد أن لا إله إلا الله ..
وعلمك بالتبعية : وهو حقيقة قولك : أشهد أن محمداً رسول الله ..
ومن تحقق بذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة .
فهذا سرٌّ من أسرار قوله سبحانه :
{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } 54 الأعراف .
حقيقته كحقيقة المصنوع مع الصانع ، وتطبيقه السلوكي العملي أن مجرد اعترافك بوجهة الصانع لا يميّزك شيئاً عن سائر الخلق ، لأن الجاحد لفضل الصانع يعرف بقرارة نفسه وجهة الصنع ..
ومع هذه المعرفة لم تتحصل له الزلفى لدى الصانع ،
أما صاحب الزلفى هو الذي امتاز عن أقرانه وتميز عنهم ليس بإقراره الصنع - أي الخلق - فحسب ، إنما تميز بإقراره بالخلق وإفراده بالأمر .
هذا هو مفْرق الطريق بين من آمن وبين من أشرك ،
فالمؤمن مشترك مع المشرك بالاقرار بالخالق ،
ومنفصل عن المشرك بالإقرار بالآمر ،
والإقرار يلزم منه الإلتزام بتلك الأوامر وتحويلها إلى واقع عملي ، وإلا ما فائدة معرفتنا لأوامر المبعوث من الشركة مالم نباشر بتنفيذها ؟!!
وبالتالي لن تكون هناك نتاجات عائدة بالربح علينا من جَعْلنا أوامر الرسول وراء ظهورنا !!
فيا عجباً من قومٍ يرجون الجنان ،
وهم لا يشتغلون عند الرحمن !!!
فطالب الجنة هو العامل على طريقها السائر خلف هاديها :{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 52 الزخرف
ومن كانت هذه حاله فيحتاج ما يحتاجه الراجي لمصنوعته طول البقاء .. أن يبقى دائم الإتصال بالصانع ،
حاله معه حال الكرام لا اللئام ..
فإن اللئام لا يتصلون إلا في حالات العطب وفي الرخاء يشركون .
أما الكرام فهم دُوَّمُ الاتصال في جميع الحالات ،
فإذا اتصلوا به في حالات الرخاء والسلامة ،
كان حقاً على الكريم أن لا يوصد بابه في حالات الشدّة والعطب ،وقد قال رسول الصانع عليه الصلاة والسلام :
" تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة "
فهذي حال الكرام ، أما حال اللئام فقد أخبر الخبير عنها بقوله :{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }65 العنكبوت
وكحال إمام اللئام فرعون :
{ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }92-90
فنسأل الله أن يجعلنا من الذين عبدوه حق عبادته كما شرع وأراد ، وأن يجعلنا ممن تاجر تجارة لن تبور ،
لننعم بمعيته هنا ، ورؤيته هناك وصحبة رسوله الأكرم
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه أخوكم في الله
مصباح الحنون
طرابلس - الشام
الأربعاء 26\ ربيع الآخر\1432