بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله الذي صدف شيطان الجهالة عن قلوب أوليائه، وصرف بصائرهم إلى معرفة حكمه، الصادرة على لسان أنبيائه الهادين، والكفر قد استفحل ومرد شيطان إغوائه وصلواته على خير خلقه محمد الذي قهر بحججه فحول البيان وفرسان بلغائه.
وبعد فهذا "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل " مختصر جليل القدر في نقد التوراة والإنجيل ،ألفه الإمام العلامة الجليل حجة الإسلام؛ أبو المعالي إمام الحرمين ،عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله تعالى (ت478هـ).
فعنوانه البارز دليل على مضمونه وفحواه، بين فيه صاحبه أهم ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل والتحريف، بأسلوب مقنع مليء بالنقض والاستدلال والتعليل، يشفي الغليل وينير السبيل، لمن أراد أن يعرف ما وقع حقا من التبديل في التوراة والإنجيل .
بعد البسملة والحمدلة قدم لنا الإمام الجويني رحمه الله حقيقة ثابتة وخبرا يقينا في صريح القران الكريم، يبين أن نصوص التوراة والإنجيل قد اشتملت على ذكر سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الحقيقة كما يقول رحمه الله هي السبب الذي حمل علماء الإسلام على القول بالتبديل الذي لحق التوراة والإنجيل.
غير أن اليهود والنصارى رفضوا هذه الحقيقة وانتصروا بحجج"كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا".
وحججهم في نفي وقوع التبديل ما نقله الإمام رحمه الله على لسان أكابرهم ووجهائهم،حيث قالوا" «إن القول بوقوع التبديل، مشروط بإمكانه، وإمكانه مشروط بتعلق العلم بحصر نسخ التوراة، والإنجيل المبثوثة في أقطار الأرض مع اتساع خطتها، ومشروط أيضا بانقياد كل فرد من أفراد الفريقين، عالمهم، وزاهدهم، وعابدهم، وبرهم، وفاجرهم، وإجماعهم على رأي واحد ومقالة واحده مع تباين الآراء واختلافها، ومثل هذه الطوائف، مع اشتمالها على العلماء والعقلاء والزهاد والعباد، لا يتفق آراؤهم على تغيير شرائعهم، وإفساد عباداتهم، وإتعاب أبدانهم، وحملهم النفوس بعد علمهم بضلالتهم على مشاق العبادات، والمصايرة إلى أهوالها، التي هي أصعب من حز الرقاب، مع علمهم بأن ذلك لا يجدي عليهم نفعا في الآخرة، ولا ثوابا يرجون به الفوز يوم العرض على عالم الخفيات.
وكيف يتصور صدور هذه القبائح، من قوم نطق كتابكم بأنهم "أئمة" وهادون بأمره ،وصابرون، وموقنون؟ ثم إن التوراة منها نسخ بأيدي اليهود ونسخ بأيدي النصارى، وعداوة هاتين الطائفتين وتباين آرائهم وأغراضهم وعدم انقياد كل عدو منهم إلى رأي عدوه معلوم بالضرورة".
فنقض رحمه الله هذه الحجاج ،بأن قال إن "أكثر العمايات في العلوم إنما جاءت من أخذ الحجج مسلمة من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها".
ومع هذا لم يغفل رحمه الله عن ذكر ما في هذه الحجج من الخلل، وبيان مكان الغفلة فيها مع اعترافه رحمه الله بالتحريف اللفظي والمعنوي في التوراة، قال رحمه الله:"إن التوراة التي بيد اليهود الآن هي التوراة التي كتبها عزرا الوراق، بعد فتنتهم مع بخت نصر، وقتله جموعهم وطوائفهم، إلا ما شذ من إبقائه قوما، لا يعبأ بهم ولا بعددهم، وجعله أموالهم غنيمة لسراياه وعساكره، وإتلافه ما بأيديهم من الكتب، لعدم انقياده لأحكام شريعتهم، وجزمه بفساد أعمالها ونصبه في بيت عبادتهم صنما، وإعلانه بالنداء محذرا من التفوه بذكرها إلى أن انقرض والحال كذلك جيل، حتى كان من نفي وظفر بشيء من أوراقها يقصد المغاير ويتحيل في قراءتها خلسة".
وقال أيضا إن التبديل ممكن مع هذا الوضع ، لعدم تعلق العلم بحصر نسخ التوراة المبثوثة في أقطار الأرض، كما ذكر، ولعدم توقفه أيضا على انقياد كل فرد من أفراد الفريقين، ولعدم كون نسخها في أيدي اليهود والنصارى، لأنها لم تصر إلى أيدي النصارى إلا بعد تبديلها.
فإذا الفاعل لذلك واحد.
وأما ما وقع من التصريح بالكذب في نسخ التوراة التي بيد اليهود والنصارى فهو دليل على القول بوقوع التبديل ، فالنصارى تزعم أن نصوص التوراة شاهدة بإرسال المسيح عليه السلام في الزمن الذي أرسل فيه، وما بأيديهم من نسخ التوراة شاهد لهم بصحة ما زعموه. ويزعمون أن اليهود بدلوا ما بأيديهم من نسخ التوراة عنادا وحذرا من الاعتراف بإرسال المسيح عليه السلام، واليهود يزعمون أن النصارى بدلوا ما بأيديهم من النسخ وأن المسيح عليه السلٰم إنما يأتي في آخر الدور السابع، وما بأيديهم من نسخها موافق لما ادعوه.
فقد أجمع الفريقان على القول بوقوع التبديل، وكل طائفة تجعله صفدا في عنق الأخرى.
وقد ذكر رحمه الله مثالا على التبديل بين العبرانية واليونانية، وذلك باختلاف النسختين في أعمار الآباء الأوائل من آدم عليه السلام إلى نوح ومن نوح عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام.
فهذا اختلاف غريب بين هاتين الطائفتين في أمر ليس من قبيل المظنونات التي تختلف باختلاف مآخذ العلماء الناشئة عن اختلاف مراتب الظنون، فكل طائفة تزعم أن ما بيدها هو المنزل على موسى عليه السلٰم، وهذا عين التبديل والتغيير. هكذا علق الإمام الجويني رحمه الله على هذا الاختلاف.
ثم انتقل بنا رحمه الله إلى الكلام عن أصحاب الأناجيل ذاكرا ما وقع منهم من غلط فاحش و عدم تحفظهم فيما نقلوه، بما لا مطمع للعقلاء في تصحيحه،قال رحمه الله :"وقع الغلط الذي لا حيلة في مدافعته بل كان كل من رام أن يتمحل له خيالا، أحس من نفسه العجز وقصور الباع عن الوصول إلى ما يحاوله".
وفي هذا النص قد صرح الإمام الجويني بالتحريف اللفظي والمعنوي في الأناجيل الأربعة ؛متى ومرقس و لوقا ويوحنا.
قال:" والسبب الذي أوقعهم في الغلط فيما نقلوه هو غفلتهم عما يجب المبادرة إليه أزمانا ،يحصل في مثلها التبديل لما طريقه السمع".
ولبيان هذا الغلط استدل الإمام أمثلة تشفي الغليل كنسب المسيح عليه السلام المذكور في الأصحاح الأول من إنجيل متى والأصحاح الثالث من إنجيل متى ،والأصحاح الثالث من إنجيل لوقا وبيان حادثة القتل والصلب المذكورة في أواخر كل إنجيل من الأناجيل الأربعة وبيان دخول المسيح الأخير لمدينة ...(اورشليم) على جحش بن أتان ،المذكور في أواخر كل إنجيل.
وغير هذه النصوص كثيرة فقد احتوت الأناجيل على نصوص متباينة لا مطمع في تصحيحها أو الجمع بين معانيها .
وفي كتابه هذا أورد الإمام الجويني رحمه الله ثلاث نصوص أساسية تعتبر من أهم الركائز الدينية المعتمدة لذا النصارى ،هي الأخرى قد اعتراها الخطأ والتبديل فتعارضت فيما بينها.
النص الأول: ذكره (مرقس) في إنجيله مصرحا فيه :"بأن المسيح عليه السلام قال لبطرس ليلة أخذ للصلب على ظنهم: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاثا" ثم أخذ يبين ذلك فقال: «وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة،فلما رأت بطرس يستدفئ ،نظرت إليه و قالت له: وأنت كنت مع يسوع الناصري. فأنكر قائلا: لست أريد، ولا أفهم ما تقولين. وخرج خارجا إلى الدهليز، فصاح الديك، فرأته الجارية أيضا،وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم، فأنكر أيضا،
وبعد قليل أيضا قال الحاضرون لبطرس: حقا أنت منهم، لأنك جليلي أيضا، ولغتك تشبه لغتهم، فابتدأ يعلن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولين عنه وصاح الديك ثانية. فتذكر بطرس القول الذي قال له يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات».
ثم نقل رحمه الله رواية تشبهها من كلام لوقا،لكن تحتوي زيادات واختلافات عن رواية مرقس.
ومن كلتا الروايتين ترجح له أن إحدى الروايتين كذب وتقول وافتراء وعلل ذلك بأن مرقس صرح بأن المسيح عليه السلام قال لبطرس:"قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات،ثم بين أنه لم يتكامل له جحده الثٰلاث والديك لم يصح، بل صاح مرتين قبل الثالثة.
وفي كلام لوقا ما يعارض هذه الرواية ،حيث صرح فيها بأن المسيح عليه السلٰم قال لبطرس: تجحدني ثلٰاثا قبل أن يصيح الديك، ثم إنه يبين أنه تكامل له جحد الثلاث والديك لم يصح، والواقعة واحدة، وكذلك زمانها ومكانها ونسبتها.
قال أبو المعالي :" وعلى الجملة فمتى اتحدت نسبة كل خبرين وتباينا قطع بكذب أحدهما"، ثم قال: "فانظر إلى هذه العدالة في نقل هذه الأناجيل، ساخرا ممن يزعم أن أصحابها معصومون من الخطإ أو ناقلوها عن المسيح عليه السلام نقل من سمع ذلك من لفظه حافظا لما سمعه ضابطا لفصوله وألفاظه. وظني أن الزمن طال عليهم حين ألفوها فاستولى عليهم النسيان والغفلة".

أما النص الثاني:فقد صرح به متى في إنجيله وهو «أن المسيح – عليه السلٰم – لما قرب هو وتلاميذه من أورشليم، وجاء إلى بيت فاجي قريبا من جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى هذه القرية التي تقابلكما تجدا فيها أتانا مربوطة وجحشا معها، فحلاهما وإتياني بها. فإن قال لكما أحد شيئا فقولا: إن السيد يريدهما، فإنه يدعكما من وقته. ففعلا كما أمرهما وأقبلا بالأتان المربوطة والعفو، وألقوا ثيابهم عليها وأجلسوه من فوقها.» ولها رواية تخالفها في إنجيل (مرقس) (ولوقا ).
قال الإمام الجويني رحمه الله:" إن أحد هذين النصين أيضا قد لاح كذبه، لأن متى صرح في إنجيله بأن تلميذيه حين أمرهما كان أمره لهما مقيدا بالإتيان بحمارة، وصرح مرقص في إنجيله أن ذينك التلميذين حين أمرهما كان أمره لهما مقديا بالإتيان بجحش، لأن الواقعة واحدة. ثم وصفه إلى قوله: وأتياه بالجحش فركبه. وفي إنجيل يوحنا أيضا: فجاء راكبا حمارا.
قال :"فأعجب من هذه الواقعة المتحدة نسبتها كيف تباينت معانيها واختلفت حكايتها. وأعجب من ذلك غفلتهم عن هذه النصوص وأمثالها وركونهم إلى أن جميعها جار على السداد، حتى لو تفوه أحد منهم بما يوهم خللا في معانيها حكموا بسخافة عقله وأبوا إلا تماديا على الباطل وركونا إلى تقليد دلت البراهين القطعية على عدم مطابقته للصواب".
ومثل ذلك من الاختلاف ما نقله رحمه الله في النص الثالث عن إنجيل متى ومرقس حيث آل أمر المسيح إلى الصلب في زعمهم،أنه صلب معه لصان واحد عن اليمين والآخر عن اليسار وكانا يعيرانه" وأورد ما نقله لوقا مخالفا لهذه الرواية من أن اللصين الذين صلبا معه كان أحدهما مؤمنا به عطوفا عليه والآخر سابا له مستهزئا به.
وهو خلاف ما صرح به كل من متى ومرقس ،فكليهما قالا إن اللصين كانا كافرين به، سابين له كل منهما ساخرا منه،والواقعة واحدة.
وقد صرح رحمه بتكاذب هذه الوقائع وأن قائليها طالت عليهم الأزمان إلى أن يقولوا أشياء ليسوا منها على يقين.
وبعد هذه النصوص الثلاث أورد الإمام رحمه الله قصة قمة في الغرابة ذكرها متى في إنجيله:" أن المسيح حين صلب وأسلم الروح: «إنشق الهيكل من فوق إلى أسفل وصار اثنين، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت والقبور انفتحت، وأجساد صور القديسين الذين انضجعوا قامت وخرجوا من القبور.» هذا لفظه في إنجيله. ولم يذكر ذلك أحد من أصحاب الأناجيل سواه.
لذلك فالإمام الجويني استغرب هذه القصة واستنكر ما ورد فيها معللا أنه لو وقعت على حد ما وصفها لكانت من الخوارق والغرائب التي تتوفر الدواعي على نقلها ويحيط بها علما كل قاص ودان ويلهج بحكايتها والخوض في حديثها من لو يؤهل نفسه لضبط وقائع المسيح عليه السلٰم وتقييد قصصه. فكيف ينبذ مثل هذه الغريبة المبدعة في الغرابة ظهريا من انتصب لتقييد أخباره عليه السلٰم ومحاسن غرائبه؟ ثم إهمال ثلاثة لمثل هذه الغريبة.
فقال رحمه الله كل ذلك دليل على كذب متى أو تخلف أصحابه الثلاثةلأنهم أهملوا ذكر هذه الغريبة نسيانا، فهم جديرون بالتخلف لبعد ذلك عادة وإن ادعوا عدم العلم فأبعد، لأن مثل هذه الخارقة الغريبة لو وقعت لتعلق بها أهل ذلك الإقليم قاصيهم ودانيهم، بل أقول لا بل سائر أهل الأقاليم؛ لأن واقعة الصلب واقعة واحدة، فكيف يدعى فيها تعلق العلم بهذه المنقرات، ثم إنها تدون عن إله العالم وموجد الكائنات، كما يعتقدون فيه، ويهمل ذكر هذه الخوارق المبدعة في الغرابة الدالة على مكانته وجلالته.
وبعد هذا النقض والهدم ختم الإمام رحمه الله كتابه هذا بكثير من الأسئلة مقرونة بأجوبتها على أسلوب الفنقلة المعروف .
وأشار في الأخير إلى أنه أعرض عن الإكثار من عجائب التوراة والإنجيل ، وما ذكره في هذا الكتاب ما هو إلا نزر قليل وشيء يسير تقوم به الحجة على الخصوم ،لأن سيد المرسلين صلوات الله عليه حين رأى عمر ينظر في التوراة غضب منه ، وقال:"لو كان موسى حيا ،لما وسعه إلا إتباعي" قال فلهذا السبب لم أكثر من النظر فيها.
اسألكم الدعاء