صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ الإسلام في إيطالِيَّة (28)

صفحات مَنْسِيَّة من تاريخ البَحَّارة المسلمين المَغارِبة في سواحل جنوب أوروبا

في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري


دور البَحَّارة المَغارِبة في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري:
مَرَّت على الأساطيل البحرية لأهل جَنَوَة، وغيرهم من أمم أوروبا النصرانية في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري فترة من الضعف والوَهَن، أتاحت الفرصة لبعض البَحَّارة المُغامِرين من أهل المغرب في تجديد ما انْدَرَس من غَزْو سواحل جنوب أوروبا، وكانت تلك الجهود الشَّعْبِيَّة تَتِمُّ تحت سَمْع وبَصَر الحُكومات الإسلامية القائمة في المَغْرب، دونما نَكير منها، وفي الوقت نفسه من غير رِعاية حُكومِيَّة لها، تَسْتَثْمِر طاقات أهلها، وتُحْسِن تَوْظيفها.


قال ابن خلدون رحمه الله تعالى[1]: كانت أمة الفِرَنْج وراء البحر الرُّوْمِي[2] في الشمال قد صار لهم تَغَلُّب ودولة بعد انقراض دولة الروم، فمَلَكوا جَزائِرَه[3]: سَرْدانِيَة، ومَيُوْرْقة[4]، وصِقِلِّيَّة، ومَلأت أَساطيلَهم فَضاءَه، وتَخَطَّوا إلى سواحل الشام وبيت المَقْدِس، فمَلَكوها، وعادت لهم سَوْرَة[5] الغَلَب في هذا البحر، بعد أن كانت سَوْرَة المسلمين فيه لا تُقاوَم إلى آخر دولة المُوَحِّدِين، بكثرة أَساطِيله ومَراكبه، فغَلَبَهم الفِرنج، وعادَت السَّوْرَة لهم، وزاحتهم[6] أَساطِيْل المَغْرب أيامًا، ثم فَشَل رِيْح الفِرَنْجَة، واخْتَلَّ مَرْكَز دَوْلَتهم بإفرنسة، وافترقت طوائف في أهل برشلونة، وجَنَوَة، والبَنادِقة[7]، وغيرهم من أمم الفِرَنْجَة النَّصْرانية، وأصبحوا دُولًا مُتَعَدِّدة.


فتَمَّت عَزائِم كثير من المسلمين بسَواحِل إفريقية لغَزْو بلادهم، وشَرَع في ذلك أهلُ بِجايَة[8] منذ ثلاثين سنة، فيجتمع النَّفِير والطائفة من غُزاة البحر، ويَصْطَنِعون الأُسْطول، ويَتَخَيَّرون له أبطال الرجال، ثم يركبونه إلى سواحل الفِرَنْجَة، وجَزائرهم على حين غَفْلة، فيَتَخَطَّفُون منها ما قَدروا عليه، ويُصادِمون ما يَلْقَون من أساطيل الكفرة، فيَظْفَرون بها غَلَبًا، ويعودون بالغَنائِم، والسَّبْي، والأَسْرى، حتى امتلأت سواحل الثُّغُور الغَرْبِيَّة من بِجاية بأَسْراهم، تَضِجُّ طُرُق البلاد بضَجَّة السَّلاسلِ والأَغْلال عندما ينتشرون في حاجاتهم، ويُغالُون في فِدائهم بما يتَعَذَّرُ منه، أو يكاد، فشَقَّ ذلك على أُمَم الفِرَنْجَة، ومَلأ قلوبَهم ذُلًّا وحَسْرة، وعَجَزوا عن الثارة به، وصَرخوا على البُعْد بالشكوى إلى السلطان بإفريقية[9]، فصَمَّ عن سَماعِها، وتَطارَحوا سَهْمَهم، ونُكْلَهم[10] فيما بينهم، وتَداعَوا لنُزول المسلمين، والأخذ بالثأر منهم، وبَلغَ خَبَر استعدادهم إلى السلطان، فسَرَّحَ ابنه الأمير أبا فارس[11]، يَسْتَنْفِر أهلَ النَّواحِى، ويكون رَصْدًا للأسطول هنالك، واجتمعت أَساطِيل جَنَوَة، وبَرْشلونة، ومَنْ وراءهم، ويُجاوِرهم من أُمم النَّصْرانية، وأَقْلَعوا من جَنَوَة، فحَطُّوا بمَرْسَى المَهْدِيَّة منتصف ثنتين وتسعين - أي وسبعمائة - وطَرَقُوها على حِين غَفْلة.


ثم ذكر ابن خلدون رحمه الله تعالى ما دار من وقائع، آلت إلى فرار العدو إلى بلاده خائبًا حَسِيْرًا.


ومع كون ابن خلدون لم يَنُصَّ على نُزول غُزاة البحر المذكورين بشمال غرب إيطاليا، إلا أنه نَصَّ على قَصْد أولئك الغُزاة سَواحلَ الفِرَنْجَة بغَزواتهم، وتَلاصُق المنطقة الساحلية لشمال غرب إيطاليا بسواحل مَمْلَكة الفِرَنْجَة لا يَخْفَى، بل كان الشمال الإيطالي كله - لاسيما الشمال الغَرْبي - تابعًا لمملكة الفِرَنْجَة مُدَّة ليست بالقصيرة، كما أن تلك المنطقة كانت من أكثر المناطق عُرْضَةً للغَزْو الإسلامي، إبَّان الصراع الإسلامي النصراني على حَوْض البحر المتوسط، بالإضافة إلى كون المَغانِم كانت الهدف الأساس لأمثال تلك الغزوات البحرية الخاطفة، مما يجعل أصحابها يَتَقَصَّدون أكثر المواضع من حيث تَوَفُّر الموارد المالية والبَشَرِيَّة، ومن المعلوم أن جمهورية جَنَوَة كانت من أَغْنَى المواضع الساحلية الأوروبية على المتوسط؛ من جَرَّاء أنشطتها البحرية، العَسكرية منها، والتجارية، كما أن ابن خلدون قد نَصَّ على مُشارَكة جَنَوَة في الحِلْف النَّصْراني الأوروبي المُهاجِم للمَهْدِيَّة بتونس، وهذا داخِلٌ فيما سَبَقَت الإشارة إليه من كون جَنَوَة مَثَّلَت لاعِبًا رئيسًا في أغلب الحروب الصليبية على المسلمين، لاسيما عقب نهضتها البحرية التي جعلتها، وجمهورية البُنْدُقية - مُنافِستها الأوروبية الأولى على الصَّدارَة البحرية - في مُقَدِّمة الدول الأوروبية زمنًا طويلًا.

[1] تاريخ ابن خلدون (6/400،399).

[2] يقصد به البحر المتوسط، وكان يُطْلَق عليه عدة أسماء، منها: البحر الرومي؛ لطول سيطرة الرومان عليه، وعلى البلاد الواقعة على سواحله فترة من الزمن.

[3] الجَزائِر: حميع جَزيرة.

[4] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان، وهي جزيرة فيشرقي الأندلس، ويقع بالقرب منها جزيرة يُقال لها: منورقة بالنون، وأخرى صغيرة يُقال لها: يابسة، ويطلق على هذه الجزر الثلاث اسم جزر البليار، وكانت ميورقة قاعدة ملك مجاهد العامري رحمه الله تعالى. انظر: معجم البلدان (5/247،246).

[5] السَّوْرَة: هي حِدَّة الشيء، وارتفاعه، وشِدَّته، وسَطْوَته. انظر: تاج العروس (12/100،99).

[6] لعل الصواب (زاحمتهم)، وإن كان السياق لا يُفيد أيًّا من المَعْنَيين؛ فإنه يتحدث عن استئثار نصارى أوروبا بالغَلَبة في البحر المتوسط في تلك الفترة المذكورة.

[7] هم أهل البندقية، وكانت لها جمهورية بحرية تجارية كبرى في العصور الوسطى، وكان بينها وبين جنوة تنافس كبير في السيطرة البحرية، وما يتبعها من النشاط التجاري البحري.

[8] مدينة على ساحل البحر، تطل على خليج يعرف باسمها، وتحيط بها الجبال من جهة البر، والبحر منها في ثلاث جهات، وقد بناها بعض الصنهاجيين في القرن الخامس الهجري، وكانت قبل ذلك ميناء فقط، وتقع في شرقي الجزائر حاليًا، وكانت بها دار صناعة؛ لإنشاء الأساطيل؛ لأن الخشب في أوديتها وجبالها كثير. انظر: معجم البلدان (1/339)، والروض المعطار للحميري (ص81،80).

[9] هو السلطان أحمد بن محمد بن أبي بكر، الحَفْصِي، الهنتاتي، المتوفى سنة 796 هـ.

[10] أي النكال الذي نزل بهم من جراء تلك الغزوات. انظر: تاج العروس (31/33).

[11] هو أبو فارس، عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن أبي بكر، الحَفْصِي الهنتاتي، المعروف بعزوز الحَفْصِي، من كبار ملوك الحَفْصِيِّين بتونس، وما حولها، وُلِد سنة 761 هـ، وبويع بعد وفاة أبيه سنة 796 هـ ، فحسنت سيرته وكان موفقًا حازمًا، فيه بأس، ورفق، وديانة وجود، وله آثار في تونس، ولم تخل أيامه من فتن، وُفِّق إلى قمعها، وضم إلى بلاده مدينتي تلمسان، وفاس، وغزا مالطة، فانتقضت تلمسان، فخرج لها، فتوفي فجأة بقرب جبل ونشريس من أعمال تلمسان سنة 837 هـ، وكانت ولايته 40 سنة، و 4 أشهر، وأياما. قال المقريزي: وكان خير ملوك زمانه، صيانة، وديانة وجودًا، وإفضالًا، وعزمًا، وحزمًا، وحسن سياسة، وجميل طريقة، وأطال ترجمته جدًا، وختمها بقوله: ومناقبه كثيرة، وفضائله شهيرة، ولقد فُجع الإسلام وأهله بموته، والله يرحمه، ويتجاوز عنه، وكذلك أطال السخاوي الثناء عليه، وأسهب في عد مناقبه. انظر: الضوء اللامع للسخاوي (4/214)، والأعلام للزركلي (4/14).