أحييك شيخنا الحبيب،
واعذرني على التأخر لابتعادي عن مراجعي..
في قول الأخفش الذي أشرتم إليه: " فإن قال: كيف جمعتم الأجزاءَ المزاحَفَ فيها البيت، وأنتم لم تجدوا ذلك مجتمعاً؟ وكيف زاحفتم كلَّ جزءٍ [تفعيلة] وجدتم فيه الزحاف في موضع أو موضعين، وعسى أن يكون ذلك في أول البيت أو آخره أو وسطه خاصة، فأجزتموه أنتم في كل موضع منه؟" دليل قوي على صحة هذا الرأي، فالأخفش رحمه الله تعالى يفترض السؤالَ قبل وقوعه، لما نشأ في نفسه منه شك. ولم تكن محاجّته في جوابه دامغة.
وكان ابن الفرخان (القرن السادس) أكثر وضوحاً في ذلك، فأشار إلى الصنعة والتكلف في مثل هذه الأمثلة أكثر من مرة، ومن ذلك قوله: "ومن المصنوع الذي أنشده الخليل في الخبل, في بعض ما سمَّاه بالسريع من هذا البحر, قوله:
وَبَلَدٍ قَطَعَهُ عامِرٌ = وجَمَلٍ حَسَرَهُ في الطريقْ
وأنشَدَ أيضاً في (الخَبْل) في البسيط، على ما سنصفه لك إن شاء الله تعالى، قوله:
وزَعَموا أنَّهُ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ = فَأخَذوا مالَهُ وَضَرَبوا عُنُقَهْ
وأيضاً في المنسرح:
وَبَلَدٍ مُتَشابِهٍ سَمْتُهُ = قَطَعَهُ رَجُلٌ على جَمَلِهْ
كلُّ هذا يُشَمُّ منه رائحة التكلُّفِ كما ترى".
وقوله: " وأنَّ ما أنشدوه من نحو قول القائل:
وزَعَمُوا أنَّهُ لَقِيَهُمْ رجُلٌ = فأَخَذُوا مالَهُ وضَرَبوا عُنُقَهْ
محمولٌ عندنا على نوعِ صَنعةٍ وكُلْفة.
وما أنشد من قول القائل:
يا عُمَيْرُ ما تُظْهِرُ مِنْ هَواكَ = أو تُجِنُّ يُستَكْثَرُ حينَ يبدو
ووزنه:
فاعلاتُ مستفعِلُ فاعِلاتُ = فاعلاتُ مستفعِلُ فاعِلاتن
فمَردودٌ غير مقبول، إنْ لم يكنْ مُتَكلَّفاً ولا مصنوعاً".
وقوله: "وقد جَوَّزَ الخليلُ الجمْعَ بين (الخبنِ والطيّ) في زحافِ (مستفعلن)، يبقى: (مُتَعِلُن)، يُنقل إلى: (فَعَلَتُن)، جوازاً حسَناً، عمَّمَهُ في سائر أجزاء البيت، وسماه: (الخبْلَ)، حتى إنه استحسَنَ أن يكونَ في رجزٍ واحدٍ بيتانِ، أحدهما على وزن:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن = مستفعلن مستفعلن مستفعلن
والآخر على وزن:
فعَلَتن فعَلَتن فعَلَتن = فعَلَتن فعَلَتن فعَلَتن
وأنشدَ فيه بيتاً مصنوعاً:
وَثِقَلٍ مَنَعَ خَيْرَ طَلَبٍ = وطَلَبٍ مَنَعَ خَيْرَ تُؤَدَهْ
ونحن لا نُجَوِّزُ ذلك الجمعَ هذا النحوَ من// الجواز، حيثُ لم يدلّ عليه دليلٌ، لا من طريقِ القوةِ الإلهيةِ التي نُسمّيها: الذوق، ولا من طريقِ السّمْعِ الوارِدِ عن العربِ على وجه التّواتر.
.........
ومهما أردْتَ القِرانَ بين المُرَكَّبِ من (مستفعلن) ستَّ مراتِ مثلاً، والمٌركّبَ من (فعلتن) بهذه العدّة، في نحو قول القائل:
دارٌ لسَلمى إذْ سُلَيمى جارةٌ = قفْرٌ ترى آياتِها مثلَ الزُّبُرْ
وقول مَن يقول:
وَثِقَلٍ مَنَعَ خَيْرَ طَلَبٍ = وطَلَبٍ مَنَعَ خَيْرَكَ ظَهَرْ
ظهَرَ لك التباينُ فيهما إنْ كنتَ ذا ذوقٍ سليم. فذُقْ، واستعن بالله تعالى".
والأدلة كما ترى شيخنا الكريم ربما لا تروق للبعض، لكنها عقلية، منطقية كم نظن.
رعاك الله، وأجزل لك الفضل.