الرِّئَة هي عُضْو التنفُّس المسؤول عن إدخال الأوكسجين إلى الجسم، والتخلُّص من غاز ثاني أكسيد الكربون، ويتمُّ هذا الأمر من خلال الدَّورة الدَّمويَّة الرِّئوية، التي تسمح بانتقال الغازات منها وإليها، فعندما تتنفَّس الكائنات الفقارية الهواءَ الجوِّي، يدخل هذا الْهواء الْمَجرى التنفُّسيَّ، الذي يتكون من الأنف والبلعوم والْحَنجرة والقصبة الهوائية، ومنها إلى الرِّئة التي تتمتَّع بشبكة وفيرة من الحويصلات الرِّئويَّة alveoli (يوجد بالرِّئة الملايين منها)، وتنتشر داخِلَها شبكات من الشُّعَيْرات الدَّموية؛ بحيث تسمح بتدفُّق الدَّم على سطح هذه الحويصلات، وحدوث التبادل الغازي.

بعد دخول الأوكسجين الحويصلة الرِّئوية يَنْفُذ من جدرانها الرقيقة، ثم ينتشر في المجرى الدموي bloodstream، وبعدها في بقيَّة أجزاء الجسم، والجسمُ يَحتاجه؛ لِحَرق الغذاء، والحصول على الطَّاقة، وبالعكس يَخْرج ثاني أكسيد الكربون من المجرى الدَّموي؛ لِيدخل الحويصلة الهوائية، ثم يتمُّ التخلُّص منه أثناءَ عملية الزفير كإحدى النفايات.

ويقوم الحجابُ الحاجز - وهو حاجز عضَلي يَفْصِل القفص الصَّدري عن المعدة والكبد والأمعاء - في الثَّدْييَّات (ومعه بعض العضلات الموجودة بين الأضلاع) على تنظيم عمليَّة التنفُّس بطريقة دوريَّة، تبعًا لِحَجم منطقة الصدر، وتغيُّرات الضغط فيها، فأثناء الشَّهيق ينقبض ويهبط لأسفل، فيَزْداد حجم الصَّدر، ويقلُّ الضَّغط، ويسهل اندفاع الْهواء للمجاري التنفُّسية، والعكس صحيح أيضًا، عند الزفير يرتفع لأعلى ويَسْترخي، فيصغر حجم الصَّدر، ويزداد الضغط فيخرج ثاني أكسيد الكربون.

وبالجسم البشرى رئة يُمْنى بها ثلاثة فُصوص، ورئة يسرى بها فصَّان فحَسْب، ولِكِلتا الرِّئتين قوام إسفنجي، وهما تُشْبِهان شكل الرَّصاصة، وتَمْلآن غالبية التجويف الصدري، ويقع بينهما القلب والأوعية الدموية الكبرى والمرِّيء، ويُبَطِّن المسالك الهوائية سائلٌ لَزِجٌ يُطْلَق عليه "الْمُخاط" يَحْتجز غالبية الْملوِّثات التي تتعرَّض لها الرِّئة، كالجراثيم والفيروسات والغبار، كما أنَّ بها أهدابًا تُشْبه الشُّعَيْرات الدَّقيقة، التي تظلُّ تتماوج معًا؛ حتى تدفع الْمُخاط لأعلى الحَلْق؛ حيث يتمُّ هناك التخلُّص من المواد الغريبة والدَّخيلة، إمَّا بابتلاعها إن لم يكن ثَمَّة ضرر منها، وإمَّا بالسُّعال؛ لإبعادها عن الجسم.

ولقد دأب العلماء على التعامل مع الرئتين باعتبارهِما - بِخِلاف دَوْرِهِما في المساعدة على الكلام، والوظائف الأخرى غير التنفسُّية التي تقوم الرئتان بها، كتخليص الدَّم من الفقاعات الهوائية، وتصفية التخثُّرات الدموية الصغيرة المتكوِّنة في الأوردة - الوسيلةَ الرئيسيَّة لتبادُل الغازات بين الدَّم وبين الوسط الخارجي، كما اعتادوا على التَّعامل مع الأمراض الكثيرة والشائعة التي تصيب الرِّئة (المعروفة الأسباب، كالسُّل، والرَّبْو، والالتهابات الرِّئوية، أو مجهولة السبب حديثة الانتشار، كالغرناوية، أو مرض الساركويد)، وعلى علاجها بواسطة الأدوية التي يتعاطاها المرضى بالفم أو بالْحَقْن، أو باستنشاق الرَّذاذ عَبْر مضخَّة صغيرة (البخَّاخات).

غير أنَّ أحْدَثَ الدِّراسات العلميَّة أشارت مؤخَّرًا إلى اكْتِشاف العلماء - أثناء دراستهم لأنسجة الرِّئة البشريَّة - وجودَ مستقْبِلات receptors داخل الرِّئة تَسْتجيب للموادِّ ذات الطَّعم الْمُرِّ bitter taste، تشبه براعم التذوُّق المنتشرة على سطح اللِّسان، التي تستجيب لطعم الحلاوة والمرارة، والحموضة والملوحة، و(الأومامي) (الطعم اللَّذيذ والمميَّز للُّحوم والخَضْروات المطْهُوَّة)، غير أنَّها تختلف عنها في أنَّها لا تُرْسِل أيَّ إشارات خاصة للمخ.

لقد وجد العلماء أنَّ تعريض هذه المستقبِلات لِمَوادَّ مُرَّة خارجية (استنشاق مواد مُرَّة وليس تناولها بالطَّبع) - جعل أنسجة الرِّئة تسترخي وتتَّسع بدلاً من أن تنقبض، وهو الأمر الذي حَسَّن عمليَّة التنفُّس عمومًا، وساعد الجسم على استيعاب كَمِّية أكبر من الأوكسجين.

والمواد الْمُرَّة الموجودة في الطبيعة عديدة، أشهرها الكينين ذو الطعم الْمُر، والمستخْرَج من شجرة الكينا، والذي يُزْرَع أغلبُه في (جاوه) حاليًّا، ويتمَّ استخدامه على نطاق واسع في علاج الملاريا، والسكرين saccharin، الذي يستعمله مَرْضى السكَّري، أو الذين يتَّبِعون نظُمَ تغذيةٍ خاصَّة، كبديل للسُّكر العادي، والمحاليل المخفَّفة منه تكون حلوة المذاق، أمَّا إذابة كمِّيات كبيرة منه في الماء، فتكون مُرَّة الطعم.

تبشِّر هذه الدراسة بنتائج طيِّبة لعلاج مرض الرَّبْو على وجه الخصوص؛ وذلك لأنَّه أحد الأمراض التنفُّسية المُزْمِنة الشَّائعة القابلة للعِلاج، والذي يُصاب مَرْضاه عادةً بالْتِهاب في الْمَسالك الْهوائيَّة وتشنُّجِها، وقد يصل الأمر في النهاية إلى انْسِدادها، ويصعب تنفُّس مريض الرَّبو؛ نتيجة قلَّة وجود الهواء بالرِّئة؛ لأنَّ أربطة العضلات الموجودة حول المسالك الهوائية تكون مشدودة - بعكس الشَّخص السليم الذي تكون أربطته مسترخية - لذلك يَمُرُّ الْهواء بصعوبة في القصبة الهوائيَّة، والْمجاري التنفُّسية، ومن ثَمَّ تتعسَّر عملية التنفُّس، وعندما يَمرُّ الْهواء عَبْرَها، يَحْدث عندئذ الصَّفير المميز لتنفُّس مريض الربو.

يُعدُّ استخدامُ المواد ذاتِ الطعم الْمُر كعلاجٍ لمرض الرَّبو بمثابة العودة لِمَا يُطْلَق عليه "الطِّب الطَّبيعي" natural medicine،، الذي يُمكن اعتباره طِبًّا بديلاً للطبِّ التقليدي، أو مُكَمِّلاً له، فعندما عَرَّض العلماء فئران التَّجارب المعمليَّة المصابة بما يشبه الرَّبو الذي يُصاب به البشر لرذاذ الكينين والسكرين، وجدوها أكثر استجابةً وتفاعُلاً مع العلاج عن تلك الْمَرَّات التي تناوَلَتْ فيها بخاخات البوتيرول المستنشق nebulizer؛ لذلك يَأْمُل العلماء في استخدام تلك المواد ذات الْمَذاق المُر، كعلاجٍ طبيعي مستمدٍّ من الطبيعة؛ لِمُكافحة مرض الرَّبو، أو استخدامه كعلاج مُكَمِّل للعلاج الكيميائي المُصَنَّع.

ويُلاقي بالطَّبْعِ "الطِّبُّ البديل" الكثيرَ من الانتقادات اللاَّذعة من الأطبَّاء التقليديِّين، الذين يُفَضِّلون العلاجَ بالعقاقير والأدوية، فالعلاجُ بالموادِّ الطبيعيَّة مَحْدودُ الفاعليَّة، ويستغرق وقتًا طويلاً، ورغم ذلك فقد أثبت الطبُّ البديل نَجاحه في عدد من الْمَجالات، فالكينين على سبيل المثال كان متوفِّرًا بأسعار زهيدة في المناطق الاستوائيَّة، وكان الأطبَّاء يَستخدمونه لعلاج الملاريا، ولكن تبيَّن بعد ذلك أن الكينين فعَّال في الحدِّ من استفحال المرض وانتشاره، ولكنَّه لم يَكُن يعالِجُه، هذا إضافةً إلى خطورته بشكل عامٍّ؛ لذلك لَجأ الأطبَّاء إلى اسْتِخدام العقاقير المُصَنَّعة، الأغلى ثَمنًا من الكينين كالأمودياكين والكلوروكين، وقد أثبتَتْ هذه العقاقير فعاليَّة أشدَّ في علاج الملاريا، غير أنَّه ظهر بعد ذلك نوعٌ من الملاريا في فيتنام مقاوِمٌ للعقاقير المركَّبة الحديثة؛ لذلك اضْطر الأطباء مرَّة أخرى إلى استخدام الكينين.

و"الطِّب الطبيعيُّ" هو أحد أنواع "الطبِّ البديل"، الذي يَستخدم وسائِلَ متعدِّدة لعلاج الأمراض، بخلاف استخدام المواد الموجودة في الطبيعة، كما يحدث في الطبِّ الطبيعي، ومِن هذه الوسائل الوَخْزُ بالإِبَر الصِّينية، الذي نشأ في الصِّين منذ ما يَقْرب من 500 سنة، وفيه يغرز المتخصِّصون في هذا المجال إِبَرًا في نقاط مُحدَّدة في الجسم؛ بِهَدف استعادة التَّوازن وعودة تدفُّق الطاقة، والطب الإيروفيدي الذي ظهر في الْهند منذ 5000 سنة، وهو طبٌّ يصنِّف الناس في ثلاث فئات أساسيَّة، وبمعرفة الإنسان انتماءَه لأيِّ الفئات تتحدَّد احتياجاته؛ ماذا يَأْكل؟ كيف يُمارس أنشطته؟ كيف يَقِي جسمه من السُّموم والماكروبيوتك؟ وهو الغذاء الذي يرتكز على موازنة السَّالب والموجب في الجسم؛ بهدف موازنة الطَّاقة الحيويَّة، حيث يعتمد على الغذاءِ قليلِ الدُّهون كثير الألياف؛ ليتجنَّب المرء الإصابةَ بأمراض القلب والسَّرطان.

نَجحَتِ الدِّراسات التي أُجريت على الفئران المصابة بالرَّبو في إثبات استجابة رئتها بطريقة إيجابيَّة للمواد الطبيعيَّة مُرَّة المذاق، ورغم أنَّ كثيرًا من الدراسات المُطَبَّقة على الفئران تختلف نتائجها عن تلك المطبَّقة على البشر، إلاَّ أن المستَقْبَل لا يزال يَحْمل الكثير من الخير، فبِخِلاف علاج الربو تُشير النتائج الأوَّلية - التي لا تزال في بداية عهدها - إلى إمكانيَّة قيام العلماء بتعديلٍ كيميائيٍّ للمُرَكَّبات مُرَّة المذاق، وابتكار مركَّبات أخرى مشتقَّة منها، ثم نَشْرِها في الهواء الجوي؛ لِتَحسين مناخ التنفُّس بطريقة طبيعيَّة، وتوسيع أنسجة الرِّئة، وتسهيل عملية التنفُّس للبشر ذاتها.
كتبته هالة رؤوف احمد

منقول من الألوكة فرع ثقافة ومعرفة