فوائد منثورة عن حال ابن محرز صاحب السؤالات عن ابن معين وغيره.
قال في القسم الثالث من الباب الثاني من كتاب (المحارب الكفيل بتقويم أسِنَّةِ التنكيل).
( 2- أبو العباس ابن محرز.
قال المؤلف في (التنكيل ) [284/1] وهو بصدد نقده لرواية رواها الخطيب من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن ابن معين: (وترجمة ابن محرز هذا في (تاريخ بغداد) [ج 5 ص83] ليس فيها تعريف بحاله وإنما فيها «يروى عن يحيى بن معين حدث عنه جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي» ) .
قلت: يشير المعلمي إلى جهالة حال هذا الرجل! وقد أشار إلى ذلك أيضًا في تعليق له على (الفوائد المجموعة) فقال: (ابن محرز له ترجمة في تاريخ بغداد لم يذكر فيها من حاله إلا أنه روى عن ابن معين وعنه جعفر ين درستويه) .
أقول: لفظ الخطيب في ترجمة هذا الرجل من (تاريخه) : (أحمد بن محمد بن قاسم بن محرز أبو العباس بغدادي يروي عن يحيى بن معين حدث عنه جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي) .
هكذا عرَّف به الخطيب في (تاريخه) ولم يزد عليه حرفًا.
وما وجدتُ أحدًا زاد على الخطيب في ترجمته بما يفصح عن حاله؟ وهو عمدة من جزم بجهالة حال هذا الرجل من الشيوخ والأقران.
وقد تتابع أئمة الحديث وغيرهم على النقل من سؤالات ابن محرز عن ابن معين.
وقد كنتُ قديمًا: أجزم بكون هذا الرجل هو الذي كان يروي عنه الحافظ زكريا الساجي فيقول: (حدثني أحمد بن محمد البغدادي) .
وكان مما يؤكد ذلك عندي: أنني راجعتُ طرفًا من تلك الأخبار والسؤالات التي ينقلها الساجي من كتاب ابن محرز عن ابن معين وغيره المسمى: (معرفة الرجال) . فإذا هي موجودة في ذاك الكتاب بنحوها ومعناها.
وقد أكثر ابن عدي في (الكامل) والخطيب في (تاريخه) وعنهما المزي والذهبي من نقل تلك الترجمة (الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي) من كتبهم في التجريح والتعديل، والنقد والتعليل.
وأظنني كنتُ قد لوَّحتُ إلى هذا فيما بسطناه من ترجمة (حفص بن سليمان الأسدي المقرئ أبو عمر البزاز) من كتابنا (النُّكْرَان على من استحب التكبير عند ختم القرآن) . وهو مسودة بخطي لا يزال حبيسًا في أدراجي، ثم أخذه مني بعض الأصحاب قبل أعوام لمطالعته؛ ولم يرجع إليَّ بعد.
فقد كنا نقلنا هناك من (كامل أبي أحمد الجرجاني) : (أنا الساجي ثنا أحمد بن محمد البغدادي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كان حفص بن سليمان وأبو بكر بن عياش من أعلم الناس بقراءة عاصم وكان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقا، وكان حفص كذابا) .
وذكرنا أن بعضهم قد أعل هذه الرواية بجهالة شيخ الساجي: (أحمد بن محمد البغدادي) ورددنا عليه ثمة بما لا يحضرني الآن.
لكن حاصل الرد: أن (أحمد بن محمد البغدادي) هو نفسه (أبو العباس ابن محرز) صاحب (معرفة الرجال) في سؤالاته عن ابن معين وغيره.
وكان برهاني على ذلك آنذاك: أن هذا الخبر بعينه الذي نقله ابن عدي عن الساجي مذكور في كتاب ابن محرز بنحوه [1/113-114] ، ولكن عن يحيى بن معين عن أيوب بن المتوكل، ولفظ ابن محرز هناك: (سمعت يحيى يقول: قال لي أيوب بن المتوكل -وكان من القراء البصراء- قال: قراءة أبي عمر البزاز- يعني حفص بن سليمان- أثبت قراءة من أبي بكر بن عياش، وأبو بكر أصدق منه. قال يحيى: وأبو عمر هذا كذاب) .
وزاد من هذا الظن لديَّ: أني رأيتُ الحافظ أبا الفضل ابن حجر قد سبقني إلى تلك النتيجة في (تهذيبه) فكان ربما ينقل عن الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي؟ فيقول: (يعني ابن محرز) .
ففي ترجمة الواقدي الحافظ الكبير من (التهذيب) قال الحافظ: (قال زكريا بن يحيى الساجي: محمد بن عمر الواقدي قاضي بغداد متهم، حدثني أحمد بن محمد (يعني ابن محرز) سمعت أحمد بن حنبل يقول...) وذكر كلامًا.
وفي تلك الترجمة أيضًا: (وقال الساجي ثنا أحمد بن محمد (يعني ابن محرز) ثنا عمرو الناقد...) وذكر كلامًا.
وفي ترجمة الحافظ يحيى بن عبد الحميد الحماني من (التهذيب) قال الحافظ: (قال الساجي عن أحمد بن محمد (هو ابن محرز) عن القعنبي رأيت شابا طويلا...) وذكر كلامًا.
وفي ترجمة الحافظ يونس بن بكير الشيباني من (التهذيب) قال الحافظ: (قال الساجي وحدثني أحمد بن محمد (يعني ابن محرز) قال قلت ليحيى الحماني...) وذكر كلامًا.
قلت: وعمرو الناقد ويحيى الحماني والقعنبي كلهم من طبقة مشيخة ابن محرز؛ وقد حدَّث عن بعضهم في كتابه (معرفة الرجال) .
فتحصَّل من هذا: أن (أحمد بن محمد البغدادي) الذي يروي عنه الساجي هو نفسه أبو العباس بن محرز صاحب السؤالات عن ابن معين وغيره.
وإذا كان ذلك كذلك: فهذا لا ريب أنه يقوي من شأن ابن محرز؛ لأن رواية مثل الحافظ الساجي عنه ترفع من أمره، وتشد من عضده.
بل كان الحافظ الساجي كثيرًا ما يعتمد ما ينقله هذا الرجل عن كبار النقاد من تجريح الرواة وتعديلهم.
ولو لم يكن هذا الرجل مرضيًا عنده؛ ما كان ليميل إلى ما يحكيه كل الميل، فضلا عن أن يجزم بما يُفْهَم منه صحةُ حكايتِه ونقْلِه.
وقد وقفتُ على أكثر من رامُوزٍ وأُنْمُوذج من كلام الساجي في هذا الصدد.
فمن ذلك: أنه قال في كتابه (الضعفاء) : (كان مالك بن أنس يطلق لسانه في الثقات، من ذلك ما حدثني أحمد بن محمد البغدادي، قال: نا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: نا محمد بن فليح، قال: قال لي مالك بن أنس: هشام ابن عروة كذاب. قال أحمد: فسألت يحيى بن معين، فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة، وهو من الرواة عنه) . نقله عن الساجي الحافظُ محمدُ بن إسماعيل الأزدي الأندلسي في كتابه في (شيوخ مالك) [ص/373/طبعة أضواء السلف].
فلعله يثبت بهذا: كون ابن محرز كان صالح الحال عند الحافظ الساجي، وهذا قرينة أخرى تُزَاد إلى أخواتها في تقوية حال الرجل إن شاء الله.
فذاك كان قولنا منذ زمن طالتْ علينا أوقاتُه! من اعتقاد كون شيخ الساجي: ( أحمد بن محمد البغدادي ) هو نفسه أبا القاسم ابن محرز راوي السؤالات عن ابن معين وغيره.
ثم بان لنا ضعفُ هذا القول أخيرًا، وأنه مُخَدَّجُ الأطراف، واهي الأكناف! لا يقوم برهانه على مثل شمس النهار، ولا تكاد أنوار دلائله تخطف الأبصار!
تابع البقية: ....