سؤال: هل فعل التخليق اختياري تابع للمشيئة؟
ولكنك ترفض القول بأن هناك مخلوق هو أول المخلوقات !
ما دليلك على ذلك شرعا؟
وأفهم أنك تقول بأن ذلك ممتنع عقلا لهذا السبب الذي ذكرته انت في ردودك السابقة:
نحن لا نقول بأن الله عز وجل كان معطلا عن التخليق، ولكننا نقول بأنه يفعل ما يشاء متى شاء ولا يجب عليه ان يخلق منذ الأزل حتى يكون خالقا ولكنه يخلق متى شاء ولا يتعطل عن التخليق والقدرة على ذلك منذ الأزل ولكنه يخلق متى شاء
وأنت لا تدري أنه شاء أن يخلق منذ الأزل في كل لحظة، ولهذا نقول بجواز ذلك لكن لا نقول بوجوبه لأن الله يخلق بمشيئه، ونحن لا علم لنا بمشيئة الله عز وجل (إذا شاء ان يخلق منذ الأزل ام لا)
لكنه بدون شك شاء ان يخلق المخلوقات فهو خلق العرش والقلم والعالم والجنة والنار ..الخ
وهذه كلها تكفي لإثبات أن الله عز وجل خالق وأنه قادر على الخلق متى شاء، ولا يلزم أن يخلق منذ الأزل حتى لا تتعطل صفة الخالقية فهي مرتبطة بمشيئته ... يعني هذا لا يمتنع في عقلي
فما دليلك على قولك من الشرع؟
الدليل على ذلك شرعا؟لكن ليس هناك مخلوق معين هو أول المخلوقات بإطلاق - بحيث لا يكون قبله مخلوق أصلا . فإن هذا القول يستلزم تعطيل الله تعالى عن الخالقيه قبل ذلك الزمن الذي خلق فيه ذلك المخلوق . وهو ممتنع عقلا وشرعا كما سبق .
أن هذا الإعتقاد (أن هناك مخلوق هو أول المخلوقات وأنه لا يسبقه إلا الله عز وجل فلا يسبقه مخلوق قبله) يستلزم تعطيل الله عز وجل عن الخالقية قبل ذلك الزمن؟
فكلامك هذا يستلزم وجوب ذلك على الله في فهمي
الوجوب ينافي المشيئة
لغتي العربية فيها ضعففإن الذي لم يخلق شيئا من الخلق منذ الأزل لا يوصف بالخلاق - فيتعالى الله سبحانه عن وصف الظالمين الذين لا يقدرونه حق قدره علوّا كبيرا .
ولكنني أفهم أن معنى "الخلاق": الذي يكثر من فعل الخلق صح؟
ام أن فهمي لها خطأ؟
يعني أفهم من كلامك هذا أنه منذ الأزل كان مع الله مخلوقات؟فمثلا : قبل أن يخلق الله العرش والماء هناء مخلوق ما هو العماء أو السحاب ، فليس الله إذ ذاك وحيدا لا مخلوق له ، بل هناك خالق ومخلوق وهما الله والعماء ( أو هما : الله والعماء مع الهواء ). وبعد أن يخلق الله الماء والعرش ، يوجد هناك أيضا خالق ومخلوق ، وهما : الله والعرش مع الماء . ثم بعده صار أن يوجد من الموجودات : الله الخالق ، والعرش مع الماء مع اللوح مع القلم المخلوقات . وهكذا ، فما من وقت من الأوقات إلا ويكون هناك مخلوق ما لله تعالى قليل أو كثير ، وكل من هذه المخلوقات مدبر مربوب ، فكل يوم هو في شأن - جل جلاله .
لم تكن هناك اي لحظة كان فيها الله وحده وليس معه شيء؟
إذا كان كذلك فما هو دليلك شرعا؟
ومن من السلف أو علماء أهل السنة قالوا بكلامك هذا؟ (عدم وجود مخلوق هو أول المخلوقات لا يسبقه إلا الله عز وجل ... الخ)
جزاكم الله خيرًا أيها الفضلاء...
هناك عمدة في هذا الموضوع... وهو كلام لشيخ الإسلام، وهو أيضًا متناسب مع السؤال الأخير الذي قد سألته... وأيضًا مع ما قد خَطَّه الشيخ / العقيدة - جزاه الله خيرًا.
رجاء من الأخوة الفضلاء أن يقرأ كل واحد كلام شيخ الإسلام بشكل جيد، لأن هناك مسائل سوف تُطْرح، فيجب تصور هذا الكلام بشكل جيد.
بارك الله فيكم.
لأن ما سيأتي بعده، هو العمق لهذه المسائل بعد تصورها. والله المستعان.
كذلك متابعة أقوال الشيوخ الفضلاء... في المشاركات السابقة.
الشيخ /عليّ، المقدادي، العقيدة، الخلال، نضال.
والحمد لله الذي جمعنا على العقيدة السلفية وجعلنا أخوة في دينه، فنسأل الله أن يبارك لنا في أوقاتنا التي نتدارس فيها عقيدتنا، وأن يهدينا إلى الحق.
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلامأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقيالحديث – كتاب الحديثرسالة في شرح حديث عمران بن حصين – رضي الله عنه
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرُه ُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
فَصْلٌ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
{ يَا بَنِي تَمِيمٍ اقْبَلُوا الْبُشْرَى
قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتنَا فَأَعْطِنَا
فَأَقْبَلَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْيَمَنِ اقْبَلُوا الْبُشْرَى؛ إذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ
فَقَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالُوا: جِئْنَاك لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ
فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَفِي لَفْظٍ مَعَهُ وَفِي لَفْظٍ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }
وَفِي لَفْظٍ: { ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } ثُمَّ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَدْرِكْ نَاقَتَك فَذَهَبْت فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا فَوَاَللَّهِ لَوَدِدْت إنِّي تَرَكْتهَا وَلَمْ أَقُمْ.
قَوْلُهُ: { كَتَبَ فِي الذِّكْرِ } يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ كَمَا قَالَ: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } أَيْ: مِنْ بَعْد اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِي الذِّكْرِ ذِكْرًا كَمَا يُسَمَّى مَا يُكْتَبُ فِيهِ كِتَابًا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ إخْبَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مَوْجُودًا وَحْدَهُ ثُمَّ إنَّهُ ابْتَدَأَ إحْدَاثَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا ابْتِدَاءٌ بِجِنْسِهَا وَأَعْيَانِهَا مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ وَإِنَّ جِنْسَ الزَّمَانِ حَادِثٌ لَا فِي زَمَانٍ وَجِنْسِ الْحَرَكَاتِ والمتحركات حَادِثٌ وَإِنَّ اللَّهَ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْأَزَلِ إلَى حِينِ ابْتَدَأَ الْفِعْلَ؛ وَلَا كَانَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَكَذَلِكَ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ بَلْ وَلَا كَانَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَامُ أَمْرٌ يُوصَفُ بِهِ بِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ الْمَقْرُوءِ عَبَّرَ عَنْهُ بِكُلِّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَكُلُّ أَلْفَاظِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ: إنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ هَذَا؛ بَلْ إنَّ الْحَدِيثَ يُنَاقِضُ هَذَا وَلَكِنَّ مُرَادَهُ إخْبَارُهُ عَنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَالَ تَعَالَى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: { قَدَّرَاللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَقْدِيرَ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَخْلُوقِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ حِينَئِذٍ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ؛ عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ هَذَا: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَغَيْرُهُمَا عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
{ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ. قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
فَهَذَا الْقَلَمُ خَلَقَهُ لِمَا أَمَرَهُ بِالتَّقْدِيرِ الْمَكْتُوبِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَخَلَقَهُ بَعْدَ الْعَرْشِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: بَيَانُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا
أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْيَمَنِ: { جِئْنَاك لِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ }
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هَذَا الْعَالَمُ أَوْ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَابَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَوَّلِ خَلْقِهِ هَذَا الْعَالَمِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الْخَلْقِ مُطْلَقًا؛ بَلْ قَالَ: { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }
فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ الْعَرْشِ مَعَ أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَقُولُ: " وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ: الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ قَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلْقِ الْعَرْشِ.
وَأَمَّا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ فَلَمْ يُخْبِرْ بِخَلْقِهِ؛ بَلْ أَخْبَرَ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَوَّلِ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ لَا بِأَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا.
وَإِذَا كَانَ إنَّمَا أَجَابَهُمْ بِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ هَذَا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَابَهُمْ عَمَّا لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ وَلَمْ يُجِبْهُمْ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ بَلْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْخَلْقِ وَإِخْبَارِهِ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يَقْصِدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَرْتِيبِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْ مُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ مَبْدَأِ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا نَطَقَ فِي أَوَّلِهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }.
وَبَعْضُهُمْ يَشْرَحُهَا فِي الْبَدْءِ أَوْ فِي الِابْتِدَاءِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِيهَا الْإِخْبَارَ بِابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ غَامِرًا لِلْأَرْضِ وَكَانَتْ الرِّيحُ تَهُبُّ عَلَى الْمَاءِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هَذَا مَاءً وَهَوَاءً وَتُرَابًا وَأَخْبَرَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ وَهُوَ الدُّخَانُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَهُمْ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا ابْتِدَاءَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: { جِئْنَا لِنَسْأَلَك عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ } " كَانَ مُرَادُهُمْ خَلْقَ هَذَا الْعَالَمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُمْ: " هَذَا الْأَمْرِ "
إشَارَةٌ إلَى حَاضِرٍ مَوْجُودٍ وَالْأَمْرُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ بِهِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ الَّذِي كَوَّنَهُ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَهَذَا مُرَادُهُمْ فَإِنَّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: كُنْ لَيْسَ مَشْهُودًا مُشَارًا إلَيْهِ بَلْ الْمَشْهُودُ الْمُشَارُ إلَيْهِ هَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ
قَالَ تَعَالَى: { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا }
وَقَالَ تَعَالَى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَلَوْ سَأَلُوهُ عَنْ أَوَّلِ الْخَلْقِ مُطْلَقًا لَمْ يُشِيرُوا إلَيْهِ بِهَذَا؛ فَإِنَّ ذَاكَ لَمْ يَشْهَدُوهُ.
فَلَا يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِهَذَا بَلْ لَمْ يَعْلَمُوهُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ ذَاكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنَّ سُؤَالَهُمْ كَانَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ قَالَ: { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ } وَقَدْ رُوِيَ: " مَعَهُ " وَرُوِيَ: " غَيْرُهُ " وَالْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْمَجْلِسُ كَانَ وَاحِدًا وَسُؤَالُهُمْ وَجَوَابُهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَعِمْرَانُ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ لَمْ يَقُمْ مِنْهُ حِينَ انْقَضَى الْمَجْلِسُ؛ بَلْ قَامَ لَمَّا أُخْبِرَ بِذَهَابِ رَاحِلَتِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ أَحَدُ الْأَلْفَاظِ وَالْآخَرَانِ رَوَيَا بِالْمَعْنَى.
وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ لَفْظُ " الْقَبْلِ "؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ } وَهَذَا مُوَافِقٌ وَمُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ }.
وَإِذَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظُ [ الْقَبْلِ ] فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَاللَّفْظَانِ الْآخَرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَبَدًا وَكَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّمَا يَرْوُونَهُ بِلَفْظِ الْقَبْلِ: { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ } مِثْلُ الحميدي والبغوي وَابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُمْ.
وَإِذَا كَانَ إنَّمَا قَالَ: { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ } لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَعَرُّضٌ لِابْتِدَاءِ الْحَوَادِثِ وَلَا لِأَوَّلِ مَخْلُوقٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ } فَأَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَفْظِ الْوَاوِ لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ وَإِنَّمَا جَاءَ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ؛ " خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ".
وَبَعْضُ الرُّوَاةِ ذَكَرَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِثُمَّ وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَهَا بِالْوَاوِ.
فَأَمَّا الْجُمَلُ الثَّلَاثُ الْمُتَقَدِّمَة ُ فَالرُّوَاةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الْوَاوِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْوَاوِ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَلَا يُفِيدُ الْإِخْبَارَ بِتَقْدِيمِ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ مَقْصُودٌ إمَّا مِنْ تَرْتِيبِ الذِّكْرِ لِكَوْنِهِ قَدَّمَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ وَإِمَّا مِنْ الْوَاوِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَقْدِيمُ كَوْنِهِ عَلَى كَوْنِ الْعَرْشِ عَلَى الْمَاءِ وَتَقْدِيمُ كَوْنِ الْعَرْشِ عَلَى الْمَاءِ عَلَى كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَتَقْدِيمُ كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى تَقْدِيمِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا ذِكْرُ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا بَلْ وَلَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ مَخْلُوقًا كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَكِنْ فِي جَوَابِ أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ إخْبَارَهُ إيَّاهُمْ عَنْ بَدْءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لَا بِابْتِدَاءِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ
أَنَّهُ ذَكَرَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا وَوُجُودِهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِابْتِدَاءِ خَلْقِهَا وَذَكَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: " وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " أَوْ " ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " فَعَلَى التَّقْدِيرَيْن ِ أَخْبَرَ بِخَلْقِ ذَلِكَ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ كَانَ قَدْ خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
{ خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورٍ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ }.
فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ خَلَقَ " فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ وَمِنْ كِتَابَتِهِ فِي الذِّكْرِ وَهَذَا اللَّفْظُ أَوْلَى بِلَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْبَيَانِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِلَفْظَةِ التَّرْتِيبِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْوَاوَ فَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ إنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ النُّصُوصِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ.
الْإِخْبَارَ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَلَا الْمَاءِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْصِدَ إنَّ خَلْقَ ذَلِكَ كَانَ مُقَارِنًا لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ ذَلِكَ إلَّا مُقَارَنَةَ خَلْقِهِ لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ - وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ - عَلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حِينَ كَانَ الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ قَالَ:
{ قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }
فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ السَّابِقَ لِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حِينَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ:
{ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ }؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ: " وَلَا شَيْءَ مَعَهُ "؛ أَوْ غَيْرُهُ".
فَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَالَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِوُجُودِهِ تَعَالَى قَبْلَ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثَ فَقَوْلُهُ:
{ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ }:
إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ حِينَ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ؛ أَوْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ كَانَ مَعْنَاهُ " لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ " مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ هَذَا الْعَالَمُ وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ قَبْلَ هَذَا الْعَالَمِ الْمَشْهُودِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ وَبَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَيْسَ فِي هَذَا إخْبَارٌ بِأَوَّلِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا بَلْ وَلَا فِيهِ إخْبَارُهُ بِخَلْقِ الْعَرْشِ وَالْمَاءِ بَلْ إنَّمَا فِيهِ إخْبَارُهُ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ كَوْنَ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَالْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ وَالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا كَانَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَدِيثَ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا ذَكَرَ مَتَى كَانَ خَلْقُ الْعَرْشِ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْمَاءِ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ: { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ }
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبِابْتِدَاءِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ
أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْزِمَ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُجْزِ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلِ فَيَكُونُ إذَا كَانَ الرَّاجِحُ هُوَ أَحَدُهُمَا فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرَ فَهُوَ مُخْطِئٌ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ:
أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْمَطْلُوبُ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِ مُحْتَمَلٍ فِي خَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا وَاحِدٌ وَلَكَانَ ذِكْرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ؛ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ.
فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ؛ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ بِسِيَاقِهِ وَإِنَّمَا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
{ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ }
فَظَنُّوهُ لَفْظًا ثَابِتًا مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنْ سَائِرِ الْكَلَامِ الصَّادِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَنُّوا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارَ بِتَقَدُّمِهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَبَنَوْا عَلَى هَذَيْنِ الظَّنَّيْنِ نِسْبَةَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَتَي ْنِ عِلْمٌ بَلْ وَلَا ظَنٌّ يَسْتَنِدُ إلَى أَمَارَةٍ.
وَهَبْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّ مُرَادَهُ الْمَعْنَى الْآخَرُ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُوجِبُ الْجَزْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى وَجَاءَ بَيْنَهُمْ الشَّكُّ وَهُمْ يَنْسُبُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ قَالَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَقَالَ تَعَالَى: { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَجُوزُ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ
أَنَّهُ قَدْ زَادَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ: " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ " وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ إنَّمَا زَادَهَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْ عِنْدِهِ وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ.
ثُمَّ إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَوَّلُهَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْآنَ مَوْجُودٌ بَلْ وُجُودُهُ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْمَخْلُوقِ. كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ؛ وَابْنُ سَبْعِينَ؛ والقونوي؛ والتلمساني؛ وَابْنُ الْفَارِضِ؛ وَنَحْوُهُمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ شَرْعًا وَعَقْلًا أَنَّهُ بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ
أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُونَ هَذَا عُمْدَتَهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ: أَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَأَنَّ جِنْسَ الْحَوَادِثِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ إذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَنْطِقُ بِهِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ يَحْكُونَ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ؛ وَخَالَفُوا بِهِ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ.
وَبَعْضُهُمْ يَحْكِيهِ إجْمَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ نَقْلٌ لَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَوَافَقَ الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا إلَّا قَوْلَيْنِ: قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ إمَّا صُورَتُهُ وَإِمَّا مَادَّتُهُ سَوَاءٌ قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ؛ أَوْ مَعْلُولٌ لِغَيْرِهِ.
وَقَوْلَ مَنْ رَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: الجهمية؛ وَالْمُعْتَزِلَ ةِ؛ والكرامية؛ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ ثُمَّ أَحْدَثَ الْكَلَامَ وَالْفِعْلَ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كالكلابية وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ: بَلْ الْكَلَامُ قَدِيمُ الْعَيْنِ إمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِمَّا أَحْرُفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ثُمَّ حَدَثَ مَا يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ إمَّا قَائِمًا بِذَاتِهِ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ [ وَ ] إمَّا مُنْفَصِلًا عَنْهُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ قِيَامَ ذَلِكَ بِذَاتِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاسِ إلَّا هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَكَانَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ الرُّسُلَ لَا يَقُولُونَ إلَّا حَقًّا يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلَ الرُّسُلِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ.
ثُمَّ إذَا طُولِبَ بِنَقْلِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ الرُّسُلِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ لِأَحَدِ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةِ وَلَا حَدِيثٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا بَلْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْقُلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ.
وَقَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ مَعْنَى حُدُوثِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ.
فَيَبْقَى أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي هُوَ دِينُ الرُّسُلِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ بَلْ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَمَنْ كَانَ أَصْلُ دِينِهِ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ دِينُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ كَانَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ فِي دِينِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ
أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ أَخَذُوا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْحَجِّ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ وَعُمْدَتُهُمْ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْحُجَجِ مَبْنَاهَا عَلَى امْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَبِهَا أَثْبَتُوا حُدُوثَ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ إثْبَاتًا لِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَلَزِمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ نَفْيُ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ بَلْ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَكَذَلِكَ رِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَالْتَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي نَفَوْا بِهَا مَا أَثَبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَكْذِيبًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسَلَّطَ أَهْلُ الْعُقُولِ عَلَى تِلْكَ الْحُجَجِ الَّتِي لَهُمْ فَبَيَّنُوا فَسَادَهَا.
وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا سُلِّطَ لِلدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَمَّا عَلِمُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ وَنَسَوْا فَسَادَهُ.
ثُمَّ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ قَالُوا: إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ الْحَقَائِقَ سَوَاءٌ عَلِمَهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا وَإِنَّمَا خَاطَبَ الْجُمْهُورَ بِمَا يُخَيَّلُ لَهُمْ وَمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ.
فَصَارَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُو نَ النفاة مُخْطِئِينَ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّا تِ وَصَارَ خَطَؤُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَسَلُّطِ الْفَلَاسِفَةِ لَمَّا ظَنَّ أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ إلَّا قَوْلَانِ: قَوْلُ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِي نَ وَقَوْلُهُمْ.
وَقَدْ رَأَوْا أَنَّ قَوْلَ أُولَئِكَ بَاطِلٌ فَجَعَلُوا ذَلِكَ حُجَّةً فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَصْلًا وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَقِّقُوا مَعْرِفَةَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ:
أَنَّ الْغَلَطَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِنُصُوصِ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ بَلْ وَالْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ؛ فَإِنَّهُ أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنْ النُّظَّارِ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا قَوْلَيْنِ: قَوْلَ الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْقِدَمِ وَقَوْلَ الجهمية الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَأَوْا لَوَازِمَ كُلِّ قَوْلٍ تَقْتَضِي فَسَادَهُ وَتَنَاقُضَهُ فَبَقُوا حَائِرِينَ مُرْتَابِينَ جَاهِلِينَ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَا يُحْصَى مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي حَقِيقَةِ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ فَوَجَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ مُقَارِنًا لِلْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَصَرِيحُ الْعَقْلِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفَاعِلُ عَلَى فِعْلِهِ وَأَنَّ تَقْدِيرَ مَفْعُولِ الْفَاعِلِ مَعَ تَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الْفَاعِلُ عَلَيْهِ؛ بَلْ هُوَ مَعَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا: أَمْرٌ يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ.
وَقَدْ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطَرِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ الْمَفْعُولِ مَخْلُوقًا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَلِهَذَا كَانَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِمَّا يُفْهِمُ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَنَّهُمَا حَدَثَتَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونَا وَأَمَّا تَقْدِيرُ كَوْنِهِمَا لَمْ يَزَالَا مَعَهُ مَعَ كَوْنِهِمَا مَخْلُوقَيْنِ لَهُ فَهَذَا تُنْكِرُهُ الْفِطَرُ وَلَمْ يَقُلْهُ إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الدَّهْرِيَّةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ فَلَا يَقُولُونَ: إنَّ الْأَفْلَاكَ مَعْلُولَةٌ لِعِلَّةِ فَاعِلَةٍ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ؛ بَلْ قَوْلُهُمْ وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ قَوْلِ مُتَأَخِّرِيهِم ْ فَلَمْ يُخَالِفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي خَالَفَهُ هَؤُلَاءِ.
وَإِنْ كَانُوا خَالَفُوهُ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى وَنَظَرُوا فِي حَقِيقَةِ قَوْلِ أَهْلِ الْكَلَامِ الجهمية وَالْقَدَرِيَّة ِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ فَوَجَدُوا أَنَّ الْفَاعِلَ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ أَوْجَبَ كَوْنَهُ فَاعِلًا وَرَأَوْا صَرِيحَ الْعَقْلِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ إذَا صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِ شَيْءٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَصِيرَ مُمْكِنًا بَعْد أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا بِلَا حُدُوثٍ وَأَنَّهُ لَا سَبَبَ يُوجِبُ حُصُولَ وَقْتَ حَدَثَ وَقْتَ الْحُدُوثِ؛ وَأَنَّ حُدُوثَ جِنْسِ الْوَقْتِ مُمْتَنِعٌ فَصَارُوا يَظُنُّونَ إذَا جَمَعُوا بَيْنَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مَعَهُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُقَارِنًا غَيْرَ مُقَارَنٍ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ فَامْتَنَعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْفَاعِلِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَوَجَبَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْفَاعِلِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَوَجَدُوا عُقُولَهُمْ تَقْصُرُ عَمَّا يُوجِبُ هَذَا الْإِثْبَاتَ وَمَا يُوجِبُ هَذَا النَّفْيَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فَأَوْقَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ فَلَمْ يَعْرِفُوا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي الْمَعْقُولَاتِ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَات ِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْلَ يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَكَوْنِ الْفَاعِلِ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَبَيْنَ آحَادِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَيَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْعَالِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْفَاعِلِ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مَعَ الْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَأَمَّا كَوْنُ الْفَاعِلِ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ فِعْلًا بَعْدَ فِعْلٍ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْفَاعِلِ فَإِذَا كَانَ الْفَاعِلُ حَيًّا وَقِيلَ: إنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزِمَةٌ الْفِعْلَ وَالْحَرَكَةَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ والدارمي وَغَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَبِمَا شَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: كَانَ كَوْنُهُ مُتَكَلِّمًا أَوْ فَاعِلًا مِنْ لَوَازِمِ حَيَاتِهِ وَحَيَاتُهُ لَازِمَةٌ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا فَعَّالًا؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحَيَّ يَتَكَلَّمُ وَيَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ وُجُودَ كَلَامٍ بَعْدَ كَلَامٍ وَفِعْلٍ بَعْدَ فِعْلٍ فَالْفَاعِلُ يَتَقَدَّمُ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ: إنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خُلِقَ [ لَهُ قُدْرَةٌ ] وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ وَلَكِنْ نَقُولُ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا كَيْفَ.
فَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ قَدِيمٌ مَعَهُ.
لَا بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ قُدِّرَ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا فَعَّالًا.
وَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْخَلْقَ صِفَةُ كَمَالٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ } أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ خالقيته دَائِمَةً وَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ؟
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْكَمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَطِّلًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يَصِيرَ قَادِرًا وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بِلَا سَبَبٍ.
وَأَمَّا جَعْلُ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْطِيلٌ لِخَلْقِهِ وَفِعْلِهِ فَإِنَّ كَوْنَ الْفَاعِلِ مُقَارِنًا لِمَفْعُولِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ.
فَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ دَوَامَ الْفَاعِلِيَّةِ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَطِّلُونَ لِلْفَاعِلِيَّة ِ وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلِهَذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِهَا فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.
فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ وَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ ثُمَّ خَصَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ وَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ فِعْلَهُ وَالتَّعْلِيمُ يَتَضَمَّنُ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِتَكْلِيمِهِ وَتَكْلِيمُهُ بِالْإِيحَاءِ؛ وَبِالتَّكَلُّم ِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَبِإِرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ
قَالَ تَعَالَى: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }
وَقَالَ تَعَالَى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ }
وَقَالَ تَعَالَى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }
وَقَالَ تَعَالَى: { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }.
وَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ يَتَضَمَّنُ قَوْلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ وَلَمْ يُعَلِّمْ فَإِنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَالتَّعْلِيمِ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَمْ يَزَلْ الْفَلَكُ مُقَارِنًا لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَامْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ فَإِنَّ الْفَاعِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى فِعْلِهِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعَلِّمُ شَيْئًا مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمُ فَرْعُ الْعِلْمِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْجُزْئِيَّاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَهَا غَيْرَهُ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌّ كَذَا الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَإِذْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فَامْتَنَعَ أَنْ يُعَلِّمَ غَيْرَهُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ بِالْمَوْجُودَا تِ الْمُعَيَّنَةِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا يَعْلَمُ لَا كُلِّيًّا وَلَا جُزْئِيًّا فَقَوْلُهُ أَقْبَحُ.
وَمَنْ قَالَ: يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ الثَّابِتَةَ دُونَ الْمُتَغَيِّرَة ِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَا يَعْلَمُهَا لِأَحَدِ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا يَقْتَضِي قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهَا فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَا خَلْقَ وَلَا عِلْمَ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مُقَدِّمِهِمْ أَرِسْطُو فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ الرَّبَّ مُبْدِعٌ لِلْعَالَمِ وَلَا جَعَلَهُ عِلَّةً فَاعِلَةً بَلْ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ غائية يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِتَشَبُّهِهِ بِهِ كَتَحْرِيكِ الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ فَعِنْدَهُ لَا خَلْقَ وَلَا عِلْمَ.
وَأَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ:
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَتَهُ لِمَا أَبْدَعَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَشْهُودَةُ الْمَوْجُودَةُ: مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَأَخْبَرَ [ فِي ] الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ كِتَابٍ أَهْدَى مِنْهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ أُصُولَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْجُودَةِ الْمَشْهُودَةِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
وَشَرَعَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَجْتَمِعُوا كُلَّ أُسْبُوعٍ يَوْمًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ وَيَحْتَفِلُونَ بِذَلِكَ وَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً عَلَى الْأُسْبُوعِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَلَمَّا لَمْ يُعْرَفْ الْأُسْبُوعُ إلَّا بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي لُغَتِهِمْ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَسْمَاءُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ تَتْبَعُ النُّصُوصَ فَالِاسْمُ يُعَبِّرُ عَمَّا تَصَوَّرَهُ فَلَمَّا كَانَ تَصَوُّرُ الْيَوْمِ وَالشَّهْرِ وَالْحَوْلِ مَعْرُوفًا بِالْعَقْلِ تَصَوَّرَتْ ذَلِكَ الِاسْمَ وَعَبَّرَتْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا الْأُسْبُوعُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ الْعَقْلِ مَا يُوجِبُ مَعْرِفَتَهُ فَإِنَّمَا عَرَفَ بِالسَّمْعِ صَارَتْ مَعْرِفَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ السَّمْعِ الْمُتَلَقِّينَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَحِينَئِذٍ فَأَخْبَرُوا النَّاسَ بِخَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ الْمَوْجُودِ الْمَشْهُودِ وَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ وَأَنَّهُ خَلَقَهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامِ وَإِمَّا مَا خَلَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا سَيَخْلُقُهُ بَعْدَ قِيَامِ الْقِيَامَةِ وَدُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلَهُمَا.
وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْعِبَادِ إلَى مَعْرِفَتِهِ تَفْصِيلًا.
وَلِهَذَا قَالَ { عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ بِبَدْءِ الْخَلْقِ إلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَنَازِلَهُمَا.
وَقَوْلُهُ: " بَدَأَ الْخَلْقَ " مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }
فَإِنَّ الْخَلَائِقَ هُنَا الْمُرَادُ بِهَا الْخَلَائِقُ الْمَعْرُوفَةُ الْمَخْلُوقَةُ بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ وَكَوْنِهِ عَلَى الْمَاءِ.
وَلِهَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ لِلْمَخْلُوقَات ِ هُوَ التَّقْدِيرُ لِخَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْقَلَمِ: { إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اُكْتُبْ قَالَ: وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }.
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: { إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ: { كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }
يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَتَبَ كُلَّ مَا أَرَادَ خَلْقَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لَفْظَ كُلِّ شَيْءٍ يَعُمُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِ مَا سِيقَتْ لَهُ
كَمَا فِي قَوْلِهِ: { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
و { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وَقَوْلِهِ: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ }
وَ { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ }
{ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }
وَ { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ }
{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }
وَأَخْبَرَتْ الرُّسُلُ بِتَقَدُّمِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
كَمَا فِي قَوْلِهِ: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }.
{ سَمِيعًا بَصِيرًا }.
{ غَفُورًا رَحِيمًا } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كَانَ وَلَا يَزَالُ ".
وَلَمْ يُقَيِّدْ كَوْنَهُ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ غَيْرُهُ صِفَةً بَلْ يَمْتَنِعُ تَوَقُّفُ شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِغَايَةِ الْكَمَالِ وَذَاتُهُ هِيَ الْمُسْتَوْجِبَ ةُ لِذَلِكَ.
فَلَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْ كَمَالِهِ وَلَوَازِمِ كَمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى ذَلِكَ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُ نَفْسَهُ وَيُثْنِي عَلَيْهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
{ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِك مِنْك لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك؛ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك }.
وَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ قِيلَ: كَانَ الْكَلَامُ مُمْتَنِعًا ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ كَانَ هَذَا مَعَ وَصْفِهِ لَهُ بِالنَّقْصِ فِي الْأَزَلِ وَأَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ الْكَمَالُ وَمَعَ تَشْبِيهِهِ لَهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي يَنْتَقِلُ مِنْ النَّقْصِ إلَى الْكَمَالِ: مُمْتَنِعًا؛ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يَصِيرُ مُمْكِنًا بِلَا سَبَبٍ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا شَيْءَ فِيهِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمُمْتَنِعُ فِيهِ يَصِيرُ مُمْكِنًا بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: كَلَامُهُ كُلُّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ قُدْرَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ كَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْطِيلًا لِلْكَلَامِ وَجَمْعًا بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَي ْنِ إذْ هُوَ إثْبَاتٌ لِمَوْجُودِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَعَ أَنَّهُ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: كَلَامُهُ كُلُّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ قُدْرَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ كَانَ هَذَا مَعَ مَا يَظْهَرُ مِنْ تَنَاقُضِهِ وَفَسَادِهِ فِي الْمَعْقُولِ لَا كَمَالَ فِيهِ إذْ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا إذَا شَاءَهُ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلْكَلَامِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ قُدَمَاءُ الجهمية وَهُوَ سَلْبٌ لِلصِّفَاتِ؛ إذْ فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ حَيْثُ أَثْبَتُوا الْكَلَامَ الْمَعْرُوفَ وَنَفَوْا لَوَازِمَهُ - مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّهُ مِنْ أَفْسَدِ أَقْوَالِ الْعَالَمِينَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُنْهِي؛ وَيُخْبِرُ وَيُبَشِّرُ؛ وَيُنْذِرُ وَيُنَادِي؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا: إنَّهُ يُرِيدُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ؛ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ هَذَا الْعَالَمِ فَهُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ وَاَلَّذِي يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا يَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ مِنْ الْمَعْقُولَاتِ والمتخيلات وَهَذَا مَعْنَى تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُمْ فَعَادَ التَّكْلِيمُ إلَى مُجَرَّدِ عِلْمِ الْمُكَلِّمِ.
ثُمَّ إذَا قَالُوا مَعَ ذَلِكَ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا عِلْمَ وَلَا إعْلَامَ وَهَذَا غَايَةُ التَّعْطِيلِ وَالنَّقْصِ وَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ قَطُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ حُجَجُهُمْ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ نَوْعِ الْفِعْلِ؛ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْفَاعِلُ فَاعِلًا أَوْ لَمْ يَزَلْ لِفِعْلِهِ مُدَّةٌ؛ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ لِلْمَادَّةِ مَادَّةٌ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الْفَلَكِ وَلَا قِدَمَ شَيْءٍ مِنْ حَرَكَاتِهِ؛ وَلَا قِدَمَ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ حَرَكَةِ الْفَلَكِ.
وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ بِخَلْقِ الْأَفْلَاكِ وَخَلْقِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا مَعَ إخْبَارِهَا بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ مَادَّةٍ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي زَمَانٍ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَسَوَاءٍ قِيلَ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِمِقْدَارِ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُقَدَّرَةِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا؛ أَوْ قِيلَ: إنَّهَا أَكْبَرُ مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرُهُ أَلْفُ سَنَةٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ غَيْرُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَغَيْرُ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ حَرَكَةِ هَذِهِ الْأَفْلَاكِ.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ مُقَدَّرَةٌ بِحَرَكَةِ أَجْسَامٍ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ { اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }
فَخُلِقَتْ مِنْ الدُّخَانِ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ إنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ؛ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ الْعَرْشُ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي مُدَّةٍ وَمِنْ مَادَّةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُرْآنُ خَلْقَ شَيْءٍ مِنْ لَا شَيْءٍ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا كَمَا قَالَ: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ.
وَقَوْلُهُ: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } فِيهَا قَوْلَانِ.
فَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ بَلْ مِنْ الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟
كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ }
وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }.
وَقِيلَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ؟
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّقْسِيمَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ؟
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ لَقَالَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ؟
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَا خَالِقُهُمْ لَا مَادَّتُهُمْ.
وَلِأَنَّ كَوْنَهُمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ لَيْسَ فِيهِ تَعْطِيلُ وُجُودِ الْخَالِقِ فَلَوْ ظَنُّوا ذَلِكَ لَمْ يَقْدَحْ فِي إيمَانِهِمْ بِالْخَالِقِ بَلْ دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا ذَلِكَ وَلَا يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ بِذَلِكَ بَلْ كُلُّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِم ْ وَلِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِذَلِكَ لَا يُوجِبُ إيمَانَهُمْ وَلَا يَمْنَعُ كُفْرَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَا مُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ مَقْصُودُهُ تَقْرِيرُهُمْ إنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فَإِذَا أَقَرُّوا بِأَنَّ خَالِقًا خَلَقَهُمْ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ مَادَّةٍ لَمْ يُغْنِ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ:
أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا يَشَاءُ هُوَ وَصْفُ الْكَمَالِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ؛ وَمَا سِوَى ذَلِكَ نَقْصٌ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا ثُمَّ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ أَوْ الْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ نَاقِصًا عَنْ صِفَةِ الْقُدْرَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَاَلَّتِي هِيَ مِنْ أَظْهَرِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَقْلِ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا ثُمَّ صَارَ قَادِرًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ جَعَلَهُ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ امْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَذَا بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ ثُمَّ جَعَلَهُ غَيْرُهُ عَالِمًا قَادِرًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا: كَانَ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا.
وَهَذَا مِمَّا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الجهمية؛ إذْ جَعَلُوهُ كَانَ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا.
قَالُوا: كَالْإِنْسَانِ قَالَ: فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ تَشْبِيهٍ وَكُفْرٍ.
وَقَدْ حَكَيْت أَلْفَاظَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: كَانَ فِي الْأَزَلِ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِيمَا لَا يَزَالُ كَانَ هَذَا كَلَامًا مُتَنَاقِضًا لِأَنَّهُ فِي الْأَزَلِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْفِعْلُ فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهِ قَادِرًا وَبَيْنَ كَوْنِ الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَإِنَّهُ فِي حَالِ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا.
وَأَيْضًا يَكُونُ الْفِعْلُ يَنْتَقِلُ مِنْ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا إلَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ يُحَدِّدُ ذَلِكَ وَعَدَمٍ مُمْتَنِعٍ.
وَأَيْضًا فَمَا مِنْ حَالٍ يُقَدِّرُهَا الْعَقْلُ إلَّا وَالْفِعْل فِيهَا مُمْكِنٌ وَهُوَ قَادِرٌ وَإِذَا قُدِّرَ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا شَاءَهُ اللَّهُ فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ قَادِرًا وَالْفِعْلُ مُمْكِنًا؛ وَلَيْسَ لِقُدْرَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفِعْلِ أَوَّلَ فَلَمْ يَزَلْ قَادِرًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ فَلَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ قَطُّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْأَزَلِ وَالْأَزَلُ لَيْسَ شَيْئًا مَحْدُودًا يَقِفُ عِنْدَهُ الْعَقْلُ بَلْ مَا مِنْ غَايَةٍ يَنْتَهِي إلَيْهَا تَقْدِيرُ الْفِعْلِ إلَّا وَالْأَزَلُ قَبْلَ ذَلِكَ بِلَا غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ حَتَّى لَوْ فُرِضَ وُجُودُ مَدَائِنَ أَضْعَافِ مَدَائِنِ الْأَرْضِ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِنْ الْخَرْدَلِ مَا يَمْلَؤُهَا؛ وَقُدِّرَ إنَّهُ كُلَّمَا مَضَتْ أَلْفُ أَلْفُ سَنَةٍ فَنِيَتْ خَرْدَلَةٌ فَنَى الْخَرْدَلُ كُلُّهُ وَالْأَزَلُ لَمْ يَنْتَهِ وَلَوْ قُدِّرَ أَضْعَافُ ذَلِكَ أَضْعَافًا لَا يَنْتَهِي.
فَمَا مِنْ وَقْتٍ يُقَدَّرُ إلَّا وَالْأَزَلُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمَا مِنْ وَقْتٍ صَدَرَ فِيهِ الْفِعْلُ إلَّا وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُمْكِنًا.
وَإِذَا كَانَ مُمْكِنًا فَمَا الْمُوجِبُ لِتَخْصِيصِ حَالِ الْفِعْلِ بِالْخَلْقِ دُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى؟.
وَأَيْضًا فَالْأَزَلُ مَعْنَاهُ: عَدَمُ الْأَوَّلِيَّةِ لَيْسَ الْأَزَلُ شَيْئًا مَحْدُودًا فَقَوْلُنَا: لَمْ يَزَلْ قَادِرًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا: هُوَ قَادِرٌ دَائِمًا وَكَوْنُهُ قَادِرًا وَصْفٌ دَائِمٌ لَا ابْتِدَاءَ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ مَا شَاءَ يَقْتَضِي دَوَامَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَفَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِذَا ظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي قِدَمَ شَيْءٍ مَعَهُ كَانَ مِنْ فَسَادِ تَصَوُّرِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ فَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ.
وَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَزَلْ يَخْلُقُ كَانَ مَعْنَاهُ لَمْ يَزَلْ يَخْلُقُ مَخْلُوقًا بَعْدَ مَخْلُوقٍ كَمَا لَا يَزَالُ فِي الْأَبَدِ يَخْلُقُ مَخْلُوقًا بَعْدَ مَخْلُوقٍ نَنْفِي مَا نَنْفِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَالْحَرَكَاتِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا وَصْفُهُ بِدَوَامِ الْفِعْلِ لَا بِأَنَّ مَعَهُ مَفْعُولًا مِنْ الْمَفْعُولَاتِ بِعَيْنِهِ.
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ نَوْعَهَا لَمْ يَزَلْ مَعَهُ فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ لَمْ يَنْفِهَا شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ بَلْ هِيَ مِنْ كَمَالِهِ قَالَ تَعَالَى: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
وَالْخَلْقُ لَا يَزَالُونَ مَعَهُ وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِمْ لَا يَزَالُونَ مَعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُنَافِي كَمَالِهِ وَبَيْنَ الْأَزَلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْمَاضِي حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ إذْ كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَلَهُ ابْتِدَاءٌ وَلَا نَجْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْتِهَاءٌ.
وَهَذَا فَرْقٌ فِي أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ فَرْقٌ صَحِيحٌ لَكِنْ يَشْتَبِهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ النَّوْعُ بِالْعَيْنِ كَمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ كَلَامِهِ قَدِيمًا بِمَعْنَى إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا.
وَكَذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ [ قَدِيمًا وَبَيْنَ كَوْنِ نَوْعِ الْفِعْلِ ] الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا كَالْفَلَكِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولَاتُ الصَّرِيحَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ الشُّبَهِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مُطَابَقَةَ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ لِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ.
وَإِنْ غَلِطَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِمْ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَإِلَّا فَالْقَوْلُ الصِّدْقُ الْمَعْلُومُ بِعَقْلِ أَوْ سَمْعٍ يَصْدُقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا
قَالَ تَعَالَى { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } بَعْدَ قَوْلِهِ: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ } وَإِنَّمَا مَدَحَ مَنْ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُ.
وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا الصِّدْقَ وَلَمْ يَرُدَّ مَا يَجِيئُهُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الصِّدْقِ بَلْ قَبِلَهُ وَلَمْ يُعَارِضْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ بِخِلَافِ حَالِ مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَنَسَبَ إلَيْهِ بِالسَّمْعِ أَوْ الْعَقْلِ مَا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ فَكَذَّبَ مَنْ جَاءَ بِحَقِّ مَعْلُومٍ مِنْ سَمْعٍ أَوْ عَقْلٍ
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُمْ سَمْعٌ أَوْ عَقْلٌ مَا دَخَلُوا النَّارَ
وَقَالَ تَعَالَى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
وَقَالَ تَعَالَى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ: أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُرِي عِبَادَهُ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةَ الْمَخْلُوقَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةَ الْمَسْمُوعَةَ حَقٌّ.
وَمِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَنْشَأُ غَلَطِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْن ِ غَلَطُهُمْ فِي الْحَرَكَةِ وَالْحُدُوثِ وَمُسَمَّى ذَلِكَ.
فَطَائِفَةٌ - كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ - قَالَتْ: لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ وَالْحَوَادِثِ حَادِثًا؛ وَأَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ كُلِّ حَرَكَةٍ وَحَادِثٍ صَارَ فَاعِلًا لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا مَعَ أَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَانٍ وَهَذِهِ الْقَضَايَا كُلُّهَا إنَّمَا تَصْدُقُ كُلِّيَّةً لَا تَصْدُقُ مُعَيَّنَةً ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ الْحَرَكَةَ الْمُعَيَّنَةَ وَهِيَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ هِيَ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ وَزَمَانُهَا قَدِيمٌ فَضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا مُخَالِفًا لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين.
وَطَائِفَةٌ ظَنُّوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جِنْسَ الْحَرَكَةِ وَالْحَوَادِثِ وَالْفِعْلِ إلَّا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْجَمِيعِ لَمْ يَزَلْ مُعَطَّلًا ثُمَّ حَدَثَتْ الْحَوَادِثُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا وَانْتَقَلَ الْفِعْلُ مِنْ الِامْتِنَاعِ إلَى الْإِمْكَانِ بِلَا سَبَبٍ وَصَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِلَا سَبَبٍ وَكَانَ الشَّيْءُ بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ زَمَانٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ.
وَهُمْ يَظُنُّونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مَنْقُولًا عَنْ مُوسَى؛ وَلَا عِيسَى؛ وَلَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ؛ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَانْتَشَرَ عِنْدَ الْجُهَّالِ بِحَقِيقَةِ أَقْوَالِ الرُّسُلِ وَأَصْحَابِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ وَصَارَ نِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِمْ: إمَّا بِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَإِمَّا بِعَدَمِ بَيَانِ الْحَقِّ.
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْزِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ السَّلَفِ عَنْ الِاهْتِدَاءِ.
وَإِنَّمَا ضَلُّوا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ.
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا.
الأخ أسامة . . . رعاك الله ؛
أنا قلت :
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :وقد يسمى هذا : "قدم حنس المخلوق" . وليس ذلك بباطل أصلا ، بل هو عين الحق - بخلاف قدم مخلوق معين أو مخلوقات معينة .
وأنا قلت :أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَجْعَلُونَ هَذَا عُمْدَتَهُمْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ: أَنَّ الْحَوَادِثَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَأَنَّ جِنْسَ الْحَوَادِثِ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ إذْ لَمْ يَجِدُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَنْطِقُ بِهِ؛ مَعَ أَنَّهُمْ يَحْكُونَ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي كُتُبِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ؛ وَخَالَفُوا بِهِ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ. وَبَعْضُهُمْ يَحْكِيهِ إجْمَاعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ نَقْلٌ لَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :و"الجنس" من "الكليات" ، فلا يوجد في الخارج إلا معيّنا بطريق البدل - وكل واحد من أعيانه حادث مسبوق بالعدم ومسبوق بالإرادة .
وأنا قلت :وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَهُوَ جُزْئِيٌّ لَا كُلِّيٌّ كَذَا الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :الفرق بين "الجنس" و "الأعيان" أو بين "النوع" و "الأفراد"
وأنا قلت :وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْلَ يُفَرِّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَكَوْنِ الْفَاعِلِ يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا وَبَيْنَ آحَادِ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَيَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْعَالِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْفَاعِلِ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مَعَ الْفَاعِلِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَأَمَّا كَوْنُ الْفَاعِلِ لَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ فِعْلًا بَعْدَ فِعْلٍ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْفَاعِلِ
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :يراد بوجود جنس المخلوق : وجود مخلوق ما من غير تعيين .
وقال :وَالرُّسُلُ أَخْبَرَتْ بِخَلْقِ الْأَفْلَاكِ وَخَلْقِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ حَرَكَتِهَا مَعَ إخْبَارِهَا بِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ مَادَّةٍ قَبْلَ ذَلِكَ وَفِي زَمَانٍ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِوأنا قلت :فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي مُدَّةٍ وَمِنْ مَادَّةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقُرْآنُ خَلْقَ شَيْءٍ مِنْ لَا شَيْءٍ
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :فمثلا : قبل أن يخلق الله العرش والماء هناك مخلوق ما هو العماء أو السحاب ، فليس الله إذ ذاك وحيدا لا مخلوق له ، بل هناك خالق ومخلوق وهما الله والعماء ( أو هما : الله والعماء مع الهواء ). وبعد أن يخلق الله الماء والعرش ، يوجد هناك أيضا خالق ومخلوق
وأنا قلت :فَهَذَا الْقَلَمُ خَلَقَهُ لِمَا أَمَرَهُ بِالتَّقْدِيرِ الْمَكْتُوبِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ وَخَلَقَهُ بَعْدَ الْعَرْشِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :فما من وقت من الأوقات إلا ويكون هناك مخلوق ما لله تعالى قليل أو كثير
وأنا قلت :وَأَخْبَرَتْ الرُّسُلُ بِتَقَدُّمِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }. { سَمِيعًا بَصِيرًا }. { غَفُورًا رَحِيمًا } وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " كَانَ وَلَا يَزَالُ ". وَلَمْ يُقَيِّدْ كَوْنَهُ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ غَيْرُهُ صِفَةً بَلْ يَمْتَنِعُ تَوَقُّفُ شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِغَايَةِ الْكَمَالِ وَذَاتُهُ هِيَ الْمُسْتَوْجِبَ ةُ لِذَلِكَ. فَلَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْ كَمَالِهِ وَلَوَازِمِ كَمَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى ذَلِكَ أَزَلًا وَأَبَدًا وَهُوَ الَّذِي يَحْمَدُ نَفْسَهُ وَيُثْنِي عَلَيْهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ.
وفيما نقلته من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :أما وجوده في الذهن والعلم ، فقد يتصور الإنسان جنس الشيء من غير تعيين لأفراده . وأما وجوده في الخارج ، فالجنس لا يوجد فيه جنسا ، بل يوجد فردا أو أفرادا .
وقد مر فيما سبق قوله رحمه الله :فَطَائِفَةٌ - كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ - قَالَتْ: لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ وَالْحَوَادِثِ حَادِثًا؛ وَأَنْ يَكُونَ مَبْدَأَ كُلِّ حَرَكَةٍ وَحَادِثٍ صَارَ فَاعِلًا لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْ يَكُونَ الزَّمَانُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا مَعَ أَنَّ قَبْلَ وَبَعْدَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي زَمَانٍ وَهَذِهِ الْقَضَايَا كُلُّهَا إنَّمَا تَصْدُقُ كُلِّيَّةً لَا تَصْدُقُ مُعَيَّنَةً ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ الْحَرَكَةَ الْمُعَيَّنَةَ وَهِيَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ هِيَ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ وَزَمَانُهَا قَدِيمٌ فَضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا مُخَالِفًا لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين.
واسم رسالته تلك : رسالة في شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنه .الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ
فالظاهر أنها موجهة إلى أهل السنة وغيرهم ، فلا يختص استعمال هذه المصطلحات بكلامنا مع أهل الكلام والفلسفة - بل حسب الحاجة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا معناه [ أنا لم أخطيء ]، لمجرد وجوده ضمن كلام قاله أحد الأئمة، وهذا لا يقتضي التسليم له بالصحة.
لذا قلنا آنفًا... تدارس... وليس ترديد.
وجزاكم الله خيرًا.
الأدلة ذكرتها أكثر من مرة ، فلتراجع رضي الله عنك .
ما معنى (الجواز) ؟نحن لا نقول بأن الله عز وجل كان معطلا عن التخليق، ولكننا نقول بأنه يفعل ما يشاء متى شاء ولا يجب عليه ان يخلق منذ الأزل حتى يكون خالقا ولكنه يخلق متى شاء ولا يتعطل عن التخليق والقدرة على ذلك منذ الأزل ولكنه يخلق متى شاء . وأنت لا تدري أنه شاء أن يخلق منذ الأزل في كل لحظة، ولهذا نقول بجواز ذلك لكن لا نقول بوجوبه لأن الله يخلق بمشيئه، ونحن لا علم لنا بمشيئة الله عز وجل (إذا شاء ان يخلق منذ الأزل ام لا)
لكنه بدون شك شاء ان يخلق المخلوقات فهو خلق العرش والقلم والعالم والجنة والنار ..الخ
وهذه كلها تكفي لإثبات أن الله عز وجل خالق وأنه قادر على الخلق متى شاء، ولا يلزم أن يخلق منذ الأزل حتى لا تتعطل صفة الخالقية فهي مرتبطة بمشيئته ... يعني هذا لا يمتنع في عقلي
هل تقول أنه من الممكن أن لا تخلق الله تعالى شيئا من المخلوقات منذ الأزل إلى حين خلقه ذلك المخلوق الأول ؟ وما دليلك على إمكانية ذلك عقلا وشرعا ؟
أنا أعلم أن هذا القول هو ما أدى إليه اجتهاد الباحثة كاملة الكواري في أحد أبحاثها ، وقد نسبته إلى شيخ الإسلام - تفهما لا نقلا مصرحا - ، لكنني حتى الآن لا أجد مصداقية ذلك في أي كتاب من كتبه رحمه الله . بل الظاهر خلافه .
لا يا أخي الكريم !الدليل على ذلك شرعا؟
أن هذا الإعتقاد (أن هناك مخلوق هو أول المخلوقات وأنه لا يسبقه إلا الله عز وجل فلا يسبقه مخلوق قبله) يستلزم تعطيل الله عز وجل عن الخالقية قبل ذلك الزمن؟
فكلامك هذا يستلزم وجوب ذلك على الله في فهمي
الوجوب ينافي المشيئة
الوجوب هنا هو وجوب أن لا يكون الله تعالى معطلا عن إرادة الخلق ، لأنه ليس من يخلق كمن لا يخلق . فمن لا يقدر على الخلق ناقص ، ومن لا يخلق منذ الأزل ناقص أيضا لتعطله عن الإرادة والرحمة والترزيق والإحسان والجود والامتنان .
أما العربية فلست أنا من أهلها .لغتي العربية فيها ضعف .
ولكنني أفهم أن معنى "الخلاق": الذي يكثر من فعل الخلق صح؟
ام أن فهمي لها خطأ؟
لكن أنقل لك بعض ما قاله أهل العلم رحمهم الله :
قال الشيخ الشنقيطي في تفسيره : (والخلاق والعليم : كلاهما صيغة مبالغة) ؛ وقال ابن عجيبة صاحب (البحر المديد) : (والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة ، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة) ؛ وقال الإمام الطبري : (فإنه تعالى الخلاق، الذي جميع المخلوقات، متقدمها ومتأخرها، صغيرها وكبيرها، كلها أثر من آثار خلقه وقدرته، وأنه لا يستعصي عليه مخلوق أراد خلقه) ؛ وقال ابن كثير : (فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء) . قلت : وهذا وصف لازم له تعالى كما قال تعالى : (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) . وليس عندنا دليل واحد على تخصيص ذلك وقتا دون وقت ، فالتمسك بالظاهر والعموم أولى .
لم يزل الله تعالى ولا يزال فعال لما يريد . ومن جملة أفعاله تعالى : الخلق والكلام .يعني أفهم من كلامك هذا أنه منذ الأزل كان مع الله مخلوقات؟
لم تكن هناك اي لحظة كان فيها الله وحده وليس معه شيء؟
إذا كان كذلك فما هو دليلك شرعا؟
ومن من السلف أو علماء أهل السنة قالوا بكلامك هذا؟ (عدم وجود مخلوق هو أول المخلوقات لا يسبقه إلا الله عز وجل ... الخ)
فمع هذا كيف يقال إنه في وقت من الأوقات يجوز أن يكون الله معطلا عن فعل التخليق منذ الأزل ؟ ولعلك - بارك الله فيك - تراجع كتب شيخ الإسلام ونقوله عن السلف مثل نقله قول الإمام أحمد وغيره عن صفة الكلام وكلام ابن عباس ررر عن صفة الغفران والرحمة . والله أعلم .
جزاك الله خيرًا...
كل هذا ليس بجديد... وأما الأدلة فتعارض أدلة أخرى... وهذا ما ذكرناه آنفًا من قبل هذا الخوض، بأن هذه المسألة شائكة.
وأما اقحام كلام شيخ الإسلام لموافقة الفلاسفة، فمردود.
وأما التسليم له في حال تعارض مع أصول أخرى... ففيه نظر.
وذكرنا أن هذا تدارس... وكلمة العمدة، لا تعني التسليم، ولكن تعني أن هنا كلام يرتكز عليه الكثير، وهذا لا يعني أن هناك مقولة واحدة في هذا الباب.
وإلا ويتضح لك كلام بعض الأئمة، كمثل قولهم: وما علمنا عن شيخ الإسلام إلا وأن عقيدته سلفية ناصعة، إلا وأننا نختلف معه في شيء منها.
وهذا الكلام تجده على لسان الإمام الذهبي وابن كثير وغيرهم.
وهو شيخهم وشيخنا بل وشيخ الإسلام - رحمه الله... وتدارس المسألة يختلف تمامًا عن التقليد، إلا بالتقليد فيما هو مُسَّلم به، وهذا يسمى الاتباع، أما غير المسَّلمات فمن يقول بهذا؟ لا أحد بلا شك و لا أظتك أنت تقول بهذا.
لاحظ أخي الكريم انك قلت جنس (المخلوق)المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نضال مشهود
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: جنس (الحوادث)
وهناك فرق بين هذا وذاك
فكل مخلوق حادث وليس كل حادث مخلوق
أما قولك بأنك ذكرت الأدلة الشرعية لقولك فأين هو؟
لم اراك تذكر آيات واحاديث سوى حديث العماء
لما لا إذا لم يشأ الله ذلك ؟ما معنى (الجواز) ؟
هل تقول أنه من الممكن أن لا تخلق الله تعالى شيئا من المخلوقات منذ الأزل إلى حين خلقه ذلك المخلوق الأول ؟
حيث أن الله عز وجل يفعل ما يشاء متى شاء
(ملاحظة: أنا لا اقول هذا جزما لأنني لم أرى الأدلة الواضحة بعد في المسألة كلها
فأنا متوقف حاليا في هذه المسألة
وأناقشها للتدارس)
أخي الفاضل ما دليلك أنت على قولك؟وما دليلك على إمكانية ذلك عقلا وشرعا ؟
ففي أمور الدين يجب ان يكون لديك دليل لإثبات قولك وليس نفيه.
هذا ما أعرفه
وإن كنت اخطأت فأرجو تصويبي
راجعت كلامك هذا وهو معقولالمشاركة الأصلية كتبت بواسطة نضال مشهود
إلا ان صفة الإرادة لا تتعطل بعدم وجود الخلق لكن ربما الصفات الأخرى التي ذكرتها
لكن ما لم استعوبه هو قولك بوجود جنس المخلوقات منذ الأزل وعدم وجود مخلوق أول لا يسبقه إلا الله عز وجل
فهذا في عقلي يستلزم وجود مخلوقات مع الله منذ الأزل يعني متساوية في وجودها مع الله
وهذا يناقض قولنا (كان الله ولا شيء معه)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكم أيها الفضلاء.
عرض موجز للمسائل الأخيرة.
صفة الخلق:
صفة ذاتية فعلية لله تعالي. (ولا يوجد خلاف في هذه النقطة)
التخليق:
بلا أدنى شك أنها فعلية إختيارية لله تعالى.
ولا يصح فيها الإلزامات.
إن كان لله تعالى القدرة والمشيئة على أن يخلق وقتما شاء وكيفما شاء، فيكون الفعل تحت المشيئة، إن شاء فعل وإن لم يشأ فلا... فإن أثبتنا لله عز وجل فعله، لأثبتنا مشيئته بما شاء (فأين الدليل؟) أم ألزمناه بما لم يشأ؟ (فهذا باطل).
فلا يستلزم دفع تعطيل بشيء هو تحت المشيئة دون إخبار به، فيخرج من شبهة التعطيل إلى القول على الله بلا علم... وكلاهما باطل.
فما كان تعطيلاً في أصله ليُدفع ... ولا حق فيُتَّبع.
المخلوق:
إن وقع ظن أحد الأخوة أنه قديم سواءً بآحاده أو نوعه أو جنسه، فقد ذهب بعيدًا، وفصل الآحاد عن الجنس والنوع للمخلوق، فلا يستند إلى دليل يقام به حُجَّة.
فأرجو أن لا يكون فيه إلتباس.
وأما الخلاف الواقع:
هي مسألة الإرادة المثبتة للفعل الاختياري كيّ لا يكون تعطيلاً.
ورأيت كثيرًا من الفضلاء قد أحجموا عن الحديث في هذه المسألة إحجام فطنة منهم، ولا أرى نفسي إلا أن أكون معهم لأن هذه المسألة ليس فيها قول معتمد.
نسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا، ويعصمنا من الزلات.
الأخ أسامة . . . حفظك الله ؛
قلت إن استدلالات شيخ الإسلام تعارضها (أدلة أخرى) وألمحت إلى مخالفتها لـ(أصول أخرى) . فهلا أوضحت لنا تلك الدلائل والأصول حتى لا تلقى هذه الدعوى على عواهنها ؟ وأشرت ضمنيا أن هناك أقوال أخرى من أئمة أهل السنة تضاد ما أدت إليه بحوث الشيح رحمهم الله - أي بخصوص هذه المسألة بالذات . فمن هم ، وأين النقول عنهم فتوى أو استدلالا ؟ أرجوا الاعتناء بهذه النقطة ، فإنها بيت القصيد . ولسنا في هذا الأمر - ولله الحمد - بمقلدين ، وإنما ذكر الأئمة تلك المسائل بدلائلها فاتبعناهم على ذلك وقلنا بموجبها .
وأما قولتك العجيبة :فلا أرى لذكرها حاجة ، فأين أقوال معطلي الإرادة من كلام شيخ الإسلام . . . ؟ اللهم سلّم !وأما اقحام كلام شيخ الإسلام لموافقة الفلاسفة، فمردود.
قولك :إن الجزم - يا أخي - بوجود أول المخلوقات أولية مطلقة لهو تعطيل الله سبحانه وتعالى عن (إرادة التخليق) فيما لم يزل - تعطيلا مطلقا - بحيث إنه تعالى منذ الأزل إلى حين خلقه ذلك المخلوق الأول - على مقتضى هذا القول - لم يكن يريد شيئا من الخلق ولو مرة واحدة ، وهو فيما لم يزل إلى ذلك الوقت لم يخلق مخلوقا ولو مرة ، ولا يرزق مرزوقا ، ولا يرحم مرحوما ، ولا يحسن أحدا غيره ، ولا يرب مربوبا ، ولا يدبر أمر مدبّر ، ولا يجود على فقير ، ولا . . ولا . . . فلم يكن عندئذ خلاّقا بالفعل ، ولا رزّاقا بالفعل ، ولا قيّوما بالفعل ، ولا رحيما بالفعل ، ولا جوادا بالفعل ، ولا ولا . . .إن كان لله تعالى القدرة والمشيئة على أن يخلق وقتما شاء وكيفما شاء، فيكون الفعل تحت المشيئة، إن شاء فعل وإن لم يشأ فلا... فإن أثبتنا لله عز وجل فعله، لأثبتنا مشيئته بما شاء (فأين الدليل؟) أم ألزمناه بما لم يشأ؟ (فهذا باطل). فلا يستلزم دفع تعطيل بشيء هو تحت المشيئة دون إخبار به، فيخرج من شبهة التعطيل إلى القول على الله بلا علم... وكلاهما باطل. فما كان تعطيلاً في أصله ليُدفع ... ولا حق فيُتَّبع.
وأما القول بالجواز فهه شبيه بذلك - وإن كان أخف منه ضررا . فليس معنى التجويز إلا " تجويز أن يكون الله معطلا عن وقوع تلك الأفعال المتعدية منه تعالى" . فأيهما أصدق في العقل والشرع والفطرة : (منع التعطيل) أم (جوازه) ؟ أظن أن الإجابة ظاهرة في قلوبكم اليقظة .
وأما قولك :فهو عندي عين البعد والالتباس . فإنه ليس المراد بذلك القول : فصل الآحاد عن الجنس (أو بعبارة أدق : فصل الجنس عن آحاده) . بل المراد أن كل واحد من المخلوقات حادث مسبوق بالعدم ، لكن جنسها تابع لجنس التخليق . والتخليق نفسه : فعل دائم الجنس والنوع ، حادث الآحاد والأفراد . تماما كما قال تبارك وتعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) . فصلاحية حصول الإرادة منه تعالى دائمة لا يختص بوقت دون وقت - فضلا عن تعطله تعالى عنها في الأزل أو جواز تعطله عنها فيه .إن وقع ظن أحد الأخوة أنه قديم سواءً بآحاده أو نوعه أو جنسه، فقد ذهب بعيدًا، وفصل الآحاد عن الجنس والنوع للمخلوق، فلا يستند إلى دليل يقام به حُجَّة . فأرجو أن لا يكون فيه إلتباس.
والله أعلى وأعلم ، وله الحمد في الأولى والآخرة .
لله الحمد من قبل ومن بعد .
أردت بـ(الإرادة) هنا : إرادة التخليق .
ليس وجود تلك المخلوقات بمتساو مع الله ، فإن كل منها مسبوق بالعدم ، مخلوق لمدبر العالم . لكن بما أن إحسان الله تعالى ورحمته وجَوده دائمة منذ الأزل ، فجنس مفعولات تلك الأفعال المتعدية دائمة أيضا ، وإن كان آحادها حادثة . وأما قول القائل : (كان الله ولا شيء معه) فإنما يناقض هذا لو أريد به أن (كان الله ولا شيء معه من الخلق مطلقا - لا العرش ولا الماء ولا العماء ولا الهواء ولا غيرها من المخلوقات ألبتة) . فأما إن أريد به ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - من أن الله عند كون عرشه على الماء لم يكن معه شيء من هذا العالم المشهود ، أو أريد به أن الله لا يسبقه شيء من مخلوقاته ، فهذا حق وليس فيه نقض لما أثبتناه - لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء ، أي ليس لوجوده تعالى بصفاته الذاتية : (قبل) ولا (بعد) .لكن ما لم استعوبه هو قولك بوجود جنس المخلوقات منذ الأزل وعدم وجود مخلوق أول لا يسبقه إلا الله عز وجل . فهذا في عقلي يستلزم وجود مخلوقات مع الله منذ الأزل يعني متساوية في وجودها مع الله . وهذا يناقض قولنا (كان الله ولا شيء معه)
وأما النقولات عن أئمة السلف ، فلي عودة لإتيانك بها - ولا أظنه كثيرا . والله الموفق للسداد .
قررت ان انسحب من مناقشة هذا الموضوع
وسأتوقف فيها إن شاء الله
فلا أرى فائدة كبيرة من مناقشتها
بل أرى أنها تضرني أكثر مما تنفعني
وأخشى أن أتكلم عن الله بغير علم سبحانه وتعالى
وإذا ذكر أهل البدع هذه المسألة (ويظهر لي ان ذلك نادر الحدوث والله أعلم) أتركها لأهل الإختصاص ولا ادخل فيها
ووفقكم الله لما يحبه ويرضاه
أخي نضال...
لربما قلت آنفًا... أنه يجب التفطن... ودعني أطرح عليك طرحًا.
جميع المخلوقات آحاد... وجميعها مربوب... وجميعها كانت لم تكن شيئًا.
فخلقها الله تعالى.
هلا أخرجت جميع الآحاد... ماذا بقي؟
لا داعي للرد...
فلا أرى أننا في مدارسة فعلية... بارك الله فيكم.
وكما فعل الفاضل المتفطن / العقيدة... أتبعه أيضًا بالانسحاب.
غفر الله لنا ولكم.