بارك الله في شيخنا أبي محمد الغامدي ونفع به .
وهناك ملاحظة متعلقة بالعنوان : ملخصها : أن العشق ليس هو الإعجاب ، والإعجاب ليس هو العشق لا في عصرنا ولا العصور الماضية ، وإنما هو مرحلة سابقة في العشق وهو وقوع صاحب الصورة من المحب موقعًا حميدًا ، وبعدها قد يدمن التفكير فيه وذكره حتى يصل إلى العشق ، وقد ينصرف عنه ويسلوه .
وأفضل من كتب في هذا الباب أمام أهل السنة العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر ، المعروف بابن قيم الجوزية (ت751هـ) تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد صنف في ذلك كتابًا ماتعًا سماه ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) وهو مطبوع متداول ، أنقل هنا فصلا ماتعًا من هذا الكتاب برمته ، فبعد أن ذكر اختلاف الناس في حكم العشق عقد بابًا ماتعًا فقال – رحمه الله - :
الباب السادس عشر
في الحكم بين الفريقين وفصل النزاع بين الطائفتين
فنقول: العشقُ لا يحمد مطلقًا ولا يذم مطلقًا ، وإنَّما يحمدُ ويذمُ باعتبار مُتعَلَّقه فإن الإرادة تابعة لمرادها ، والحب تابع للمحبوب فمتى كان المحبوبُ مما يحبُ لذاته أو وسيلةً توصِّله إلى ما يُحب لذاته لم تُذم المبالغةُ في محبته بل تحمد ، وصلاح حال المحبِّ كذلك بحسب قوَّة محبته .
ولهذا كان أعظمُ صلاح العبد أن يصرف قوى حُبِّه كلها لله تعالى وحده بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه فيوحِّد محبوبه ويوحِّد حبَّه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب توحيد المحبوب : أنَّ المحبة لا تصح إلا بذلك فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له فهذا الحبُّ وإن سمي عشقًا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما وأن تكون محبته لغير الله تابعةً لمحبة الله فلا يحب إلا الله كما في الحديث الصحيح : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)).
فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحبَّ إليه مما سواه، ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها وتَصْدقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشدَّ، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئًا فإذا قدَّم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان الله أحبَّ إليه من نفسه وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد وتقتضي كمال اللذة والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ، ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركًا شركًا لا يغفره الله كما قال الله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله والذين آمنوا أشدُ حبًّا لله} ، والصحيح أن معنى الآية : والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من أهل الأنداد لأندادهم كما تقدم بيانه أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا كما لا يماثل محبوبهم غيره وكل أذىً في محبة غيره فهو نعيمٌ في محبته وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته ومن ضرب لمحبته الأمثال التي هي في محبة المخلوق للمخلوق كالوصل والهجر والتجني بلا سبب من المحب وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوًّا كبيرًا فهو مخطئ أقبح الخطإ وأفحشه وهو حقيق بالإبعاد والمقت ، والآفة إنما هي من نفسه وقلة أدبه مع محبوبه والله تعالى نهى أن يَضْرب عبادُه له الأمثالَ فهو لا يقاس بخلقه وما ابْتَدَع من ابْتَدَع إلا من ضرب الأمثال له سبحانه ، فأصحاب الكلام المحدث المبتدع ضربوا له الأمثال الباطلة في الخبر عنه وما يوصف به ، وأصحاب الإرادة المنحرفة ضربوا له الأمثال في الإرادة والطلب وكلاهما على بدعة وخطإ .
والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقًا ممدوحًا مثابًا عليه وذلك أنواع أحدها :
- محبة القرآن :
بحيث يغني بسماعه عن سماع غيره ويهيم قلبه في معانيه ومراد المتكلم سبحانه منه وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه فمن أحب محبوبًا أحبَّ حديثه والحديث عنه كما قيل :
((إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي *** أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي))
وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه بل لا ينساه فيحتاج إلى من يُذَكِّره به وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه فعِشْقُ هذا كلِّه من أنفع العشق وهو غاية سعادة العاشق.
- وكذلك عشق العلم النافع وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود والعفة والشجاعة والصبر ومكارم الأخلاق فإن هذه الصفات لو صورت صورًا لكانت من أجمل الصور وأبهاها ولو صور العلم صورة لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السمائية الزكية لا الأرواح الأرضية الدنية فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيىء من الآفات المذكورة .
- بقي هاهنا قسم آخر وهو عشق محمود يترتب عليه مفارقة المعشوق كمن يعشق امرأته أو أمته فيفارقها بموت أو غيره فيذهب المعشوق ويبقى العشق كما هو فهذا نوع من الابتلاء إن صبر صاحبه واحتسب نال ثواب الصابرين وإن سخط وجزع فاته معشوقُه وثوابُه وإن قابل هذه البلوى بالرضا والتسليم فدرجته فوق درجة الصبر وأعلى من ذلك أن يقابلها بالشكر نظرًا إلى حسن اختيار لله له فإنه ما يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له فإذا علم أن هذا القضاء خيرٌ له اقتضى ذلك شكره لله على ذلك الخير الذي قضاه له وإن لم يعلم كونه خير له فليسلم للصادق المصدوق في خبره المؤكد باليمين حيث يقول: ((والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن)).
وإيمان العبد يأمره بأن يعتقد بأن ذلك القضاء خير له وذلك يقتضي شكر من قضاه وقدره وبالله التوفيق)). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.