الإمامة في الدين تنال بالعلم والتقوى
"قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم"
وقال صلى الله عليه وسلم: "من بطَّأ به عملُه لم يسرع به نسبُه"


الإمامة في الدين تنال بالعلم، وباتقاء رب العالمين، ولا تنال بالنسب وسعة المال والجاه، ولا بالأماني والدعاوى الفارغة.
لهذا عندما طلب الملأ من بني إسرائيل من نبي لهم أن يبعث لهم ملكا، فقال لهم نبيهم: "إن الله قد بعث لكم طالوتَ ملكاً"، استنكروا ذلك وقالوا: "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وعللوا ذلك بعلل مادية: "ولم يؤت سعة من المال"، فرد عليهم نبيهم: "قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".2
جاء في تفسيرها: (وكان طالوت سقَّاء، وقيل دباغاً، وقيل مكاريا، لكنه كان عالماً، فلذلك رفعه الله على ما يأتي، وكان من سبط بنيامين ولم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط الملك، وكانت النبوة في بني لاوي، والملك في سبط يهوذا، فلذلك أنكروا).3
قال القرطبي: (جروا على سنتهم في تعنيتهم الأنبياء وحيدهم عن أمر الله تعالى، فقالوا: "أنى"، أي من أي جهة.. ونحن من سبط الملوك وهو ليس كذلك، وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قَدَر الله تعالى وقضاؤه السابق حتى احتج عليهم نبيهم بقوله: "إن الله اصطفاه"، أي اختاره، وهو الحجة القاطعة، وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب، وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة، لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس، وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسباً.
إلى أن قال:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو.. وقيل زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم تر إلى قول الشاعر:
ترى الرجلَ النحيف فتزدريه وفي أثـوابه أسـدٌ هصـور
ويعجبـك الطـريـر فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطريـر
وقد عظم البعيـر بغيـر لب فلم يستغن بالعظم البعيـر).4
وما قاله بنو إسرائيل قاله مشركو قريش عندما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: "لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"5، يريدون بالقريتين مكة والطائف، وبالعظيم أي من السراة، الأغنياء، الوجهاء!
قلت: من العجيب الغريب عدم توفر هاتين الصفتين الأساسيتين في كل حكام المسلمين اليوم، وغيرهما من الشروط الأساسية التي اشترطها أهل العلم فيمن يتولى إمامة المسلمين، بل في بعض الأحيان أخلوا بما هو أخطر من ذلك، بشرطي الإسلام والذكورية، حيث تولت إمامة المسلمين امرأة في كبرى الدول الإسلامية، في إندونيسيا، وباكستان، وبنجلاديش، واتخذ الكفار نواباً واستوزروا في عدد من الدول الإسلامية، وأجازت دساتير بعض الدول للكافر أن يكون رئيساً لدولة المسلمين، دعك عن المستشارين الذين فاقوا هامان في السوء وفي الكيد للإسلام والمسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وذلك لتخلي المسلمين عن الطريقة المثلى لاختيار أئمتهم، وهي أن يتولى ذلك أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين، أو بالوصية لمن توفرت فيه شروطها، كما فعل أبو بكر وسليمان بن عبد الملك، واستبدلوها بالتي هي أدنى، بالتوارث، والانقلابات العسكرية، والديمقراطية الغربية، والعمالة للكفار، على الرغم من تنكر الكفار لصنم العصر الديمقراطية إذا جاءت بما لا يهوون، كما حدث في الجزائر وتركيا، وترحيبهم بالانقلابيين إذا كانوا من صنائعهم، أمثال برويز مشرف، وهم صادقون مع أنفسهم إذ النظام الديمقراطي نظام لا ديني، بل قام على أنقاض الدين، ولإقصائه عن جميع مناحي الحياة، لتوفير الحرية الشخصية الشهوانية للبيض وعملائهم، كما بينت الأيام ذلك، وكشفت عن زيفهم وافترائهم، وصدق القائل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فالمصيبة العظمى والداهية الكبرى عدم تحكيم شرع الله، واستبداله بالقوانين الوضعية والرضا بذلك، حيث يعتبر ذلك من نواقض الإسلام المجمع عليها.
لا غضاضة أن يستولي المرء على السلطة إذا أمن الفتنة، وكان غرضه الأول وهدفه الأساس تحكيم شرع الله، وإقامة العدل، فقد استولى مروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، والعباسيون، وصلاح الدين الأيوبي، والعثمانيون، وغيرهم كثير على السلطة بالقوة، أوبالتوارث، ولكنهم حكموا بالشرع، وإن صدرت من بعضهم بعض التجاوزات والمخالفات فهي لا ترتقي إلى إقصاء شرع الله بالكلية والتحاكم إلى زبالة أذهان البشر، وموالاة الكفار، واتخاذهم وزراء، ونواب، ومستشارين، وأصدقاء مقربين.
والله أسأل أن يرد المسلمين حكاماً ومحكومين إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يوفقهم أن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، وأن ينصروا دينه لينصرهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم على من خافه واتقاه واتبع رضاه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.


كتبه\ الحاج الأمين محمد أحمد .