تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ...

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    المشاركات
    296

    افتراضي العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ...

    بسم الله الرحمن الرحيم
    من أظهر أسباب قصور النتائج الجهل بحقيقة الذوات، وعدم إدراك ميزانها.
    وحصر منافع الأشياء أو قصرها على بعض وجوهها واستعمالاتها، تعطيل لنتائج تعظم وتحقر بحسب المفقود من قيمتها، وهذه سنة كونية، نراها حتى في مخلوقات الله المادية، فالمعادن وكنوز الأرض كانت بين يدي الإنسان منذ أول الخليقة، فهو لم يصنع الطائرة والتقنيات من عدم، ولكنه حينما جهل حقائق الماديات ووجوه الانتفاع منها أثر هذا على نتائجه من قصور مادي شديد إلى حضارة مادية كبيرة، فمعدن الطائرة والتقنية هو المعدن الذي كان بين كفي الإنسان يشرب به ويأكل وغير ذلك من الاستعمالات، فالمادة هي المادة والإنسان هو الإنسان ولكن العلم بحقائق الذوات قاصر، فقصرت النتائج.
    وهكذا العالم في كل علم مع معلوماته ورسالته ومواقعها وآثارها في الناس، وكلما توسعت العلوم وتكاثرت تداخلت وتنازعت وزاحم بعضها بعضاً حتى في فروع العلم الواحد، ويجب الإيمان أن كل العلوم في الأرض والسماء متداخلة مهما اختلفت، ولو في أجزاء يسيرة، ويغيب عن الإنسان أكثرها ويعلم القليل جداً (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، والعلم المطلق لله سبحانه وتعالى وحده.
    إن العالم ورسالته في الإسلام دخلها الجهل بحقيقتها على عصور طويلة، فأثر ذلك على العالم في ذاته وفي مدى العلم الذي ينبغي أن يأخذه، ويؤديه ويبلغه، ونوع خطابه ورسالته، وسمته وحرفته التي يتقوت منها ويرتزق، وصلته بالناس، وعلاقته بالمادة، والسياسة وارتباطه بها، ومن جهل ذاته لم يؤد رسالته، وأخطر أنواع الجهل جهل الرجل بذاته.
    لقد جاء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوالى في ضبط الدين والدنيا وتكوين الصلة بينهما، وجاءت نصوص الوحي في أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج كما جاءت في ضبط البيع والشراء والتعامل مع الخلق والبهائم، وسياسة البشر والرؤساء وذوي الهيئات، والمتباينين في الديانة.
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إمام العلماء وسلطان الله في الأرض، يأمر وينهى كما أُمر ونُهي من ربه تعالى، وكانت صورة العالم السلطان مكتملة في جسد النبوة، فأثمر ذلك الأمان للأمة قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون) .
    ولهذا جاء تفسير السلف من التابعين لولي الأمر في القرآن أنهم العلماء تارة وتارة أنهم الأمراء، فهم يرون ذلك من المترادفات، لأنه في زمانهم لا يكون أمير يصدر عامة الناس عن قوله إلا وهو عالم عارف، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فسر ولاية الأمر بالعلم ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وعطاء والحسن البصري وعكرمة.
    وقد بقي سلطان الأمر والعلم في جسد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الأمراء كالخلفاء رضي الله عنهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:( أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما توعد).
    وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئاً فشيئاً، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.
    وأي اختلال للأمان في الأمة، واضطراب في المجتمعات، فهو بسبب القصور في فهم العالم ورسالته، وانقسام جسد الأمر إلى عالم في جسد، وسلطان في جسد، وانفرد كل واحد منهما بشطر الرسالة، والعملة لا ينفصل أحد وجهيها عن الآخر وتَنْفُق على وجه صحيح في سوق الدين والدنيا.
    وقد أحدث هذا الانفكاك فساداً في بعض أنواع العلماء وبعض أنواع السلاطين، ليكتمل وجه القصور في دولة الإسلام دولة الدين والدنيا، فيُحابي العالم في علمه ويترخص للسلاطين مظالمهم، وأخذ السلطان يُميْل إليه وجه العالم ليشتري منه الرأي ليكتمل النقص المفقود عنده وهو العلم والتشريع، فيضعُف العالم فيعطي السلطان رغبته ليكتمل له الأمر المفقود وهو نفوذ الجاه والأمر على الناس لقربه من السلطان.
    وقد كان العلماء العارفون من السلف يُدركون أثر هذا الانفكاك، روى الدارمي في سننه عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: نشر العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله.
    وهذا الانفكاك يزداد بقصور السلطان عن تحليه بالعلم، واكتفاؤه بثبوت الطاعة وتحققها، وبقصور العالم عن فهم السياسة ومصالح الناس في الأموال والحقوق، واكتفاؤه ببراءة الذمة لأنه يرى أن ذلك ليس من شأنه.
    وهذا الانفكاك لا يُلغي أهلية العالم عن إكمال المنفك منه ليصدر قوله عن رأي نافذ ناضج، ولا يُلغي أهلية السلطان عن إكمال المنفك منه ليصدر حكمه وأمره ونهيه عن علم محكم، ولا يُلغي أيضاً السمع والطاعة بالمعروف للآمر عالماً أو سلطاناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّيء في كثير من الأخبار ضمناً على انفكاك الأمر في الأمة واختلال نظر العامة في فهم وجهته، وهذا يُفهم كثيراً من حثه على السمع والطاعة في المنشط والمكرة بالمعروف مع إخباره بفساد الآمرين، ولذا قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (دعانا رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏فبايعناه،‏ ‏فكان فيما أخذ علينا أن ‏‏بايعنا‏على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ‏ ‏وأثرة ‏علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً ‏بواحاً‏ ‏عندكم من الله فيه ‏‏برهان)، وهذا الاستثناء في الحديث (إلا أن تروا كفراً بواحاً) إشارة إلى البعد في انفصال العلم عن السلطان بُعداً يستوجب توحيد الكلمة ما لم يبلغ الكفر.
    والطاعة لولي الأمر إنما جاءت في النصوص قوية في آخر الزمان مع فساد الأمر لأجل بيان ثبوت هذا الاختلال في الأمر، وأن ضبط الموازين والجمع بين هذه المفترقات الدقيقة أمر يفوق إدراك العامة ودهماء الناس، ومخاطبتهم بالعلاج متعذر، لهذا فيُكتفى بأمرهم بالسمع والطاعة بالمعروف، وأما العلماء فيعرفون حقيقة الرسالة التي حملوها، وتوجيه الناس بها كل زمن بحسب علمائه.
    وإن من وجوه الخطأ أن يُدخل العالم نفسَه في خطاب العامة، فينزوي عن فهم حقيقة رسالته ومهماته، وماذا أنيط به من واجبات تجاه الناس وأحوالهم، ومحاولة إتمام القصور في الأمة وغرس الأمان فيها، وأظهر وجوه قصور العالم التي نراها اليوم :
    أولاً: التغافل عن عموم الرسالة، وشمول خطاب الوحي في ضبط الدين والدنيا، وحصر العناية بالأحوال والأفعال والعلوم التعبدية الخالصة مما يُشترط فيها النية لحصول الثواب ورفع العقاب، كالصلاة والصيام والحج والذكر ونحوها، وتصحيح وجوه الخطأ والابتداع فيها، وأمر الناس بذلك وأطرهم عليه، ونهيهم عن الترك، وتغافل العلماء عن ضبط دنيا الناس، والاحتراز لأموالهم وصونها من العبث، وأخذها بالظلم والسلب والاختلاس، وما يتعلق بحقوقهم فيما بينهم، وتعاملاتهم في شأنهم كإصلاح ذات البين، وغشيان نواديهم، قصور في فهم الرسالة، وخطاب الوحي وميثاق الله المأخوذ عليهم، وقد أورث هذا اغتراباً في الأفعال وعزلاً للعالم وسلوكه في باب من أبواب العمل والتكسب، والترفع عن مخالطة العامة بالتكسب بالحرفة والصناعة وعمل اليد، والمتاجرة في الأسواق، بدلاً من ترقب يد من يستميله إليه فيعطيه ويمنعه.
    ويوسف عليه السلام ولج إلى تصحيح دنيا الناس، لعلمه بها وخبرته السابقة بذلك لذا لما طلب إدارة خزائن الأرض قال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يرى استحقاقه لذلك بسبب الحفظ وهو الأمانة وكذلك العلم وهو معرفة أمر المال وشأنه وتدبير أمور الناس المالية.
    وانشغال العالم بالنوع التعبدي الخالص، والتغافل التام عن الآخر أورث انفصالاً في فهم الرسالة، وتهيئةً للأفكار الداخلة على العلم في الإسلام أن الدين والدنيا منفكان عن بعضهما، وأصبح تغافل كثيرٍ من العلماء عن حياة الناس وشأنهم، أرضاً تنبت عليها الأفكار المادية كالعلمانية والليبرالية والشيوعية الاشتراكية لأنها بديلٌ في ضبط دنيا الناس عند فساد دنياهم من ظلم ظالم وقهر قاهر، وربما كان انشغال العالم بشطر رسالته مسوغاً لاستنكار دخول العلماء العارفين في ضبط حياة الناس والعناية بشأنهم، وينتج عنه أن وَجد رموز الفكر العلماني بيئة الإسلام منفكة إلى أصحاب دين وإلى أصحاب دنيا، فاحتاجوا إلى تنزيل الأسماء فحسب، من غير حاجة إلى فصل الأفعال.
    وأصبح هذا القصور دعوة مؤيدةً لتصنيف العلماء وتحزيبهم، وربما اضطرب العلماء الداخلون في مصالح الناس في معرفة الوجه الصحيح لموقفهم، بسبب عزلتهم عن مسالك غيرهم من العلماء، فيشعرون بالغربة والعزلة، ومع طول عهد يضعف في كثيرٍ منهم التدين، ويبقى الدين والورع ملازماً لكثيرٍ ممن نأى بنفسه، فتضطرب العامة في فهم الطريق الصحيح إلى أي العلماء يسلك وبأيهم يقتدي.
    والعالم وإن انفك عنه السلطان في الأمر ينبغي أن يُكمل ما نقص من أمر السلطان في الأرض فيكون له عوناً إن غفل أو تغافل أو ظلم ببينة ومكابرة ويكون ذلك بالبيان ومقتضى الحال بالمعروف والحسنى، لا بالمنازعة والمغالبة في كل حال لأن ذلك قد يفضي إلى إضاعة الأمر كله بعد أن ضاع شطره.
    وإنما تضعف منزلة العالم في الناس إذا انشغل عن دنياهم.
    ثانياً : الخلط بين زهد العالم في حفظ الماديات لنفسه، وزهده في حفظ الماديات للناس، وكثيراً ما لا يتم التفريق بين المقامين، فزهد العالم في الدنيا لنفسه محمود، وزهد العالم في حفظ أموال الناس والعطاء لهم وصون حقوقهم مذموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الدنيا لكان أكثر الناس مالاً وحظاً فيها، ولكن زهد فيها، ومع هذا فكان أكثر الناس حرصاً على العطاء وإغداق المال على الناس، وإصلاح ذات البين والحث على حفظ أموال الناس وتحريم أكلها .
    ففي الصحيح عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
    وكان ينتصر لحق الضعيف بالبيان للناس إذا أُخذ ماله ولو كان عبداً مملوكاً، فبريرة أمة مظلومة اشترط أهلها الولاء لهم بعد عتقها لنفسها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط.
    ومع هذا فكان زاهداً في حق نفسه ينام على حصير يؤثر على جنبه، ويقول له الصحابة: لو اتخذنا لك وطأة؟ فقال: مالي وما للدنيا ما أنا فيها إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها.
    بل الخوض في مصالحهم بالصلح أفضل من الانشغال بنوافل الصلاة والصيام ففي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى، قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة.
    وهذا أكثر وقعاً على العامة أن يزهد في المال من يُعطيه، لأنه كان في يده فأوصله لغيره، ويمكنه حبسه لنفسه.
    والزهد في الحديث عن حفظ أموال الناس والمجتمعات وبيان خطورة التعدي عليها ثلم عظيم في مهمة الرسالة، وكسر لمفاتيح قلوب الناس، التي لا يُدخل إليها إلا بدنياهم.
    والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعطي الناس المال تأليفاً واستمالة لقلوبهم، ويحفظ لهم حظ الدنيا ليبقى حظ الدين، ومقتضى ذلك أن من قصر في حفظ دنياهم وتهاون مع قدرته على ضبطها، فهو مضيع لدينهم، ومن نظر إلى مصارف الزكاة الثمانية في القرآن عرف أن المقصود بدفع المال هو حفظ الدنيا ليُحفظ الدين، فلا دين إلا بدنيا.
    ثالثاً: حصر التفقه في الدين على أبواب مخصوصة من العلم، ولضعف خوض العالم في دنيا الناس وأفكارهم وصونها ضعُف أخذه للعلم الذي يؤدي إلى تحقيق ما تركه وزهد فيه، فإذا بعُد عملاً وخوضاً في سياسة المجتمعات والدول والحقوق والأفكار المتعلقة بذلك، فهو سيبتعد غالباً عن الخوض في العلوم المؤدية إلى معرفتها ولو كان الجهل بها مضراً بالدين ومسوغاً للتسلل إلى نقض حماه، لهذا يُحسن كثيرٌ من العلماء المعاصرين معرفة الطوائف والفرق السالفة لوجودها في بطون الكتب، ويعرف حجج أهلها ونقضها، ولكنهم ربما يجهلون كثيراً من الطوائف المعاصرة التي هي أشد خطراً من الطوائف السابقة في الناس كالعلمانية والليبرالية والمدارس الفكرية المعاصرة وأثرها على عقائد الناس ودينهم ودنياهم، وإذا ظهر ضعف تفسيرهم لها، وهوان الرد عليها، قويت حجة المخالف ولو كانت ضعيفة لأن حجة العالم أضعف في العرض وإن كانت أقوى في الأصل، والسلاح براميه، فالحاذق العارف يصيب ولو بالسهم، والجاهل يخطيء ولو بالبندقية.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    الرياض
    المشاركات
    90

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    ما شاء الله تبارك الله

    جزاك الله خيراً

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2007
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    2,858

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابن أبي الحسن مشاهدة المشاركة
    وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئاً فشيئاً، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.

    وهذا الانفكاك يزداد بقصور السلطان عن تحليه بالعلم، واكتفاؤه بثبوت الطاعة وتحققها، وبقصور العالم عن فهم السياسة ومصالح الناس في الأموال والحقوق، واكتفاؤه ببراءة الذمة لأنه يرى أن ذلك ليس من شأنه.
    كلمات تُسطر بماء الذهب.
    جزاك الله خيرا، وبارك فيكم
    وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا
    ـــــــــــــــ ـــــــــــ( سورة النساء: الآية 83 )ــــــــــــــ

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    450

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    جزاكم الله خيرا على النقل
    و بارك فيكم

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Sep 2010
    الدولة
    نجد
    المشاركات
    1,082

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    بارك الله فيكم جميعـآ


  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المشاركات
    30

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    هذا هو فقه الواقع

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2009
    المشاركات
    30

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    أشكركم على هذا المقال الرائع...

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    الدولة
    الرياض
    المشاركات
    225

    افتراضي رد: العلماء .. وقصور الرسالة ! (الحلقة الأولى) ....

    بسم الله الرحمن الرحيم

    العلماء .. وقصور الرسالة (٢) بطانة العالم !

    أثر البطانة على كل صاحب رسالة يُقِر به العقل، ويبين خطره الوحي، فالتحذير من أثر البطانة على الرأي والتوجه خوطب به أعلا الخلق منزلةً وهم الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة، إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، و بطانة لا تألوه خبالا ومن يوق بطانة السوء فقد وقي).
    وفي هذا الحديث جملة من المعاني التي يجب الوقوف عند الواحدة منها:
    أولاً:
    إذا كان هذا التنبيه والتحذير من البطانتين للأنبياء، فهو للعلماء من باب أولى، وإذا كانت بطانة السوء يبتلى بها الأنبياء، فابتلاء العالم بها وأثرها عليه أخطر، لعصمة الأنبياء وتوجيه الوحي المستديم لهم، الذي به يأمنون من آثار بطانة الشر، وأما أمْن العالم من أثر بطانته عليه وركونه إلى علمه ودرايته وبصيرته ودينه فهو أمن من مكر الله، وكثيراً ما يقع العالم في الانقياد لبطانة شر ويظن أنه موفق بها، والحال عكس ذلك.
    ثانياً:
    التحذير الوارد في الحديث إشارة إلى ورود اللبس في التمييز بين البطانتين، ووقوع الاشتباه بينهما، ولكن النبي يُعصم بالله، وأما العالم فيُعان ويُعصم ويسدد في التمييز بين البطانتين بحسب قربه واتباعه لمقام النبوة في سريرته وعلانيته، وليس بحسب سعة علمه، فإبليس من أوسع الثقلين علماً، ومع هذا فهو أظهر المخلوقات شراً، لأنه اعتمد على علمه فوكله الله إلى نفسه.
    ثالثاً:
    إن البطانة لا يلزم أن يتخذها الإنسان باختياره، فربما يُبتلى العالم بها كبلاء الأنبياء بالجلساء المنافقين، أو كمن تُفرض عليه بطانة سوء كالمستشارين والمرافقين، للعلماء أصحاب الولايات، ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن النبي يختارها، بل قال : (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) إشارةً إلى وجودها قَدَراً باختيار أو بابتلاء، وحينما تجرأت البطانة السيئة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم مع هيبة الوحي المنزل في نفوسهم، الذي يكشف الستر، ويُخبر عما في السرائر، فكانوا يترقبون الفضيحة، قال تعالى عنهم: (يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم)، فكيف عند الأمن من ذلك بعد انقطاع الوحي الفاضح مع العالم والسلطان، وخوف المنافقين وحذَرهم مع النبي دليلٌ على أن ظاهرهم الموافقة والخير، وباطنهم الشر.
    رابعاً:
    قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر)، هذا في حق نبي، يؤمر وينهى، وهذا جاء في سياق المدح لها، ويتضمن المدح للأنبياء لأنهم يُنصتون لهم من غير أنفة أو تكبر بادعاء التفاوت بين مقام النبوة ومقام غيرهم، فإذا مُدح النبي لسماعه وإنصاته لرأي من حوله من بطانته الصالحة، فالواجب على العالم وصاحب السياسة السماع والإنصات من باب أولى، والنفرة من البطانة الآمرة الناهية هي سبب حرمان العالم من التوفيق، وعلامة على اختلال النية، وما أكثر ما يمتزج في قلب العالم حفظ هيبته الخاصة بحفظ هيبة علمه ودينه، فيأنف ويترفع من أن يؤمر أو يُنهى بحجة صيانة العلم أن يُبتذل وهو لا يُريد إلا صيانة ذاته، والعلامة الفارقة بين العالم الذي يرفع رأسة صيانة للعلم، وبين العالم الذي يرفع رأسه صيانة لنفسه، أنك ترى الرأس الكاذب كثيراً ما ينزل لتناول الدينار والدرهم والجاه، ولو من أيدي البعيدين عن الهداية، وهذا تناقض لا يُقبل، والعالم الصادق ليس له عينان يُبصر بهما المال والجاه، لأن بصره لا يقع على الأرض، وإنما الإخلاد إلى الأرض دأب العالم الذي لم يتداركه الله برحمته وتوفيقه (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض) والقلوب هي التي تخفض وترفع، وإن كذب اللسان.
    والعالم الذي يأنف من الأمر والنهي الصادق، ليس بوريث صادق للنبوة، بل هو وصف المضادين لرسل الله ورسالاته {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} ، روى الخطيب في تاريخه عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن وهو على القضاء فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله قال فسألته عن مسألة فغلط فيها فقلت أصلحك الله القول في هذه المسألة كذا وكذا إلا أني لم أرد هذه إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال : إذاً أرجع وأنا صاغر إذاً أرجع وأنا صاغر لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل.
    واستعمال لفظ الأمر والنهي، بدلاً من لفظ الإعانة والتسديد، إشارة إلى عدم الترفع عن قبول التوجيه والنصح والتصحيح، ولا يلزم من أمر النبي بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يكون قد ترك المعروف ووقع في المنكر، بل المقصود تثبيته وتأييده وتصبيره لأنه بشر.
    وما اتخذ عمر بطانته من القراء الفقهاء إلا لتقويمه، قال ابن عباس كما في البخاري في وصف عمر : وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا.
    خامساً:
    لا يوجد بطانة للعالم لا تنفع ولا تضر، بل هي إما تضره أو تنفعه، وأخطر البطانات التي تكسو الدنيا كساء الدين، والبطانة التي تنفع وتعطي الجميل في الدنيا وهي متجردة من الدين أخطر البطانات، فما من إحسان على الإنسان إلا وله ثمن لا بد أن تؤديه اليد أو اللسان أو القلب أو جميعها، ولو آجلاً فينبغي للعلماء الحذر من عطاء من لا يرجو الله، ولن يستطيع أحد كبح نفسه عن دفع ثمن الباطل، إلا أولي العزم وأشباههم من العلماء ففرعون طالب موسى بثمن إحسانه القديم فأمره أن يترك الحق، قال تعالى على لسان فرعون لموسى: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) ربّوه أربعين سنة، ولكن أبى أن يدفع ثمنها السكوت عن الحق، فضلاً عن دخول في الباطل.
    وقد قال بعض المفسرين إن الذي ربى موسى هو والد فرعون الغريق، وليس هو الغريق نفسه، ومع هذا طالب الابن بالفضل القديم الموروث من أبيه.
    وأخفى أثمان عطاء المفسدين للمصلح السكوت عن أخطائهم، فتتبايع القلوب ولا يشهدها إلا الله.
    ولا بد للعالم من معين له في دنياه، لا يرجو ثمناً لفضله عليه إن أعطاه مالاً أو حماه ومكن له كما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بطانة له فكان أبو بكر يعطي النبي صلى الله عليه وسلم وتطيب نفس النبي بالأخذ، ويقول في آخر مطاف الرسالة كما في الصحيح: ( إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا من الناس لاتخذت أبا بكر خليلاً).
    سادساً:
    البطانة التي لا تُصنع تَصنع، وإذا لم يتخذها العاقل اتخذته، ولا يتم انتظام الحياة والمجتمعات إلا بعلماء ساسة، ولا تتم رسالتهم إلا بالبطانة الصالحة.
    واختيار البطانة لا يكون إلا بمخالطة الناس، ومعرفة مشاربهم واختبار عقولهم ودينهم وأخلاقهم وطبائعهم، فلا تتمحص البطانة وتتميز وتصطفى عن غيرها إلا بمخالطة الناس، فالسماع المجرد عنهم بلا رؤية للحال قصور في العلم يتبعه قصور في الاختيار وهذا أمر معلوم بالحس، ولهذا قال تعالى مبيناً منزلة المعاينة على الإخبار: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)، وفي الحديث: (ليس الخبر كالمعاينة).
    والمعاينة تُكسب العالم معرفةً يميز بها الصفات المكتسبة والجبلية، فبطانة العالم هي التي تُعينه في إيصال رسالته كما يُريد الله منه، وأما اتخاذ البطانة التي تُسلّي وتُدخل السرور فهي بطانة العامة والسلاطين والملوك، والبطانة التي تُعين على الطاعة الذاتية بطانة العباد والزهاد، يُختار لها أهل الديانة فقط
    سابعاً:
    كثيراً ما تؤثر البطانة على المصلح الذي يرجى منه إصلاح للأمة، إما أن تثبطه أو تطغيه أو تغره، والتفوق في الصلاح والديانة والعبادة فقط ليس معياراً وحيداً يقاس به صلاح الخلطاء للعالم، فهذا يصلح للعوام الذين يريدون سلامة ما يصل إليهم والحفاظ على ما هم فيه من مكتسب، حذراً من الشبهات والشهوات، وأما العالم فيريد سلامة ما يصل إليه وسلامة ما يصدر منه للناس، وهذا لا يصلح له كل صالح في نفسه.
    ومن المشكلات أن لا يكون ثمة تفريق بين حاجة العالم إلى بطانات متعددة، تُعينه في صلاح نفسه وصلاح غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حذيفة أميناً لسره مع وجود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم وهم أفضل منه بالاتفاق، ولكن لخصيصة جِبليّة عرفها النبي صلى الله عليه وسلم في حذيفة مع صدق الجميع في الصحبة، وهذا لا يكون إلا مع طول مخالطة ومعاشرة للناس حتى يختبر أحوالهم، فيُقدم الأصلح ولو أحب غيره أكثر منه، لأنه صاحب رسالة يُريد أن تصل، فمصلحته مع رسالته المحمولة أكثر من حاملها.
    والبطانة لها أثر على الناس، لهذا حذر الله نبيه والمؤمنين من أن تتخذ بطانة غير صالحة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم).
    ثامناً:
    إذا كانت الصلة بين العالم وبطانته علاقة مادية دنيوية، فهذه البطانة لن تعطي نصحاً خالصاً ولو كانت في ذاتها صالحة، لأنها ترى دنياها مرهونة، ببقاء دنيا العالم، فربما كان وجيهاً وزيراً أو قاضياً، ونصحه بالحق ربما يُزيل حظها من دنياه، فهو يُريد دوام دنيا العالم لتدوم دنياه هو، وبعض العلماء الصالحين يُخطىء في تربية بطانته، فربما تأتيه لا تُريد إلا الدين فيفسدها بعطاء المال الكثير، فتنقلب في صدقها بالنصيحة لانقلاب باطنها، وربما تأتي العالم هبة من سلطان أو أمير فيحب الخلاص منها فيُعطيها بطانته ورعاً من أن يأكلها أو تُفسد عليه دينه، فيهرب من أن يأتيه فساد دينه ممن فوقه، فيأتيه فساده من أسفل منه بإفساده بطانته بالمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يُعطي الأبعدين عنه أكثر من الأقربين منه.
    وكثيراً ما يظهر قصور العالم في رسالته بسبب بطانته، وهذا في صور منها:
    أولاً:
    الانشغال بقضايا بعيدة عن الحاجة التي يتلبس بها الناس، والحديث عن قضايا مفضولة بعيدة عن الساعة، من أظهر ما يُقلل من مرتبة العالم عند الناس، ويُصدر غيره عليه، والانشغال بالحق لا يعني صحة الانشغال به، فقد يتزاحم الحق مع حق أعظم منه فيكون الانشغال به خطأ، بل قد يكون إثماً، لأنه يفوت حقاً يجب أن يتضح في وقته، وأكثر الأخطاء التي يقع فيها الصالحون هو جهل القدر بين الفاضل والمفضول، فيرون المفضول منفرداً بعين تجعله منفصلاً عن الفاضل فيعظم في نفوسهم ذلك المفضول بكثرة النظر بفضله وآثاره وجميل عاقبته، فيكون هذا حاجباً عن الوصول إلى الحق الأصلح، وهو أعظم طرق إبليس في الدخول على العلماء والصالحين، وحينما يُنكر عليهم أحدٌ الغفلة وترك الفاضل يُرجعونه إلى فضل المفضول في ذاته، وهذا أمر ليس من مواضع الخلاف.
    وجهل العالم بالمقدار الفارق بين الأعمال والأقوال المتفاضلة مشابه لوقوع العامي بالمعاصي، بل ربما وقوع العالم بالمفضول الصالح وترك الفاضل الأصلح أشد إثماً من معاصي العوام، لأن كلاً من العالم والعامي يؤاخذ على مقدار ما يعلم من تبعات فعله، والعالم لو دقق فيما بين المفضول والفاضل من خير يفوت وشر يتحقق، لكان أبصر من العامي في معرفة شر إثمه.
    وقد يُدرك بعض العلماء الفارق بين الفاضل والمفضول ولكنهم لا يدركون مقدار الحاجة إليهما، بسبب ضعف المشاهدة لأحوال الناس، وضعف البطانة عن إيصال مراتب حاجة الناس للأمرين.
    ولذا ترى بعض المنتسبين إلى العلم مع صدق نياتهم، يغفلون عن حاجة الناس ونوازلهم، فتضعف حاجة الناس إليهم وتعلقهم بهم تبعاً، ومباشرة الناس وتتبع أحوالهم منهم أمر لا بد منه لبقاء منزلة العالم، فثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه يستغل اجتماع الناس لصلاة الجمعة فيسألهم عن أحوالهم، وهو على المنبر، فروى ابن المنذر وابن حزم عن موسى بن طلحة بن عبيد الله يقول: رأيت عثمان بن عفان جالساً يوم الجمعة على المنبر والمؤذن يؤذن وعثمان يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم.
    ومن لم يعرف أحوال الناس ونوازلهم، ومقدار ما يعانونه من هموم، تحدّث بالحق القاصر الذي يوجد أولى منه، وتسبب ذلك برفض الحق الذي يأتي به، وربما سقطت هيبته، ولايعني هذا أن يكون العالم كما يريد الناس ويهوون ولكن يجب عليه أن يعتني بدنياهم ليعتنوا بالدين.
    ثانياً:
    التعظيم لأعمال العالم القاصرة عن قدرته التي يستطيع أكثر منها، فيرضى ويركن إلى قليل ما عمل، مع الغفلة عن عظيم ما ضيع، لأنه في حقيقته لم ير ما ضيع كما هو، وإذا رضي الإنسان بقليل فعله، أجحف في حق المخالف له، ولم يحسن الظن به، وربما ظن به التحامل والحسد والتربص.
    وكثيراً ما تقع الخصومة بين العلماء والدعاة بسبب اختلال قيمة عمل بعضهم عند بعض عند نازلةٍ معينةٍ، فربما يرى أحدهم أن غيره بالغ في قول حق ما وغلا فيه، بينما الحق أنه معتدل وغيره مقصر، وربما العكس لأن أحدهم جهل قيمة الحق الذي قاله الآخر آو قوة أثر الباطل الذي أزاله.
    وكثيرٌ من العلماء ُيدركون حقائق الأشياء والتفاضل بينها، ولكن يعجزون عن الانشغال بالفاضل، وإدراكهم ذلك يحملهم على السكوت عن المخالف المنشغل بالحق الفاضل، ويرون أنه يُسقط التكليف عنهم، فيحمدون الله على أن وقاهم من عقوبة السكوت عن بيان الحق، كما كان كثيرٌ من الفقهاء والمحدثين زمن محنة أحمد، أدركوا فضل عمل أحمد فقصروا عنه، ولم يحملهم انفراد أحمد بعمل أن يقعوا في ذمه والطعن في عرضه، لأن من أخطر كوامن النفوس البشرية أنها ترى انفراد غيرها بما تعجز عن قوله وفعله يتضمن إزراء بالعاجز، وتفرُّد القائم بالحق بحمد الناس وثنائهم يتضمن تفويتاً لسمعة الساكت، وكلما استمر قيام الجريء بالحق زاد من وقع الأذى على نفس الساكت، حتى يحمل النفوس الضعيفة الساكتة على الوقيعة بالقائم بالحق، لأنها ترى أن الوقيعة فيه يتضمن تبرأةً لها، فالصورة الظاهرة خلافٌ في إظهار الحق، وفي الباطن انتصارٌ للنفس.
    ثالثاً:
    المداومة على الخطأ وسبب ذلك أن البطانة لا تنقل إليه نقد الناس له، والبطانة السيئة هي التي تزن بقاءها بإرضاء العالم إو السلطان ولو بدوام الخطأ فيه، وهذه البطانة مع كونها تكتم الحق أن يصل إلا أنها تربي سيدها على العصمة، والنفوس التي لا تسمع نقدها ولو بالباطل، هي النفوس المتكبرة، وحينما يقابلها مصلح ليناصحها تتضجر وتأنف، وتسيء الظن به، ولا تحب إلا تلك البطانة التي لا تسمعها إلا ما تحب وتهوى.
    وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم بطانة تخبره بما يقال فيه ولو سوءاً، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار: والله ما أراد محمد بهذا وجه الله! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتمعر وجهه وقال: رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.
    وقد بوب البخاري على هذا الخبر بقوله: (باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه)، وكثيراً ما تتكرر أخطاء العالم بسبب أنه لا يسمع ممن حوله إلا ذكره الحسن، ومن لا يحب إلا سماع ما يحب ولا يصبر على سماع التخطئة له ولو بالحق، فضلاً عن سماع الباطل فيه، ينفّر منه البطانة الصادقة، وتجتمع عليه البطانة الأخرى فتعرف هواه فتعطيه ما يُحب.




    وأصلح الأحوال للعالم أن يُبصر الحقائق بنفسه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولو صلحت بطانته، لأن أخذ الحقائق بواسطة يختلف عن الأخذ بالنفس، لأنه لا يُمكن أن تستوي النفوس في تقدير الحقائق تقديراً متطابقاً من جميع وجوهه وصوره، ولذا كثيراً ما تكون أحكام العالم قاصرة بسبب البعد عن المشاهدة لما يحكم عليه، وكذلك مشاهدة غيره له، وبروزه بنفسه للناس مؤثر، فالصادق لصدق قوله أثر على وجهه، يدركه أدنى الناس فعن الحارث بن عمرو السهمي قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى -أو بعرفات - وقد أطاف به الناس، فتجيء الأعراب، فإذا رأوا وجهه قالوا: هذا وجه مبارك» أخرجه أبو داود.
    وربما يتغير حكم الإنسان في الشيء الذي سمع به إذا شاهده، والمخالطة لا تعني دوام مجالسة الشر، فالمخالطة هي التي يصدر بها العالم عن معرفة تامة ولو كانت عارضة، وأما التي تدوم فهي التي تؤثر على الطبيعة البشرية بمؤالفة المخالَط وتقبُّله مهما كان منحرفاً، ولذا منع الله من تلك المخالطة بقوله تعالى: (فلا تقعدوا معهم) وعلل ذلك بقوله: (إنكم اذاً مثلهم).
    يجب على الإنسان أن يصنع لنفسه ساحة عريضة من الناس مختلفة الطبقات، يرى منها أحوالهم التي ينزّل عليها خطابه، فإنه إن جهل ذلك اختلت قيمة خطابه غالباً، وأثره في الناس، فالتدرج في نزول أحكام الإسلام كان بسبب مناسبة الخطاب لأحوال المخاطبين، وذلك محل تسليم أن سببه حاجة الناس وإدراكهم، فما كل حق يصلح لكل مخاطب به.
    والعالم الذي يرمي بقوله في وسط الناس ولا يعرف أحوالهم وفهمهم وفكرهم ونفوسهم، كمن يرمي بنفسه من مكانٍ مرتفع ولا يدري أين تقع رجلاه، ويجب عليه أن يعرف أحوال الناس كما يعرف الأرض التي ينزل عليها برجليه، فسلامة قواعد الدين والدنيا أولى من سلامة قواعد الأبدان.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •