الإصلاح المنشود

إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، إذ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ يؤْتِيهِ الله أَجْرًا عَظِيمًا.
الإصلاح ،مهمة الرسل، وصفة الغرباء في زمان الغربة كما وصفهم الصادق المصدوق، نبي الرحمة، وخاتم النبيين، حين قال:
" بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء"[1]
"قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس"[2].
نعم، هو الإصلاح، تلك الغاية النبيلة التي تسعى لها النفوس الكريمة، وتدعيها حتى المفسدة اللئيمة، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون .
وإن كان جل المفسرين يفسرون الآية التي وصف الله بها هذه الفئة، بأن المقصود بها المنافقون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يعجبني قول سلمان رضي الله عنه فيها: ما جاء هؤلاء بعدُ[3].
لا أعني أني أتقدم لأرجح قولا على قول الأئمة الأعلام[4]، ولكن سر إعجابي هو نكتة عجيبة، تتجلى في دعاوى حديثة، أصبحت موضة لهذا العصر، فكثر مدعوها، وتنوعت مقاصدها، تلكم الدعاوى هي دعوى الإصلاح، وأصحابها المصلحون كأني بهم هم من عنى سلمان رضي الله عنه.
فرغم أن تاريخ الإنسان - منذ أن أوجده الله على هذه الأض – لم يخل من إصلاح ومصلحين، سواء من الأنبياء والمرسلين، وأولهم نوح عليه السلام، أو من المجددين الذين تخللوا فترات ما بينهم، وخصوصا فترة ما بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ((وإن من أمة إلا خلا فيها نذير))[5]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[6]، إلا أني لا أظن أن مصطلح الإصلاح وما اشتق منه من مصطلحات قد استهلك في عصر من العصور كما في عصرنا، انطلاقا من الحركات الإصلاحية التي عرفتها أروبا ثم أمريكا، مرورا بالحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي المتأثرة بأفكار الثورة الفرنسية والفكر الغربي على العموم، الذي يجعل غايته الكبرى هو تحقيق حياة سعيدة للإنسان على وجه الأرض، ويجعل وسيلته في ذلك رفع الإنتاج وتحسين ظروف العيش، وصولا إلى الشعوب العربية اليوم المطالبة بالإصلاح والتغيير –أي تغيير-، رغم اختلاف مذاهبها السياسية، وتعدد مشاربها الفكرية، من أحزاب علمانية، أو حركات إسلامية، لكنها كلها تجمع على التغيير والإصلاح بتحقيق العدل في تقسيم الثروة، ومحاربة الاحتكار، وتحسين ظروف العيش.
ولا شك أنها مطالب حق، تميل إليها الفطرة، ويساندها العقل، فمن ذا الذي يقبل الظلم، أو لا يحب العدل والحرية والكرامة؛ لكن مع غض الطرف عما يراد بكل كلمة من هذه الكلمات، كيف السبيل إلى تحقيق ذلك كي يتأتى لنا وللبشرية جمعاء الوصول إلى إصلاح حق، كما يحبه الله ويرضاه، لا كما تحبه أهواءنا، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، قال الله تعالى: ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ، بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)).
عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، هم المنافقون. أما"لا تفسدوا في الأرض"، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية[7].
أما المصلحون من أهل زماننا فهم أحدهم رفع الإنتاج وتحسين ظروف العيش، وحديثهم عن الدخل الفردي والقومي المتدني، ومشاكل الزراعة والصناعة والتجارة، وسبل الخلاص من ذلك؛ و لا أعني بذلك التزهيد في هذه الفنون وعلومها، فإن الله خلق الأشياء وخلق لها أسبابها، ولكن عيب القوم ما وصفهم الله تعالى به أنهم: ((يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)).[8]
فهم لا يعلمون، أو يعلمون ولا يريدون أن يؤمنوا بأن الأزمات الاقتصادية والسياسة، والمصائب التي يسمونها كوارث طبيعية، لها أسباب أخرى غير النينيا أو الننيو[9]، ولا التضخم المالي[10]، أو ما سوى ذلك من التفسيرات المادية، إنما السبب الأصل هو ما أخبر به الله تعالى في كتابه الحكيم: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون))[11]، قال ابن كثير عند تفسير الآية: ومعنى قوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } أي: بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي، وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة؛ ولهذا جاء في الحديث...: " حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا "[12]، والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت، انكف الناس -أو أكثرهم، أو كثير منهم -عن تعاطي المحرمات، وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محق البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام، في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت، من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية، وهو تركها -فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض: أخرجي بركاتك. فيأكل من الرمانة الفئام من الناس، ويستظلون بقحفها، ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس[13]. وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير.(انتهى كلام ابن كثير)، والله تعالى يقول: ((إن الشرك لظلم عظيم)).
فيا ليت قومي يعلمون، أم أنهم لا يعقلون؟ فهذا كتاب مبين من رب العالمين، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وزاده بيانا على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو يبين سنن الله في خلقه، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن -وأعوذ بالله أن تدركوهن- ... لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"[14].
هذه تذكرة للذين يؤمنون بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وربما تكون أصابتهم سنة الغفلة، وغرتهم الحياة الدنيا، وتأثروا بأهلها، ولكنهم إذا ذكروا تذكروا، وإذا نصحوا انتصحوا، ندعوهم أن يصلحوا الدنيا بنشر الإيمان فيهاكل على قدر استطاعته، ويربوا أنفسهم ومن ولوا أمره على طاعة الله تعالى، والابتعاد عن معصيته.
أما من رضي بالحياة الدنيا، وجعلها غايته، واختار التجارب البشرية مصدرا للتشريع، ويفسد ويزعم أنه يصلح، فنقول لهم ما قال الله تعالى: ((إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)))[15].


[1] - رواه مسلم، حديث رقم: 208.

[2] - السلسلة الصحيحة، حديث رقم: 1273.

[3] - رواه الطبري في تفسيره، وحسنه أحمد شاكر.

[4] - لاتعارض بين كلام سلما ن وغيره كما بين ذلك الطبري نفسه في تفسيره حيث قال: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية:"ما جاء هؤلاء بعدُ"، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ.

[5] - سورة:فاطر/ الآية :24.

[6] - صحيح الجامع/ حديث رقم: 1874.

[7] - رواه الطبري في تفسيره، وحسنه أحمد شاكر.

[8] - سورة الروم/ الآية:7.

[9] - تحدث ظاهرة (El Nino) نتيجة لتغير مؤقت في مناخ المنطقة الاستوائية بالمحيط الهادي، الذي يُحدث بدوره تأثيرات متباينة على مناطق كثيرة في أنحاء العالم من جفاف وحرائق للغابات، وأمطار غزيرة وسيول وفيضانات .

[10] - يعتبر التضخم، كظاهرة اقتصادية، يتمثل في انخفاض أو تدهور [COLOR=window****]القيمة[/COLOR] الشرائية للنقود. وهذا التعريف لا يخرج عن النظرة إلى التضخم كنتيجة حدثت بالفعل لسبب محدد. أما التعريف الثاني: يرّد ظاهرة التضخم إلى ارتفاع الأسعار بشكل مستمر. وعند الأخذ بالتعريف الثاني فإن التضخم كظاهرة يصبح أكثر تعقيداً من التعريف الأول. وفي الحالة الثانية ينصب البحث عادة على العوامل الديناميكية المتغيرة التي تحرك الأسعار باستمرار نحو الأعلى. وحسب هذا المفهوم يرجع التضخم إلى خلل في جهاز الإنتاج وعدم مرونته وكفايته للوفاء باحتياجات المجتمع من السلع والخدمات. ومن ثمّ فهو لا يعبر عن ظاهرة نقدية بحتة كما درجت على ذلك المفهومات الشائعة عن التضخم بقدر ما يعبر عن مجموعة من الاختلالات الهيكلية الكامنة في قطاعات الاقتصاد الوطني/ الموسوعة العربية: http://www.arab-ency.com/index.php?m...ay_term&id=930.

[11] - سورة الروم/ الآية:41.

[12] - خرجه الألباني في السلسلة الصحيحة/ رقم:231، و اللفظ المثبت أعلاه هو لفظ ابن ماجة، وهو غير اللفظ الذي ذكره ابن كثير في تفسيره.

[13] - انظر صحيح مسلم/ حديث رقم:2937.

[14] - السلسلة الصحيحة/ حديث رقم: 106.

[15] - سورة النجم.