* براءة ياقوت من تهمة التعصب ضد عليٍّ – رضي الله عنه - :

ياقوت ممن يحب قراءة الكتب والتمعن فيها , ولم يقف عند قراءة نوع معين من الكتب ولم يحبس نفسه في بوتقة واحدة من بوتقات علوم اللغة العربية , بل قرأ في كل المجالات التي أُتيحت له , ومن الكتب التي قرأ فيها ياقوت " كتب الخوارج " ومن المعروف أنهم متعصبون ضد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ولعله اقتنع بما قرأه حيث علقت كتاباتهم في ذهنه وتأثر بهم فتعصب ضد من يتعصب لعلي بن أبي طالب , حيث حدثت في دمشق مناظرة بينه وبين أحد ممن يتعصب لعلي – رضي الله عنه – وكان ذلك الرجل بغداديًّا , فذكر ياقوت عليًّا بما لم يرضَه الرجل ومن معه , فكاد الناس يقتلونه فنجا , ولكن الوالي قد طلبه فهرب من دمشق وتجنب البلد التي فيها من ناظره فذهب إلى حلب ومنها إلى الموصل ثم إلى بلاد أخرى كثيرة , وقد ذكر معظم من ترجم لياقوت تعصبه ضد علي , فها هو ابن خلكان , يقول :

" وكان متعصبًا ضد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وكان قد طالع شيئًا من كتب الخوارج , فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي , وتوجه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها وناظر بعض من يتعصب لعلي – رضي الله عنه – وجرى بينهما كلام أدَّى إلى ذكر عليًّا – رضي الله عنه – بما لا يسوغ "(1) .

ونقل ابن العماد هذا الخبر دون أن يعلق عليه(2) .

وها هو الدلجي , يقول : " اتفق له مرة أنه تنقَّص عليًّا – رضي الله عنه – فثار عليه الناس وكادوا يقتلونه فهرب إلى حلب "(3) .

هذا , ولعلَّ ياقوتًا قد رجع عن موقفه ضد علي بن أبي طالب وعدَلَ عن التعصب ضدَّه , والأرجح أنه لم يكن متعصبًا ضد أمير المؤمنين عليّ من الأصل وأنَّه كان متعصبًا ضد من يتعصب له أو لأهل البيت وهم الشيعة بالطبع وليس ضده هو – رضي الله عنه - .

وقد جمعت ما يدل على ذلك من كتابات ياقوت نفسه ومن كتابات غيره , وسأبدأ بكتاباته أولا .

يقول ياقوت في الفصل الأول من " معجم الأدباء " الذي وضعه في فضل الأدب وأهله وذم الجهل وحمله :

" قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - ....." .

وذكر في موضع آخر " وقال رضي الله عنه ..." .

وقال : " قال كرَّم الله وجهه ........." .

وقال : " وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "

فهل هذا كلام يقوله أحدٌ متعصب ضد أمير المؤمنين علي ؟! , فقد اعترف له بإمارته للمؤمنين , واعترف بتكريم الله لوجهه , ودعا له بالرضا من الله , وقد ورد ذكر علي بن أبي طالب في مواضع أخرى كثيرة من الكتاب , وليس فيها أدنى تجريح أو تعصب ضدَّه , بل قد ترجم له ياقوت في معجمه في الترجمة رقم ( 784 ) الواردة في الجزء الرابع , فلو كان متعصبًا ضدًّه لتجاهل ذكره , والناظر في ترجمته لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – نظرة متفحصة يجد قدر تعظيم ياقوت لعلي , فيقول :

" أخباره عليه السلام كثيرة وفضائله شهيرة إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب مستحسنها كانت أكبر حجمًا من جميع كتابنا هذا "(4) .

وحقيقة لم يكن ثناء ياقوت على عليّ – رضي الله عنه – من جرَّاء خوفه من القتل على أيدي الشيعة , فصاحبنا كان شحيحًا بكتابه هذا على كل من طلبه ولم يطَّلع أحد عليه , فلا داعي إذن أن ينافق ياقوت , كما أنه قد عارض الشيعة وجهًا لوجه وذكر رأيه في مذهبهم بكل جرأة فهل يخاف إذن من أن يذكر ذلك في كتاب لم يره أحد إلا بعد وفاته ؟!!!

وقِصر ترجمته – رضي الله عنه – الموجودة في معجم الحموي لا تدل على التعصب ضدَّه , لكن السبب في قِصَر هذه الترجمة أنَّ ياقوتًا يتناول في معجمه فئات معينة . فكما قُلنا هو من المعاجم المتخصصة , فهو يتناول بالذكر الأدباء فقط , وسيدنا علي من أولئك الأدباء لذا ورد ذكره . لكن فضائله ومناقبه كثيرة ومتناولة بين أيدي الناس , وبالطبع مكانها ليس معجم الحموي , بل المكان المُناسِب لها إمَّا كتب السيرة المفردة , أو كتب المناقب والفضائل أو كتب السير والمغازي , وقد وضَّح ياقوت هذا في مُبْتَدَأِ حديثه عن علي – رضي الله عنه - حيث , قال : " وأخباره عليه السلام كثيرة وفضائله شهيرة إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب مستحسنها كانت أكبر حجمًا من كتابنا هذا " , كما أن من عادة المؤرخين عندما يتناولون المشهورين من الناس ألا يُفرطوا في ترجمتهم , بل ومنهم من يكتفي بذكر اسمهم فقط .

ومن العلماء القدماء من نظر للأمر بعين متفحصة وبموضوعية ولم ينقل الخبر دون تعليق , فها هو ابن حجر العسقلاني بعد أن نقل خبر تعصبه ضد عليّ – رضي الله عنه - يقول :

" ولم أرَ في شيء من تصانيفه التصريح بالنصب بل يحكي فضائل علي على ما يتفق"(5) .

ومن المحدَثين من فسَّر كلمة " كان منحرفًا " تفسيرًا منطقيًّا بعيدًا عن النقل الأعمى , فيجيء الدكتور عمر عبد السلام تدمري في هامش تحقيقه لتاريخ الإسلام , يقول عن معنى تلك الجملة : " أي كان متحرفًا عن التشيع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه "(6) .

وقد لعن ياقوت ابن مُلْجَمْ قاتل أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب , يقول في معجم البلدان : " قال عبد الله بن مالك : جُمِعَ الأطباء لعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - لما ضربه ابن ملجم , لَعَنَهُُ الله تعالى "(7).

لذا فياقوت لم يكن متعصبًا ضد علي – رضي الله عنه – أبدًا بل في جنبات كتبه ما يدل على حبه له وحبه لآل البيت , لكنه ممن لا يميلون إلى التعصب لعلي , أقصد التعصب الزائد عن الحد الذي يوقعنا في مغبَّة سبِّ الصحابة , وقذف أمهات المؤمنين بالزنا مثلما يفعل غلاة الشيعة - قاتلهم الله - فكلنا نحب عليًّا فهو سيدنا وابن عم سيدنا , وكلنا نتعصب لأهل البيت ونحبهم , لكن دون المساس بغيرهم والسب للصحابة الكرام الأطهار.





*****

(1)" وفيات الأعيان " لابن خلكان : 6 / 127 – 128 .

(2)" شذرات الذهب " ابن العماد الحنبلي : 5 / 121 .

(3)" الفلاكة والمفلوكون " الدلجي : 12 .

(4) " معجم الأدباء " ( 4 / 1809 ) , ترجمة رقم 784 .

(5) " لسان الميزان " ابن حجر : 6 / 239 .

(6) " تاريخ الإسلام " الذهبي : 45 / 266 , تحقيق عمر عبد السلام تدمري .

(7)" معجم البلدان " ياقوت الحموي " : 1 / 93 , طبعة دار صادر بيروت – لبنان 1397هـ - 1977م .