من سورة الجن مع الآية 17
قال تعالى: ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ الجن: ١٧
هذه الآية، هي من الآيات التي حذرت من الإعراض عن القرآن ومغبة عدم اتباع تعاليمه مثل ما سبق من آيات في هذا الموضوع. ولقد وردت في السياق التالي:
قال تعالى :} وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} * {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} * {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} * {وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُون َ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} * {وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} * {وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} * {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}
في تفسير ابن كثير نقرأ شرح الآيات: يقول تعالى مخبراً عن الجن: أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي: غير ذلك { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي: طرائق متعددة مختلفة، وآراء متفرقة، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي: منّا المؤمن، ومنا الكافر. وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه: حدثنا أسلم بن سهل بحشل، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان، وهو أبو الشعثاء الحضرمي شيخ مسلم، حدثنا أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تروح إلينا جني، فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال: الأرز، قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحداً، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزِّي فقال: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال: سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد:
قُلوبٌ بَراها الحُبُّ حَتَّى تَعَلَّقَتْ
مَذاهِبُها في كُل غَرْبٍ وشارِقِ
تَهيمُ بِحُب اللّهِ واللّهُ رَبُّها
مُعَلَّقَةً بِاللّهِ دُونَ الخَلائِقِ
وقوله تعالى: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِى ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي: نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنّا في الهرب، فإنه علينا قادر، لا يعجزه أحد منّا، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ ءَامَنَّا بِهِ } يفتخرون بذلك، وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة، وقولهم: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: فلا يخاف أن ينقص من حسناته، أو يحمل عليه غير سيئاته؛ كما قال تعالى: { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [طه: 112] { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُون َ وَمِنَّا ٱلْقَـٰسِطُون } أي: منا المسلم ومنا القاسط، وهو الجائر عن الحق، الناكب عنه، بخلاف المقسط؛ فإنه العادل، { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي: طلبوا لأنفسهم النجاة، { وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي: وقوداً تسعر بهم.
وقوله تعالى: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَـٰهُ مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين:
[أحدهما] وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام، وعدلوا إليها، واستمروا عليها، { لأَسْقَيْنَـٰهُ مَّآءً غَدَقاً } أي: كثيراً، والمراد بذلك سعة الرزق، كقوله تعالى:
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة: 66] وكقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] وعلى هذا يكون معنى قوله: { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم، كما قال مالك عن زيد بن أسلم: لنفتنهم: لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية. [ذكر من قال بهذا القول] قال العوفي عن ابن عباس: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم ْ } يعني بالاستقامة: الطاعة، وقال مجاهد: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } قال: الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء والسدي ومحمد بن كعب القرظي، وقال قتادة: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم ْ } يقول: لو آمنوا كلهم، لأوسعنا عليهم من الدنيا. وقال مجاهد: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } أي: طريقة الحق، وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنبتليهم به. وقال مقاتل: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.
[والقول الثاني] { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ }: الضلال { لأَسْقَيْنَـٰهُ مَّآءً غَدَقاً } أي: لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً؛ كما قال تعالى: } فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ{ [الأنعام: 44] وكقوله:
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ {
[المؤمنون: 55 - 56] وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد، فإنه قال في قوله تعالى : { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } أي: طريقة الضلالة، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان، وله اتجاه، ويتأيّد بقوله: لنفتنهم فيه. وقوله: { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي: عذاباً مشقاً شديداً موجعاً مؤلماً، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد: { عَذَاباً صَعَداً } أي: مشقة لا راحة معها، وعن ابن عباس: جبل في جهنم، وعن سعيد بن جبير: بئر فيها.